مسحت فرحة الفوز على فريق الكرة الجزائرى أحزان نجع حمادى، ومرارة ما جرى فى أم درمان. عاش المصريون ساعات طويلة من الفرحة والبهجة، وتبادل المسلمون والأقباط التهانى والفرحة، فقد كانت أحداث أم درمان حزنا وهما مصريا عم الجميع، ولم نكن نعرف الطريق إلى الرد على الإهانات التى جرت فى أم درمان، عقب فوز فريق الجزائر على الفريق المصرى. ولكن المعلم حسن شحاتة، اللاعب الذى صفقت له الجماهير فى مصر وخارجها، والذى عرفناه مدربا وقائدا كرويا متميزا، أخذ على عاتقه مسئولية رد الاعتبار للكرة المصرية، وأعطى فريق الكرة الجزائرى درسا فى الأخلاق ودرسا آخر فى فنون الكرة. هذه هى مصر، وهذا هو أداء أبنائها. وهذا الأداء الهادئ إن دل على شىء فإنما يدل على أن مواجهة المشاكل تجىء بالحكمة، وأساس الحكمة الدراسة والبحث والتأمل والتفكير الهادئ وهذه سمات العلماء. الكابتن حسن شحاتة أو المعلم هو عالم من علماء الكرة المصرية. لذلك استطاع الوصول إلى الحل الذى سوف يقود إلى المصالحة بين مصر والجزائر إن شاء الله. وهذا الأداء المصرى يجعلنى أتساءل: كيف يمكننا مواجهة مشاكلنا بنفس الحكمة المبنية على الدراسة والبحث والتأمل؟! هل من الممكن مثلا معالجة الاحتقان بين الأقباط والمسلمين بنفس الحكمة المبنية على البحث والدراسة؟! نعم.. ممكن وممكن جدا إذا خلصت النيات وتوفرت الإرادة الراغبة فى فض الاشتباك. ويتبادر إلى ذهنى فى هذا الأمر ما جاء على لسان أستاذنا المفكر والفيلسوف د. قدرى حفنى أستاذ علم النفس السياسى وعميد كلية التربية الأسبق بجامعة عين شمس فى الحوار الذى أجرته معه الزميلة رحاب الشاذلى فى جريدة الدستور هذا الأسبوع. فقد ذكر لنا الأستاذ الدكتور قدرى حفنى أنه عام2891 تقدم باقتراح للمركز القومى للبحوث الاجتماعية والجنائية بإنشاء وحدة لدراسة السلوك الدينى للمصريين. وأضاف الدكتور قدرى حنفى أنه صدر قرار بتشكيل الوحدة وأسندت رئاستها للدكتورة زينب رضوان، وعند الإعداد لتشكيل وحدات المركز التى ستقوم بالأبحاث العلمية المختلفة فى الشئون الاجتماعية والجنائية سقط سهوا إدراج وحدة دراسة السلوك الدينى للمصريين، ولم يرد ذكر إرجائها أو أسباب عدم إدراجها.. وقرر المسئولون عن برنامج الأبحاث فى المركز القومى للبحوث الاجتماعية والجنائية عدم السؤال لمعرفة أسباب إسقاط هذه الوحدة! هذا ما حدث عام 2891 من القرن الماضى، ومازال المركز القومى للبحوث الاجتماعية والجنائية والكائن فى ميدان ابن خلدون فى مواجهة نادى التوفيقية لا يدرج دراسة السلوك الدينى للمصريين حتى هذا اليوم. لماذا؟ لا أحد يعرف ولا أحد يريد أن يعرف! وهذا أمر مريب ومثير! هل نتوقع استمرار الاحتقان أم أننا راغبون فيه؟! ولماذا لا نقوم بدراسة المشكلة دراسة علمية وافية تفسر لنا الكثير من الأمور الغامضة حتى يمكن علاجها والبحث عن جذور الفتنة ومروجيها والعابثين بها والمستفيدين منها حتى نتخذ من الإجراءات ما يضع حدا لهذا الاحتقان؟ هل نطلب من السيد الأستاذ الدكتور هانى هلال وزير التعليم العالى والبحث العلمى أن يتدخل عند المسئولين عن المركز القومى للبحوث الاجتماعية والجنائية لإنشاء وحدة دراسة السلوك الدينى للمصريين؟! أم نطلب من رئيس الوزراء؟! أم أننا نلتمس من السيد رئيس الجمهورية إرسال خطاب إلى مركز البحوث الاجتماعية والجنائية لإدراج بحث السلوك الدينى للمصريين ضمن أبحاثه؟ ماذا يفعل الأستاذ الدكتور قدرى حفنى لكى ينال اقتراحه الهام والجاد الاهتمام.. ويقوم مركز البحوث بإدراجه ضمن دراساته؟! إن أستاذنا د. قدرى حفنى لا يستطيع فعل أكثر من التقدم بالاقتراح وقد فعل، فهل يوافق مجلس إدارة المركز على الأخذ باقتراح الدكتور قدرى حفنى؟ بعد مرور ما يقرب من ثلاثين عاما؟! أرجو ذلك. وأضاف أستاذنا د. قدرى حفنى فى حواره الرائع مع الزميلة رحاب الشاذلى أنه اتفق مع زميل له وهو الدكتور نسيم قلادة أستاذ علم الاجتماع على التقدم باقتراح لوزير التعليم المصرى لعمل كتاب يضم الأخلاق المشتركة بين الأديان حتى يكون نقطة التقاء ووحدة، فمثلا القتل والسرقة والكذب كلها أمور تحرمها الأديان الثلاثة اليهودية والمسيحية والإسلام، فلماذا لا نجمع كل تلك المشتركات فى كتاب واحد يدرس لجميع الطلاب المصريين بالإضافة إلى حصة الدين العادية حتى يعرف كل الأطفال أن جميع الأديان سواء.. تعزز القيم المحترمة والنبيلة وتنهى عن القيم والتصرفات السلبية. وكما حدث لاقتراح دراسة السلوك الدينى للمصريين فى مركز البحوث، وزارة التعليم لم تقبل الاقتراح الثانى! ماذا يفعل المفكر المصرى حيال هذا التجاهل للاقتراحات البناءة لحل مشاكل المجتمع؟! القانون لا يعاقب أحدا على رفض الاقتراحات البناءة! ولا يعاقب أحدا على عدم تنوير العقول، وأيضا لا يعاقب على نشر التعصب والتطرف، والأخذ بالأفكار الخاطئة والمغلوطة! وتركنا الساحة خالية يمرح فيها أصحاب الفكر المتطرف وغير الدراسين لتاريخ الوطن ومواقف أبنائه. إن مصر العظيمة بحضارتها وشعبها استطاعت عبر القرون اجتياز الأزمات وصمدت أمام الغزو ومحاولة تغيير الهوية، وقد لا يعرف الكثيرون أن مصر حتى منتصف القرن العشرين عاش فيها اليهود والأقباط والمسلمون جنبا إلى جنب فى ود ومحبة. وكانت القيادات عندما تأخذ قرارا لا ترى أمامها سوى أبناء الشعب المصرى بكل طوائفه فالدين لله والوطن للجميع. وعقب الحرب العالمية الثانية هب المصريون للمطالبة بالاستقلال.. وكان العالم يموج بالصراعات.. ولكن أبناء مصر وقفوا وقفة رجل واحد تجلت فى وحدة الهلال مع الصليب فى وجه الاستعمار البريطانى! صحيح أن يهود مصر لم يحاربوا الإنجليز فى مصر ولكنهم حاربوهم فى فلسطين لأهداف شخصية وهى الحصول على وطن قومى لليهود فى فلسطين وقد نجحوا فى ذلك! إن الأقباط والمسلمين فى مصر يشكلون شعبا فريدا، وكان من الممكن أن نصبح المثل الحى لوطن يتعايش فيه أصحاب العقائد الدينية على أساس الدين لله والوطن للجميع، ومن هنا بدأت فى مصر منذ عصر محمد على بناء الدولة المصرية على أساس حديث ومدنى وليس على أساس دينى. بنيت مصر على مدى قرنين من الزمان دولة حديثة، وجنت ثمار الدولة المدنية بظهور عدد من المصريين الذين أصبحت لهم شهرة عالمية فى مختلف المجالات العلم والمعرفة. ولكن الذين لا يريدون لمصر التقدم والتفوق وقفوا لها بالمرصاد وحاولوا بث بذور الفتنة بين الأقباط والمسلمين لا لشىء إلا لتشويه وجه مصر الحضارى وإظهارها بمظهر الدولة العنصرية التى تمارس صنوفا من التفرقة على أساس دينى. متى نفيق يا سادة ونهتم بهذا البلد العظيم الذى يظلنا ونبنى وطنا يسوده الحب والنقاء والوئام وليس التعصب والجهل والتخلف؟! إذا كنا جادين هذه المرة فى بناء وطن يسوده العدل والمحبة فالطريق هو القيام بالدراسات والبحث العلمى. لا يمكن تحليل ظاهرة، أو فهم احتقان إلا من خلال دراسة علمية مثل التى اقترحها أستاذنا الدكتور قدرى حفنى والخاصة بدراسة السلوك الدينى للمصريين. ولا يمكن تربية الأجيال الجديدة فى المدارس إلا من خلال ترسيخ القيم الدينية فى نفس أولادنا حتى تصبح سلوكا يوميا فى حياتنا، ولهذا عبر صاحب الفكر الإصلاحى الإمام الأكبر الشيخ محمد عبده عن الدين عندما يصبح سلوكا يوميا عقب إقامته فى فرنسا، فعاد إلينا قائلا: لقد وجدت الإسلام فى فرنسا ولم أجد المسلمين! وبالمناسبة مشروع الشيخ محمد بعده الإصلاحى لم ينفذ حتى اليوم ويجد مقاومة من المتوقعين الذين لا يريدون لمصر الانطلاق لآفاق واسعة، والاشتراك فى بناء العالم على أسس من البحث العلمى والإدراك للتقدم ومحاربة التخلف! إننا فى صباح الخير مجلة القلوب الشابة والعقول المتحررة نطالب بالأخذ بالاقتراحين اللذين تقدم بهما أستاذنا د. قدرى حفنى، لأنهما بداية الطريق لعلاج الاحتقان ومواجهة مشاكل الفتنة الطائفية.. ولا أجد مبررا لعدم قبول هذين الاقتراحين. هل نسمع قريبا عن إقرارهما أم يظلان فى الأدراج؟!