يبدو أن مشاكل العالم الثالث متشابهة في كثير من الأحيان، وعندما أقرأ قصة من مكان ما في هذا العالم أجد مثلها في المعني في مكان آخر.. ويبدو أنه وإلي الآن.. لا نعرف هل ستظل شعوب العالم الثالث تنتظر الأفضل.. والأحسن.. وتقول إن «الناس الجميلة لم تولد بعد»؟ وهذا عنوان لرواية أفريقية كتبها الكاتب الغاني «كيوي أرما»..كتبها في فترة فساد الحياة الاجتماعية في «غانا» ونجاح الوصوليين في الوصول إلي السلطة في فترة ستينيات القرن العشرين.. نقدم جزءاً منها.. كانت ألحان الكونجو الحزينة تخرج من نافذة أحد المنازل الصغيرة المتلاصقة. وقف الرجل أمامها ونظر إلي الحجرة علي الفراش رجل عارٍ يقرأ.. ذهب إلي الباب طرقه ودخل. نظر إليه الرجل العاري ثم عاد لقراءته. أدار مؤشر المحطات إلي أن وضح الصوت.. راديو غانا.. وكانت أغنية عن حياة الترف.. جلس الزائر خلف المكتب وتعمق شعوره بالحزن. ماذا يصنع العالم من حوله؟! يقولون إنه يوجد نوعان من الرجال يلجآن إلي الأمانة الجبناء والأغبياء ،وهذه الأيام يعتريه هذا الشعور الأليم إنه خليط يائس من الاثنين معاً.. هو الرجل الذي يرفض المغامرة بحياته ومع ذلك يشعر بعيون المقربين إليه تحدق فيه هذه النظرات التي تجعله يخاف ويشعر أن الأمانة ليست إلا خطيئة اجتماعية. تنهد الرجل العاري. أغلق الكتاب والراديو. جلس وسأل الزائر هل هو هارب من السلام العائلي مرة أخري؟! هز الزائر رأسه موافقاً وقال إن زوجته سخرت من قلة نفعه عندما أخبرها أنه رفض رشوة كبيرة لإنجاز عمل مخالف.. قال الرجل العاري: ألا ينتظر التسامح من عائلته، فالناس تريد الكثير الآن.. «فهل تندهش عندما تغضب ناسك لأنك لم تسلك الطريق الوحيد المفتوح أمامهم!»... قال الزائر إنه يشعر كأنه مجرم ويسأل نفسه ماذا فعل من خطأ؟!.. قال الرجل العاري «ربما لأنك لا تستطيع أن تكذب وتخاف أن تسرق.. أنت لم تفعل كما يفعل الناس الآن والعالم يعتبر هذا جريمة».. قال الزائر «أنت الرجل الحر الذي أعرفه لقد هربت من نداء أحبابك» قال الرجل العاري: «نعم هربت لكني لست حراً.. أحياناً تأتيني الرغبة في العودة إلي الذين هربت منهم تأتيني بقوة غير محتملة. ثم أري مرة أخري الأذرع المحبوبة تحتضنني وتهديني هدية الموت فأتوقف وأعود إلي حياة الوحدة.. كما تري لا يوجد خلاص في أي مكان».. قال الزائر: «زوجتي تظن إنه يوجد وتتحدث عنه في ضوء المنازل الجديدة ولمعة السيارة المرسيدس والروائح العطرية الغالية وضخامة باروكة الشعر الطبيعية».. قال الرجل العاري: «تعني المال» قال الزائر: نعم يا معلم ،المال والسلطة أيضاً وكل هذه الأشياء تجتمع الآن في شخص كومون. رد عليه بسخرية «احذر يا رجل فالأسماء الكبيرة لا تقال مجردة.. صاحب السعادة جوزيف كومون الوزير السياسي المطلق الصلاحية.. أليس هو صاحب المقام الرفيع الذي تعنيه؟» قال الزائر إن زوجته وأمها تظنان إنه سيجعلهما أغنياء، وإنه سيشتري لهما عدة مراكب صيد يعرف طبعاً صلتهما بي، وأراد أن يذلني أو يشتغلني.. فكيف أجلس وأراقب هذا الرجل الذي يشتغل الناس؟ قال له الرجل العاري إنه لم يستطع أن يثيرهما فليدعهما يحاولان وإذا منعهما سيحصل علي عدوين ملاصقين له طول حياته. قال الزائر: إن كومون هذا كان زميله في الدراسة لم يكن ذكياً كان في الواقع غبياً فضحك الرجل العاري وقال : ربما حصل علي عقل جديد! رد عليه الزائر: «العقل الجديد حذائي لكن هذا لا تراه زوجتي وأمها، يجعلاني أشعر إنني مجرم» قال الآخر: إنهما فقط يشجعانك علي أن تتقدم. قال الزائر: زوجتي شرحت لي أن الحياة مثل مجموعة طرق مختلفة، وأن الرجل الناجح مثل هؤلاء الذين يقودون السيارات في هذه الطرقات، والذي يريد أن يذهب بعيداً عليه أن يقود بسرعة وأن الخوف من الحوادث لا يمنع الرجال من السواقة.. وأن كومون تعلم كيف يسوق بسرعة .. ألا تري الحقيقة فيما تقوله زوجتي؟! ضحك الرجل العاري وقال إنه رآها واضحة هكذا وقضي وقتاً في الهرب منها.. رد عليه الزائر «مُعلمي لقد اخترت أن تكون وحيداً».. قال :أعرف أنه اختياري وإذا كنت تظن أنني سعيد بحياتي هذه فأنت لا تدري شعوري الداخلي.. كانت لي آمال كثيرة.. واستلقي الرجل العاري علي الفراش وفتح