كأننى أسافر عبر الزمن، أسابق الأيام لأصل الواحة قبل أن يصل محمود عزمى.. أنتظره هناك، وأزور معبد «أم عبيدة» قبل أن يهدمه.. محمود عزمى، هو مأمور مركز سيوة فى أواخر القرن التاسع عشر، وهو بطل «واحة الغروب» للرائع بهاء طاهر، وفيها تخيل الأستاذ بهاء ماذا حدث له، هنا فى القاهرة، ثم هناك فى سيوة، وكانت النهاية هى قيامه بهدم معبد «أم عبيدة» فى عام 7981. والقصة - كما كتب الأستاذ بهاء - كلها من وحى الخيال، ليس فيها أى حقيقة إلا هدم المعبد على يد هذا المأمور، محمود عزمى، وهو أيضا اسمه الحقيقى. ومنذ أن قرأت «واحة الغروب» قبل أكثر من ثلاثة أعوام وأنا أحلم بزيارة هذه الواحة، لا أريد أن أمنع المأمور من هدم المعبد، ولا حتى أن أعرف لماذا هدمه.. أعجبت بفكرة أننا لا نعلم السبب، وأننا من الممكن أن نترك لخيالنا العنان كما فعل بهاء طاهر، فأخرج لنا قصة جميلة، عشت معها عدة أيام ولكنى لم أنسها حتى الآن. وعندما جاءت الفرصة وقررت السفر إلى واحة سيوة، اشتريت الرواية مرة أخرى، وحملتها معى لتكون دليلى هناك. وفى الطريق قرأت «يقول لى زوجتك شجاعة، وكأنى لا أعرف كيف هى زوجتى، أليست ذاهبة معى برضاها إلى الخطر». سافر محمود عزمى وزوجته إلى الواحة راكبين الجمال، فقطعوا الطريق وسط صحراء لا يأمن أحد تقلباتها، لذلك كانت الرحلة محفوفة بالخطر.. صحيح أن الخطر الذى يقصده لم يكن قاصرا على رحلة الصحراء، إلا أننى بدأت رحلتى متوقعة الخطر.. أعلم أننا سنسافر بالسيارة عبر طريق جديد مرصوف، إلا أننى انتظرت الخطر - الذى لم يأت - لأغوص فى الرواية وأكون إحدى بطلاتها. الرحلة ليست سهلة، والمهمة نفسها صعبة جدا، أما نحن فكانت رحلتنا مختلفة تماما. القاهرة - مرسى مطروح - سيوة.. كان هذا هو طريقنا. وفى مرسى مطروح سمعت ما انتزعنى من الرواية وأصابنى بالفزع.. سيوة تغرق.. وإذا استمر الحال على ما هو عليه الآن، ستختفى الواحة من الخريطة فى غضون سنوات قليلة!! كيف، ولماذا؟! هل محدثى يبالغ؟! هيا بنا بسرعة، شد الرحال إلى سيوة لأعرف الحقيقة.. ثلاثمائة كيلو متر قطعناها بالسيارة من مرسى مطروح، وها هى سيوة بدأت فى الظهور أمامنا، ودليلنا يشرح.. الواحة عبارة عن دائرة مغلقة تشبه الطبق، وتنخفض عن سطح البحر حوالى 81 مترا، ويحيط بها أربع برك مياهها مالحة.. أما أرض الواحة فتنتشر فيها آبار المياه الجوفية، وهى المصدر الوحيد للموارد المائية فى سيوة، يشير لنا إلى آثار نشع المياه على الأرض قائلا: لو خبطت بقدمك خبطة قوية سينفجر البئر على الفور. أهالى الواحة يستخدمون مياه الآبار فى الزراعة، ولأن المياه متوافرة بكثرة فالطريقة المستخدمة فى الرى هى الغمر، الذى ينتج عنه صرف زراعى، وكلمة صرف هنا لا تعنى أن هذه المياه ملوثة، بالعكس، فهى مياه نظيفة تصلح للزراعة مرة واثنتين وأكثر.. المشكلة أن هذه المياه الصالحة يتم إهدارها، حيث لا تجد سبيلا إلا الصب فى إحدى البرك المالحة المحيطة بالواحة، فتتحول إلى مياه مالحة غير صالحة. هذا الإهدار ليس إلا جزءا من المشكلة، أما الأزمة الحقيقية فهى اتساع رقعة البرك، وهذا هو ما يهدد واحة سيوة بالغرق. مساحة البرك كانت فى الستينيات من القرن الماضى لا تتجاوز خمسة آلاف فدان، أما الآن وبسبب الصرف الزراعى، وصلت مساحتها لأكثر من سبعة وأربعين ألف فدان، هذا الفرق الكبير، جاء على حساب أراضٍ كانت صالحة للزراعة ثم أصبحت جزءا من البرك المالحة التى أدت أيضا إلى تبوير الأراضى المتاخمة لها. فجأة ارتفع صوت دليلنا موجها كلامه لسائق السيارة احرص على السير فى منتصف الطريق، الأطراف مازالت طرية. كنا فى الطريق إلى قرية جعفر تحوطنا مياه البرك من الجانبين، كأننا نسير فى طريق تم شقه وسط البحر، الطريق نفسه ضيق ولا يسمح إلا بعبور سيارة واحدة، أما الأطراف فكانت غير مرصوفة، وعرفنا أن البركتين كادتا أن تندمجا مع بعضهما البعض فيضيع الطريق وتنعزل القرية عن باقى الواحة، فقام المسئولون بردم الأطراف. وكان هذا هو بداية فهمنا الحقيقى لخطورة هذه المشكلة