لا يخلو مقال في صحيفة أو مجلة أو برنامج تليفزيوني من الحديث عن الانفلات الأخلاقي في المجتمع، وتجاوزات الطلبة والتلاميذ في المدارس، أو تجاوزات الأبناء في حق الآباء والأمهات! وبقدرة قادر تحولنا جميعاً إلي كتيبة من الوعّاظ والمربين النفسيين وعلماء التربية والنفس والجريمة وهات يا كلام وتحليل وتنظير حول ظواهر وحكايات غريبة تتحدث عنها الصحافة والفضائيات بإسهاب يصل في أحيان كثيرة إلي درجة الوقاحة والسفالة وقلة الحيا!! نتحدث كثيراً وبغير ملل عن غياب القدوة والمثل الأعلي عند الأطفال والشباب، ونتحدث أكثر وبحماس عن فن السعادة في الحياة وكيفية التوافق الجنسي بين الأزواج، وعن طاعة الزوجات للأزواج، ونتحسر ونبكي علي زمن فات وانقضي كان الابن ينحني ليقبل يد أبيه، والجنة تحت أقدام الأمهات، وقف للمعلم وفه التبجيلا، كاد المعلم أن يكون رسولا، ثم نسمع عن المدرس الذي منع الطالب من مضغ اللبان، فقام ابن عمه بتمزيق جسده بالمطواة، ولا تندهش إذا قامت جمعيات حقوق الإنسان بإصدار بيان تدافع فيه عن الطالب أبو لبانة وإدانة المعلم، إن مضغ اللبان أحد حقوق الإنسان التي لا غني عنها كما نصت وأكدت المواثيق الدولية علي مدي عقود من الزمن! أما ما جري في أسوان فهو يدعو للدهشة بالفعل، فقد اعتدت إخصائية اجتماعية علي عدد من تلاميذ الصف الخامس الابتدائي بخرطوم مياه، بحجة أنهم يتكلمون أثناء الحصة، وتقدم عدد من أولياء الأمور بشكاوي إلي وزير التربية والتعليم ومديرية التربية والتعليم بالمحافظة اتهموا فيه الإخصائية «.....» بالاعتداء علي أبنائهم وإحداث إصابات بهم!!». غريب فعلاً أمر هذه الإخصائية، والأغرب استخدامها لخرطوم مياه في تأديب وتهذيب وإصلاح هؤلاء التلامذة العفاريت!! من أين أتت الست الإخصائية بخرطوم المياه؟! هل أتت به من منزلها؟! هل هو الخرطوم الخاص بالمدرسة وتم تسليفه أو تسليمه للإخصائية؟! وبعد أن ينتهي اليوم الدراسي ما هو مصير «الخرطوم» هل تتركه بالمدرسة أم تأخذه معها إلي المنزل؟! حتي عقاب التلاميذ ناله حظه من التطور والحداثة والتقدم، أصبح خرطوم المياه بديلاً عن المسطرة والعصا، والعصا لمن عصي!! زمان كان العقاب بالتهديد والحرمان من الفسحة أو الحبس في أوضة الفيران، الآن لا فسحة ولا أوضة فيران، بل خرطوم المياه!! وما هي الجريمة التي ارتكبها هؤلاء العفاريت الصغار أثناء الحصة سوي أنهم يتكلمون مع بعضهم في أمور الحياة المختلفة، لقد كانت حصة سخيفة مملة لا معني لها فانشغلوا بقضايا معاصرة حتي لا نتهمهم بالسلبية وعدم المبالاة، ربما كانوا يتحدثون بوعي وإخلاص- رغم أنهم في سنة خامسة ابتدائي- عن سيناريوهات حل القضية الفلسطينية!! ربما كانوا يناقشون تداعيات الانتخابات العراقية الأخيرة!! ربما كانوا يناقشون تداعيات أزمة الكادر علي أحوال المعلمين! ربما احتد الجدل بينهم حول عبقرية حسام حسن والطفرة الكروية التي أحدثها في الزمالك بعد خيبة وفشل سلسلة من المدربين الأجانب؟! ربما اختلفوا حول تقييم أداء الحكومة الذكية! ولا أحد يعرف إذا كان هؤلاء التلامذة ناقشوا أو تحدثوا عن المصالحة الفلسطينية - الفلسطينية وإمكانية تصالح حماس وفتح!! فهل كانت هذه المناقشات الجادة بين التلامذة تدعو الإخصائية الاجتماعية لعقابهم بخرطوم الميه؟! كنت أتمني علي هذه الإخصائية أن تشاهد جلسات مجلس الشعب التي يذيعها التليفزيون المصري، وتشاهد كيف يتحدث النواب مع بعضهم غير عابئين بما يدور من مناقشات!! وعندما يزيد حديث النواب علي حده، يتدخل الدكتور فتحي سرور رئيس المجلس طالباً منهم السكوت والتركيز لما يقال، وربما كانت الحالة الوحيدة التي يضطر فيها النواب إلي السكوت والإنصات والتركيز الشديد عندما تتطور الأمور داخل المجلس فيهاجم عضو أحد زملائه أو يشتمه أو حتي يضربه، فمثل هذا المشهد لا ينبغي أن يمر مرور الكرام!! ورغم سخونة الموقف فلم يحدث أن قام أحد النواب باستخدام خرطوم مياه لتهديد زميله الموقر!! وأترك الإخصائية الاجتماعية في حالها وأقترب من واقعة أخري لا تقل إثارة وغرابة- ولو أنه لم يعد هناك غرابة أو إثارة في حياتنا- فقد ذهبت ولية أمر تلميذة في السنة الثانية الابتدائية إلي مدير معهد أسوان الابتدائي الأزهري لتشكو له من سرقة «محمول» ابنتها، فوصفها بأنها «غير محترمة»، دعوني أتساءل: ما ضرورة أن تحمل طفلة في الصف الثاني الابتدائي موبايل وتذهب به إلي المدرسة- وهي ظاهرة منتشرة بالمناسبة- ما ضرورة ذلك وما أهميته؟! وما الذي يدعو مدير المعهد للخروج عن أعصابه ويشتم والدة التلميذة!! ما الذي يحدث لنا وبنا وحولنا وفينا؟! ما الذي جري لسلوكنا وأخلاقنا؟! خمسمائة فضائية تتحدث عن الأخلاق فزادت الأخلاق سوءاً، ونفس الفضائيات تتحدث عن ضرورة الحوار مع الآخر ونحن غير قادرين علي الحوار مع أنفسنا؟! فضائيات تطالبنا باحترام قيمة العلم والعقل في حياتنا ثم تخصص عشرات البرامج في علاج البروستاتا بشوربة النحل وشفاء العقم بفتة الجرجير، ومذيعات يطالبن البنات بالفضيلة والأدب واحترام الذات ثم تناقش نفس المذيعة قضايا شذوذ البنات وكأنها تدعو البنات لمعرفة هذا العالم السري المريض!! لا يحتاج الصغار فقط إلي تأديب وتربية بل إننا نحن الكبار الذين نحتاج إلي تربية وتأديب وتهذيب وإصلاح!!