من الكتب المحببة جدا إلى قلبى للراحل العظيم «يحيى حقى» تحفته الرائعة : «تعالى معى إلى الكونسير». من بين صفحات الكتاب الموحية بالأنغام انتقيت أقوالا له عن المايسترو أو قائد الأوركسترا، فأروع الألحان وأمهر العازفين من الممكن أن تتشتت بينهم الموسيقى إن لم يقدهم قائد يجيد عمله، حيث يقول يحيى حقى : «لا أوركسترا بلا قائد». قبل وصول قائد الأوركسترا يصف يحيى حقى لحظة ترقب الفرقة الموسيقية لوصول القائد الذى سيقود المنتظرين بقوله: «أنظارهم مصوبة إلى الباب الذى دخلوا منه، يترقبون وصول قائد الأوركسترا، إنهم يرون مقدمه قبلنا، فيصمتون ويستعدون، فتصمت الصالة أيضا». ويصف لحظة وصول القائد كما يلى : «ينفلت القائد من الباب مسرعا، فيعلو منصة من الخشب علو شبر ونصف، فنقابله بالتصفيق أيا كان هو، ويشتد هذا التصفيق إن كان من النجوم اللامعة التى لا تظهر إلا على فترات متباعدة، فيشكرنا بابتسامة وحنية من الرأس». ويكمل يحيى حقى وصف لحظة وصف حالة الترقب من الجمهور التى تعقب وصول القائد قائلا: «يطبق علينا الصمت، وتخفت الأضواء، وتعمنا عتمة محببة رحيمة بعد فظاظة الأنوار، ثم يستدير القائد ويولينا ظهره، ثم يدير بصره على العازفين كأنما يصرهم فى منديله. أحيانا يدق بعصاه دقات خفيفة متتالية على درج النوتة أمامه لكى يهش على الأوركسترا هش الراعى على الغنم، من أجل أن يلتحم القطيع وينتظم، فإذا اطمأن أن وحدة شعورية قد ربطت أفراده وربطت بينهم وبينه رفع يده اليمنى وهو يدير بصره من جديد، وتظل لحظة معلقة فى الهواء». ليد قائد الأوركسترا المرفوعة فى الهواء إيذانا ببدء العزف معنى عند الجمهور له تأثير يختلف عنه عند الفرقة الموسيقية، يصف ذلك يحيى حقى قائلا: «من اللحظات السعيدة النادرة عند هواة الموسيقى، هى تلك اللحظة التى نرى فيها عصا المايسترو مرفوعة معلقة فى الهواء وقد خفتت الأضواء، تنتظر أن ينعقد تماما الصمت فى الصالة، وتمام الأهبة من أفراد الأوركسترا، أن يتلاقى حشد أعصابهم فردا فردا فى ذروة جامعة واحدة، أن يتولد الخيط الواحد الذى سيسلكهم ويشدهم، لحظة تنتظر أن تتحرك هذه العصا فينطق اللحن، ما أشبهها باللحظة المضيئة التى يستنير فيها الكون كله، ويتبين كل خفى، ويعود كل ماضٍ، وينكشف كل مستقبل». كما يصف تلك اللحظة فى موضع آخر من الكتاب قائلا: «يالها من لحظة تنحبس فيها أنفاسنا، كأن الكون كله قد سكن ليسمع، لحظة ممتعة لا يعرفها إلا عشاق الأوركسترا. ثم إذا بحركة منه تنطلق الموسيقى، يغمرنا تيارها».