لا يمل الفنان التشكيلى محمد عبلة من التجريب ورسم موضوعات لها علاقة بالبشر والمكان، وفى معرضه الجديد بقاعة الفن بالزمالك «أبراج القاهرة» نحى البشر جانبا وركز على المكان ورسم أبراج وعمارات القاهرة التى أصابتها فوضى معمارية وبصرية أثرت على التكوين الجمالى لهذه المبانى التى كانت فى يوم ما نموذجاً للجمال. عبلة يحذر من هذه الفوضى بالتركيز على التشوه الذى حدث لمبانى القاهرة والثغرات التى وقعت فى المجتمع، ومع هذا جاءت اللوحات متميزة على مستوى الشكل الجمالى وكشف عن ارتباط الناس الآن بمبانيها ويترك مساحات أمل لإصلاح الفوضى التى تضرب فى مبانى العاصمة ففى رأيه أن الفن لا يقدم حلولاً وإنما يعرض المشكلة بأمانة ويترك الحلول للقائمين عليها. ويقول عبلة أنه فى مرسمه بوسط القاهرة يرى المدينة تمتد أمامه بشوارعها ومبانيها، وفى كل مرة يختار أحد المبانى ليعيش معه ويسرح متخيلا ما عاصره من أحداث وتغيرات تعبر عن فعل الزمن وأفعال الناس مضيفاً أن تلك الإضافات الدائمة من الألوان والأشكال حولت المبانى مع الوقت إلى كائنات حية تروى له مئات الحكايات وتكشف مئات الأسرار بعد أن تجمعت أمامه عشرات المبانى التى جالسها و تحاور معها وأعاد صياغتها وتنظيمها ولكنها قادته إلى التساؤل عن القدر التى تقودنا إليه تلك المدينة وإلى أين نأخذها نحن، وهل من سبيل لإنقاذها وإنقاذنا؟ عبلة يرى أن هذا المعرض معايشة لمبانى مدينة القاهرة بأماكنها المتعددة من وسط البلد إلى المحور وليست مبانى وسط البلد فقط فقد تجول فى بيوت القاهرة ودخلها وصورها وتعايش معها ليحس بروح المكان وتتقمصه تلك الروح، وكان يريد أن يوصل رسالة محددة هى التشوه الذى أصاب العاصمة على اعتبار أن أبراج القاهرة تعبر عن ساكنيها وتكشف عن سلوكيات الناس وترصد التغيرات التى وقعت فى المجتمع وتعبر عن فوضى المكان والبشر معاً، بمعنى أوضح قراءة فى تغيرات الإنسان من خلال المبانى وتعدد أشكالها ومناظرها والفوضى البصرية واللونية التى نعانى منها. وعلى الرغم من قتامة الرؤية الفكرية للفنان محمد عبلة إلا أن لوحاته المرسومة جاءت متميزة على مستوى الشكل الجمالى وهنا يؤكد عبلة أن الفن جميل وأحد أغراضه البحث فى الجمال ونحن فى النهاية أمام لوحة قوامها الخط واللون والمساحة وفيها قيم جمالية كما أن اللوحات ليست صورة طبق الأصل من الواقع بل إنه أضاف وغير وحور وتخيل لأنه أراد أن يحذر من أننا لا نحترم العمارة ونبنيها بأداء عشوائى وتمنى أن نفيق ونقضى على هذه الفوضى والعشوائية فى عمارتنا من خلال التفاهم والحوار، ومعظم اللوحات صاعدة إلى السماء ربما رغبة فى الاتصال بقيم سماوية بحثاً عن حلول حتى فكرة التسلق فى اللوحات لهامعنى إيجابى يتصل بالارتقاء وسعى البشر للصعود لأعلى، ومعنى سلبى يتصل بالصعود على أكتاف الآخرين. والاشتباك مع الواقع كان أساس العمل عندى كما يقول عبلة فمهما كانت هناك لوحات تجريدية أو سريالية بالمعرض فإن أساسها واقعى جداً، وتعدد الألوان فى اللوحات كان مقصوداً لأن المدينة ممتلئة بالتعديات اللونية والبصرية وكان التحدى بالنسبة لى كيف أوجد حواراً بين كل هذه الألوان بحيث تبدو متناسقة وبها درجة من الجمال البصرى. وقال عبلة أنه سعيد بهذا المعرض ورد الفعل الإيجابى عنه خاصة أنه أرضى بداخله فكرة البناء التى يعشقها فضلاً عن ارتباطه بالأماكن التى رسمها لأنه مقتنع بأن الأماكن تناديه حسب اهتماماته بالفن، وصحيح أن وسط القاهرة كانت المدخل عند تفكيره إلا إنه انطلق إلى أماكن أخرى بالقاهرة ليرصد ما يحدث فى عماراتها ومبانيها وسلوكيات البشر بها والتأكيد على أن هذه المدينة تخصنا وينبغى علينا أن نصلحها ونعيدها إلى ثرائها العمرانى. وينبغى أن نتذكر أن عبلة لا يبدأ الرسم إلا بعد استعداده جيداً فهو يشغل نفسه بالموضوع قبل رسمه بحيث يكون «شايف اللوحة أمامه» ويكون هو فقط أداة للتنفيذ ولهذا فهو يرسم سريعاً وكثيراً ما ينتهى من اللوحة فى جلسة واحدة، ويستغل نجاحات سريعة وأحياناً ما يبتكر طرق أداء تعينه على الانتهاء من لوحاته فى زمن قليل، ومعظم أعماله ينفذها بخامة الإلربليك وخاصة الزيت.