آلاف الأسر التى عايشت الحماس والقلق.. الغضب والتمرد.. وتغنت ب«يا حبيبتى يا مصر» طوال الثمانية عشرة يوما قضتها فى ميدان التحرير من يوم 25يناير وعاشت لحظة الفرح بإعلان تنحى الرئيس المخلوع، واستمرت منذ يومها فى النزول للميدان عند كل دعوة لذلك يدفع أفرادها حب مصر والغيرة على مستقبلها والأمل فى غد أفضل.. الأسرة الأولى تتكون من الأب الدكتور محمود عبدالمجيد مدير مستشفى الصدر بالعباسية، والأم الدكتورة إيمان عماد والابنة هى مها محمود خريجة كلية الألسن والابن مصطفى محمود فى السنة الأولى بكلية الهندسة، والعمة الأستاذة هدى عبدالمجيد باحثة فى البنك المركزى وابنتها مها محمود محمد خريجة كلية الاقتصاد والعلوم السياسية. بدأت معى الحديث الدكتورة إيمان واسترجعت معى ذكرياتها مع يوم 25 يناير قائلة: «لم أكن من الناس التى تشترك فى المظاهرات، ولم تكن لى اهتمامات سياسية سوى متابعة أخبار التليفزيون.. وفى الفترة الأخيرة شعرت بمدى السوء الذى وصلت إليه حال البلد من فساد وفقر وعملى يجعلنى أحتك بطبقة فقيرة ومعدمة، وأجد أن الفساد هو الذى منع هذه الطبقة من أن تنال حقوقها، فضلاً عما أسمعه من زوجى من فساد صارخ يكتشفه نتيجة موقعه كمدير فى مستشفى حكومى، وكنت أسمع كل من حولى يشتكى الفساد والظلم وحال البلد الذى لا يرضى أحدا ولا يتناسب مع مكانة دولة مثل مصر.. وعندما جاء أولادى ليقنعونى بالنزول للميدان وبالدعوات على الفيس بوك ظننت أنها احتجاجات عادية مما كنا نسمع عنها، وتشجعت ونزلت مع زوجى وأولادى وأخته وابنتها اللتين تسكنان فى شارع الفلكى فى التحرير، ووجدت أن نزولى واجب مهما كنت قلقانة على أولادى، ولم أكن أفكر وأنا «نازلة» التحرير، إلا أننى من واجبى أن أحتج على كل هذا الفساد ولم تكن الرؤية واضحة وعندما نزلت وجدت طبقات مختلفة من الناس وشبابا كثيرين وفتيات وكبار، منهم أغنياء ومنهم فقراء ومنهم معدومون، ووجدت إعلاميين وصحفيين وسياسيين، وتأكدت أن ما يجمع كل هؤلاء هو الثورة ضد الظلم والفساد وليس فقط الفقر ولأول مرة أجد نفسى وجهًا لوجه مع قوات الشرطة التى حاصرتنا بعد أن مشينا من دار القضاء العالى إلى التحرير. وعندما بادرتها بالسؤال عن مدى رضاها بعد مرور عام كامل على الثورة عما حققته الثورة بدت متشائمة وسارعت بالإجابة قائلة: «لا سعيدة ولا مبسوطة، فلم يحدث شىء ولم يتغير شىء، ففى رأيى أن رأس النظام فقط هو من سقط ممثلا فى مبارك وأولاده، أما النظام نفسه فموجود كما هو فلم يحدث تطهير لا فى القضاء ولا فى الجامعات ولا فى الداخلية.. فكيف سيقوم نظام جديد على بقايا نظام قديم فاسد وكل شيء مبتور فلا يكمل أي تصرف أو مبادرة للآخر؟! وفضلاً عن ذلك فالأمن ضائع والاقتصاد أيضاً، وقد تكون بارقة الأمل والخطوة الوحيدة التى تمت على طريق المسار الديمقراطى هى: أن الناس هى من نزلت وأدلت بصوتها، واختارت فى الانتخابات البرلمانية.. ولكن فى رأيى الشخصى فإن الإخوان دخولهم فى السياسة بهذا الحجم سيمثل فاشية جديدة، صحيح أن الديمقراطية التى نطلبها هى من قررت ذلك، وهذا جيد، لكن أتكلم عن رأيى الشخصى فالعنصرية تمثل فى الأحزاب الدينية فكيف ستجمع أمة باسم