الغريبة، التى لم نفهم - حتى الآن - لماذا هى مستمرة، وكيف نتجاهلها كل هذه السنوات دون البحث عن حل مناسب.. بالعكس، المشكلة تتفاقم نتيجة قيام الأهالى بحفر المزيد من الآبار، وهو ما يعنى المزيد من المياه المنصرفة فى البرك. حاولت وزارة الموارد المائية غلق العديد من هذه الآبار العشوائية ولكن جهودها فشلت بسبب قوة اندفاع المياه التى تسبب عادة انفجار المحابس التى يتم تركيبها أعلى البئر وهذا يعنى أن الأهالى يحفرون فى غياب الرقابة والصيانة وتمر السنوات بنفس الأسلوب، ولم يعد فى الإمكان السكوت أكثر من ذلك. فى مارس الماضى قام وزير الموارد المائية محمد نصر الدين علام بزيارة لسيوة لبحث هذه المشكلة مؤكدا أن الواحة تعانى منذ سنوات حتى أصبحت خطرا على الأنشطة الزراعية، ثم عقد مؤتمرا صحفيا أكد خلاله أنه سيتم حفر آبار جديدة بطرق علمية ونظامية تستفيد منها الواحة للحد من زيادة مشكلة الصرف الزراعى، وقال الوزير: إن هذه المشكلة تمت دراستها بالكامل منذ عام 69 حتى الآن، وتم صرف مائة وعشرين مليون جنيه ولم يتم حلها بسبب عدم تفعيل إغلاق الآبار العشوائية بمعدلات أسرع، وأكد أن الحل المناسب هو استخدام الأساليب الحديثة فى الرى بالتنقيط لعدم إهدار المياه، وقرر تشكيل لجنة لحل المشكلة. اقتراحات محافظة مطروح تعانى من ندرة المياه، فى الوقت الذى تعانى إحدى مدنها - سيوة - من مشكلة وفرة المياه. مفارقة مضحكة ومبكية فى نفس الوقت. تطرح تساؤلا مهما، وهو كيف لا نستطيع الاستفادة من هذه المياه المهدرة التى تهدد بغرق واحة سيوة بالكامل، كيف لا نستفيد منها فى استصلاح أراضى الصحراء الشاسعة فى المحافظة؟! هناك مشروع متكامل تقدمت به المحافظة للاستفادة من مياه الصرف الصحى، وهو المشروع الذى يضرب كل العصافير مرة واحدة، فهو يحمى الواحة من الغرق ويساعد فى استصلاح أراضى الصحراء، ويضيف للناتج القومى إضافة كبيرة، كما يساهم فى خلق فرص استثمار عديدة يستفيد منها أهالى محافظة مطروح، والمصريون جميعا. فكرة المشروع هى مد مواسير من الواحة إلى الأراضى الصحراوية حولها، هذه المواسير سيتم عن طريقها نقل مياه الصرف الزراعى ثم الاستفادة منها فى استصلاح وزراعة آلاف الأفدنة، بدلا من تركها لتصب فى البرك، هذه البرك التى كادت أن تتصل ببعضها من فرط اتساعها.. ووقتها لن ينفع الندم. ما يجرى الآن هو محاولة جذب المستثمرين للاشتراك فى هذا المشروع، وسيتم رى هذه الأراضى بطريقة التنقيط، مما يعنى أكبر استفادة من المياه والقضاء نهائيا على مشكلة الصرف الزراعى. وقد تقدم نائب سيوة السيد بلال أحمد بلال بعدة طلبات إحاطة لمجلس الشعب، تم توجيهها لوزير الموارد المائية لمواجهة هذه المشكلة الخطيرة التى دمرت بالفعل الكثير من مزارع واحة سيوة وسببت بوار آلاف الأفدنة من أجود الأراضى الصالحة للزراعة، وأصبحت تهدد البيوت والطرق والجسور، ولكن حتى الآن لم يستجب أى مسئول للبحث عن حل. فإذا كان هناك مشروع جاهز فمتى يبدأ التنفيذ.. لا أحداً يملك الإجابة عن هذا السؤال، ونحن لا نملك إلا أن نندهش من هذا التجاهل، فإذا كان هذا المشروع لايقنع المسئولين فى الدولة، فليبحثوا هم عن حل بديل. كيف نرضى أن نترك هذه الواحة بكل ما تحويه من كنوز، تغرق فى مياه الآبار التى من المفروض أن تكون نعمة ولكننا تركناها تنقلب إلى نقمة، ووقفنا موقف المتفرج دون تدخل. عدت إلى رواية واحة الغروب على أمل أن أجد الخلاص من هذه الأزمة التى يرفض الجميع مواجهتها. تقول كاترين لزوجها محمود عزمى: «تذكر يوم ذهابنا إلى معبد أم عبيدة.. كان الدليل هناك يا محمود لكنى لم أهتم به، نقلته بيدى ولم أنتبه». تجاهل محمود الدليل وذهب إلى المعبد ليهدمه بأصابع الديناميت، يجب ألا يبقى للمعبد أثر، «يجب أن تنتهى كل قصص الأجداد ليفيق الأحفاد من أوهام العظمة والعزاء الكاذب.. سيشكروننى ذات يوم، لابد أن يشكروننى»، ولكن الأحفاد لم يفيقوا ولم يكشروه. واحة الغروب - سيوة - فى حاجة الآن لمن ينقذها، ولا تحتاج محمود آخر يهدم معابدها.