عرفت «على» منذ أكثر من عشرين عاماً، كان قد تخرج فى كلية الصيدلة، وبدأ العمل فى إحدى الصيدليات الخاصة، براتب لا يتجاوز مائتى جنيه شهرياً، عن عمل سبعة أيام فى الأسبوع، 12 ساعة على الأقل فى اليوم، وفى أحيان كان يضطر للخروج لتوصيل الدواء «دليفرى» إلى المنازل بنفسه. اعتدت رؤيته كل عدة أيام بعد منتصف الليل حينما ينهى عمله، يحضر إلى بيتى ليشكو من ضيق الحياة وصعوبتها، وكيف أنه بعد 17 عاماً فى الدراسة، منها خمس سنوات فى كلية الصيدلة، لم ير فيها الشارع، تحول إلى مجرد بائع دواء.. وكان يحلو له القول «أنا بقال بس شيك»!.غاب «على» عن الحضور عدة أشهر فمررت على منزله فى السيدة زينب للاطمئنان عليه، قالت والدته أنه ترك العمل فى الصيدلية، وانتقل كمندوب مبيعات فى شركة أدوية، وبدلاً من العمل 12 ساعة، أصبح 14 ساعة، لكن راتبه أصبح 400 جنيه ونسبة من المبيعات، سلمت على والدته وانصرفت. بعد نحو عام عرفت أن «على» بدأ يعمل لحسابه، كان يشترى أدوات تجميل يجرى تهريبها من الصين، ويبيعها بنفسه على الصيدليات، لكنه ترك منزل والدته وانتقل إلى شقة مفروشة فى العجوزة.. وبعد فترة أجر شقة أخرى وحولها إلى مكتب وأصبح لديه عشرات العاملين من شباب الصيادلة الذين يعملون كمندوبىِ مبيعات أدوات تجميل فى شركته التى أخذت تكبر من يوم لآخر.. مرت سنوات لم أر فيها «على» حتى فوجئت بصورته فى الصحف، أصبح «على» يمتلك مئات الملايين من الجنيهات وشركات ومصانع أدوية ومستحضرات تجميل ومنشطات جنسية، انضم لحزب سياسى وترشح لعضوية مجلس الشعب وصار نائباً فى البرلمان. وفوجئت باتصال تليفونى على الجريدة التى أعمل بها:أنا على - على مين؟ - على بتاع زمان! - ضحكت ضحكة مكتومة، فعلى بتاع زمان لم يعد له وجود.. الموجود الآن هو على بك! أيوه يا على بك - تعدى علىَّ فى شركتى بكرة مستنيك ضرورى. لا أعرف ماذا يريد على، فكرت فى عدم الذهاب، صحيح بيننا عشرة عمر، وعلاقة قديمة، لكن سنوات طويلة مرت، هو تغير.. وأنا كذلك.. لم يعد كما كان.. ولم أعد كما كنت.. غلبنى الفضول فى النهاية قررت معرفة ماذا يريد منى «على» بعد هذه السنوات؟ الشركة تحتل عدة طوابق فى مبنى فخم يطل على النيل فى الجيزة، منذ دخولى من الباب الرئيسى، لاحظت اهتماماً غريباً: - محمد بك.. على بك فى انتظارك!مكتب على الشخصى وليس الشركة بمساحة الشقة التى أسكن بها، صالونات وأنتريهات، ومائدة اجتماعات، وتحف وزهور ونباتات طبيعية لم أشاهدها من قبل، رغم أنى من هواة النباتات. - أهلا يا محمد وحشتنى - أهلا يا على إيه اللى فكرك بى! - ما رأيك فى الشركة؟ - ربنا يباركلك فيها - المهم أنا داخل على شغل كبير ومرحلة مهمة فى حياتى، ومحتاج حملة علاقات عامة كبيرة، وترويج فى الصحف والتليفزيونات، وفكرت بدلاً من التعاقد مع شركة متخصصة تقوم بالمهمة، صحيح الراتب الشهرى ليس كبيراً لكنه بداية وهناك أشياء أخرى.. وبعد اعتذارات قال: كويس خمسين ألف جنيه؟ - فى الحملة؟ - لا.. فى الشهر.. دى بداية - لم أعرف ماذا أقول.. بعد عشرين عاماً من العمل الصحفى كان أكبر مبلغ تقاضيته فى يدى مرة واحدة هو خمسة آلاف جنيه عن عمل صحفى نشر على عدة حلقات فى صحيفة عربية واستغرقنى العمل والكتابة عدة أشهر.. دارت بى الدنيا.. فكرت فى زوجتى لحظة تلقيها الخبر.. أخيراً يمكن أن نشترى شقة أو شاليه، فى أى قرية سياحية بالتقسيط.. وأتخلص من سيارتى التى مضى عليها عشرون عاماً وأشترى سيارة موديل العام. أفقت من أحلامى.. ولم أر كثيرا وقلت: أشكرك يا «على» العرض مغرِ فعلاً، لكن أنا لا أستطيع التخلى عن الصحافة، ولا أتصور أن أعمل فى غيرها -- هتفضل طول عمرك فقرى - رديت: الفلوس لها ناسها.. والفقر ليه ناسه.. خليك فى فلوسك.. وخلينى فى فقرى!!!؟