الدين، بل ستقسم البلد والحل أن يتبنى الإخوان الثورة ومبادئها.. وأشك أن الناس «ستبطل» تطالب بحقوقها لمدة 30سنة كالسابق، فالكل سيخرج عندما لن تتحقق مطالبه. وعن يوم 25 هذا العام تقول الدكتورة إيمان: سننزل التحرير لاستكمال الثورة، ولن نحتفل.. فكيف نحتفل والأهداف لم تتحقق بعد!! إلا وجود مجلس شعبى منتخب فهذا الشىء الوحيد الذى يدل على بداية التغيير، وكيف سنحتفل بكل هذه الأعداد من الشهداء والمصابين؟! ∎ الواقع يفرض التفاؤل بكل التفاؤل يتكلم الدكتور محمود عبدالمجيد والد هذه الأسرة ويقول: لو مت بعد يوم 25يناير فسأكون راضيا كل الرضا فيكفى أنى رأيت هذا اليوم الذى اجتمع فيه كل فئات الشعب بكل أعماره وشرائحه الاجتماعية، فقد خرجت من مظاهرات عديدة قبل يوم 52 يناير، ورأيت أكبر تجمع 005 إنسان يحوطهم الأمن المركزى ثم تنفض المظاهرة، أما هذه الثورة فقد كسرت حاجز الخوف وحاجز اليأس، فالناس عندما كانوا خائفين ويائسين سكتوا وعندما كسروا الحاجز لن يسكتوا ثانية، لذا أنا متفائل بالمستقبل وأعلن أن الثورة نجحت ولا تقتصر الثورة على يوم 25 كما يظن البعض بل هى أسلوب حياة المصريين من يومها وكسرهم للخوف واليأس، ولا أنسى أبدًا ميدان التحرير بما يمثله من لمة المصريين يدا واحدة كلٌ يوزع على الآخر الماء والبلح، ويتقاسم البسمة مع كل من حوله لا معاكسات ولا مضايقات ولا أنسى منظر الشباب عندما تشبثوا بسيارات الأمن المركزى التى تدفع بالماء لتفريق المظاهرين، أول الشباب أصيب وألقى على الرصيف، أما الثانى فظل متشبثًا ليخفى الرؤية عن السائق وتشجع آلاف الشباب بعده، فهذه من المناظر التى لن أنساها ما حييت، لقد كنا خلال الثمانية عشر يومًا كإنسان مصرى واحد لا فرق بين مسلم ومسيحى رجل وامرأة محجبة ومسيحية.. من عاش 18يومًا فى الميدان تأكد أن مصر «طالعة» للأمام ولن تعود للخلف أبداً.. والواقع هو ما يفرض هذا التفاؤل. ∎ لن أنسى موقعة الجمل أما مها فهى الابنة الكبرى كادت عيناها تنطق قبل لسانها من حماسها عند سؤالها عن ذكرياتها فى التحرير على مدى الثمانية عشرة يومًا وما يمثل لها هذا المكان فقالت: أشعر بإحساس بأننا «خلاص زهقنا»، وعندما جاء البرادعى أعطى أملا بالتغيير وكنت متحمسة لتحقيق هذا التغيير، وأردت أن أكون جزءاً منه وتحقق ذلك بنزولى التحرير، فقد كانت أياما رائعة خاصة المليونيات فكنا دائما متحمسين ومصممين على التغيير، ولم نتردد لحظة فى أن التغيير قادم ولن أنسى موقعة الجمل، وكيف كنا نجرى عندما وجدنا الجمال تجرى علينا عند أطراف الميدان، وعندما رمى علينا الطوب واحتميت بأبى الذى أخذ ينهر الناس البلطجية وكنت مرعوبة بسبب أعداد الناس التى ترمى الطوب علينا ووجدت ناسا تنزف وكان موقفا بالفعل لا ينسى، وأحلي شىء فى الميدان كانت روح التحدى التى جمعتنا جميعا على قلب رجل واحد وكان هناك العديد من المشاهير مثل علاء الأسوانى وإبراهيم عيسى كنا نراهما دائمًا. وسأنزل يوم 25 لاستكمال الثورة لأنى لم أشعر باختلاف سوى رحيل مبارك وخلعه، ولكن المهم ألا يموت مزيد من الناس فهذا ما أتمناه وآمله. ∎ شريحة مختلفة.. والهدف واحد أما الأسرة الثانية فهى أيضا كانت فى الميدان.. أسرة