الراديو.. ملأت الحجرة موسيقي من مكان بعيد. صمت الزائر. كل منهما سرح في آماله الكثيرة.. كل منهما ليس متشائماً تماماً من الوضع الحالي لوطنه.. كل منهما يفكر بشيء من الأمل... - نصعد للقمر وهذه قصة قصيرة من تركيا في فترة بعد تحررها وإعلان الجمهورية وما تبع ذلك من انقلابات وثورات.. كتبها كاتب تركيا الساخر «عزيز تسين» بفكرة أن الناس الجميلة ربما يجدها في القمر! وفي حلم ثقيل بعد عشاء دسم في بيته أمام المدفأة صعد للقمر.. وتبدأ قصته الساخرة: لا يمكن أن يكون كل شيء وقفا علي أمريكا، لابد أن يكون لدينا أيضاً، فما ينقصنا حتي نكون مثلهم. وها هي قد تأسست عندنا جمعية الذاهبين إلي القمر.. وطالما لم أتمكن من السفر إلي أي مكان داخل وطني أو خارجه فلا أقل من أن أسافر إلي القمر وأصبحت عضواً في الجمعية.. شعر الكاتب أن بدنه امتلأ بدخان وغازات وبدأ في الطيران كالبالونات الملونة التي انقطعت خيوطها.. ارتفعت، صعدت أولاً فوق أسعار الخشب ثم علوت علي إيجار المساكن، ثم حلقت فوق آفاق السوق السوداء. وبعد أن تخطيت عنان السماء شعرت وكأن الغازات بداخلي بدأت تتسرب من الثقوب والخروم في جسدي. مصيبة.. كنت كالمخمور الذي سقط من كرسي السلطة والإقبال ولن يكون سعيداً إذا اصطدمت مؤخرته بالأرض!.. لقد أصبح جسدي مخرماً.. ثقوب الديون غطت كل جسدي.. وهموم الصرف ومطالب العيش، كلما أغلقت ثقباً انفتح ثقب آخر.. صرخت أطلب النجدة ليساعدني أحد .. سأسقط!. وسمع صوتاً يخبره أنه من دولة القمر ويرسلون له جوالين من دخان قطار مؤسسة المساعدات.. فارتفع فجأة بالمساعدة ووجد نفسه في القمر، حوله ناس يشبهوننا أخذوه في مركبة غريبة إلي مدينة كبيرة بها مبان شاهقة.. كلما أراد أن يتكلم يصده رجال القمر. «هنا ليست دنياكم، ليس لدينا وقت نضيعه في الكلام».. قادوه إلي «جامعة القمر» وإلي مدرج كبير في اتساع الاستاد الرياضي، مكتظ كما هو الحال في مسابقاتنا الكروية، ولكن الفرق أنهم لا يصيحون أو يهتفون، بل كانوا يجلسون في صمت وسكينة.. دفعوه إلي المنصة حيث كان الأستاذ يتحدث فأشار إليه وقال: «ها أنتم ترون واحداً من حيوانات الدنيا الذين تحدثت عنهم في محاضرات سابقة وها أنذا أكرر علي مسامعكم كيفية إنشاء الدنيا.. «يقصد كوكب الأرض» تحدث الأستاذ أنه قد تكاثر علي سطح القمر قبل خمسين ألف سنة ضوئية آلاف من المجانين وأصحاب السوابق، والمخرفين، كانوا يفسدون أخلاق الصغار وتمكنوا من إضلال العقلاء فاتخذ ناس القمر إجراءات كثيرة لم تنفع لعزلهم عن المجتمع القمري الآمن.. وليطهروا ناس القمر من شرورهم فقد قذفوا بهم إلي مكان بعيد.. في الفراغ.. وصارت هذه الدنيا «يقصد الأرض» وقطعوا كل الصلات بهم.. يعني الدنيا.. أو الأرض أصبحت مستشفي أمراض عقلية للقمر.. اختلط بالمجانين بعض العقلاء، ومن حين لآخر يصادف في الدنيا.. أو الأرض أطفال هؤلاء العقلاء، لكن مجانين الدنيا ومخربيها يزجون بهؤلاء العقلاء إلي المصحات بتهمة الجنون!! صاح المستمعون.. اشنقوا رجل الدنيا إنه ميكروب.. وهجم عليه جمع منهم.. التفت الأيدي حول رقبتي، وكان آخر نفس يخرج من حنجرتي.. امتدت يد إلي هزتني وقالت ابنتي : بابا شخيرك يعلو.. فتحت عيني فقد كنت مستغرقاً في النوم أمام المدفأة استنشقت نفساً عميقاً وقلت.. يااااه .. كانت هناك دنيا.. - لقد كتب «عزيز نسين» هذه القصة أيضاً في فترة ستينيات القرن الماضي تماماً مثل وقت رواية الكاتب الأفريقي «كيوي أرما» وبالرغم من أن الرواية انتهت بانقلاب قضي علي رموز الفساد مثل السياسي كومون إلا أنه أثناء هروبه من بلده قرأ يافطة مكتوبة بحروف إنجليزية واضحة في شكل بيضاوي «الناس الجميلة لم تولد بعد» وفي وسط الشكل زهرة غير محددة وجميلة جداً.. أما الكاتب التركي «عزيز نسين» الذي صعد إلي القمر بفكرة وجود الناس الجميلة هناك فكان حلمه مثل الكابوس.. ومن هذه الرؤية الأدبية.. أتساءل.. هل الناس الجميلة كانت واندثرت.. أم.. أنها لم تولد بعد؟! في السؤالين شيء من التشاؤم والأفضل لنفهم أن الناس الجميلة حقيقة موجودة في كل زمان ومكان، والذي يريد أن يجدهم يحتاج لبعض الفهم فالضباب الفاسد لا يمكن أن يخفي الحقيقة طول الوقت..