أم عادل هى أسرة بسيطة جدًا تعرض الأب لحادث أثناء عمله «كفواعلى» وسقوطه من على سلم إحدى العمارات وإصابته فى العمود الفقرى، فنزلت أم عادل لتكسب قوتها وتستطيع تربية أبنائها الثلاثة الذين لم ينهوا المرحلة الابتدائية بعد وتصرف على بيتها، أم عادل تساعد فى تنظيف البيوت ولا تشعر بأى خجل بل على العكس تفتخر بأنها استطاعت فتح البيت بعد إصابة زوجها، أم عادل امرأة منقبة قليلة الخبرة لا تعرف سوى تنظيف البيوت وتربية أبنائها، ولكنها نزلت ميدان التحرير مع أولادها وزوجها العاجز، تقول أم عادل: «فى بداية الأمر يوم 25يناير اعتقدت أن هذه الثورة عبارة عن بعض الشباب المتحمس «الفاضى» الذى يتكلم فى السياسة، وبالصدفة كنت نازلة من بيتى فى «ناهيا» وسمعت أحد الشباب يخطب فى الناس بصوت عال: «عايزين عدالة.. عايزين الناس تاخد حقها.. المريض يتعالج والفقير يجد حد أدنى من العيشة الآدمية كفاية فساد.. كفاية معاملة سيئة فى الأقسام.. من فيكم لم يضرب على قفاه من أمين شرطة؟! ولم يتعرض لإهانة». تكمل أم عادل: ساعتها افتكرت كل حاجة وحشة فى البلد، صحيح أنى مشغولة بلقمة العيش لكن افتكرت ابن أختى اللى اتاخد ظلم عشان رد على أمين شرطة واتعذب واتهان يومين فى القسم.. افتكرت زوجى اللى دخت بيه عشان يتعالج فى مستشفيات الحكومة ولم أجد يدا تساعدنى إلا من أهل الإحسان.. افتكرت ولادى وتعليمهم فى المدارس المفروض ببلاش كيف أدفع فيه كل ما أتحصل عليه من تنظيف البيوت؟ وافتكرت شكوى كل جيرانى وأخواتى.. وظللت يومها أفكر لم أنزل التحرير ولكن دعوت أن يستطيع هؤلاء الشباب تحقيق ما يحلمون به لمصر ولأهل مصر، إلى يوم أن رأيت فى تليفزيون الست صاحبة البيت الذى أنظفه الجمال والحمير وهى تهجم على الشباب ووجدت الناس تنزف وتجرح وقتها قررت نزول الميدان مع أسرتى جلست هناك لم أشعر يومًا أنى أقل من أى أحد هناك كلنا مصريين.. كل الناس بتساعد بعضها وبتقسم «اللقمة» لم أصدق أنى عايشة فى مصر الناس كلها كويسة وسمعت هناك كلام كتير فى السياسة من شباب ربنا يحفظهم وشفت بعينى أهالى الشهداء وكيف ضحوا بأولادهم عشان «إحنا نعيش». كان زوجى فى الميدان وأنا أذهب لعملى وأعود للميدان، كانت أيام شعرت فيها بالحرية والأمل خاصة عندما تنحى مبارك، ولأول مرة أشعر أن لى صوت وأننا نستطيع حتى لو غلابة أن نغير الدنيا كلها.. ثم بعد ذلك ذهبت للانتخابات وشعرت أيضا أن لى قيمة ولا تزوير ولا غش.. وأشعر أن البلد ستكون جنة صحيح إحنا لسه فى فوضى والحال لم يتغير كثيرًا، لكن أكيد بكره أحسن وأكيد من سيمسك البلد سيخاف من أن يحدث له ما حدث لمبارك.. ومع أنى منقبة لم أعط صوتى للإخوان أو السلفيين بل أعطيته للكتلة المصرية لأنى أيام زمان حدثت لى مشكلة مع أصحاب البيت الذى كنت أؤجره وطردونى منه بدون وجه حق لجأت لعضو مجلس الشعب عن دائرتى لم يفعل شيئًا وذهبت للإخوانى الذى يعرف ربنا ليساعدنى، فلم يفعل شيئًا أيضا، لذا فالأمل فى الشباب الجديد وفى الناس اللى عملت الثورة، وسأحتفل بمرور العام على الثورة وسأنزل الميدان لأستعيد ذكرياتى فيه مع أولادى ولن أتوقف عن نزول الميدان حتى تصبح مصر أحسن بلد وكل واحد ياخد حقه