أيام مع أسرة أحمد: أحمد محمد صالح شاب عمره 21 سنة - طالب فى السنة النهائية بفيوتشر أكاديمى، يوم الأحد 20 نوفمبر أصيب برصاصة دخلت من أسفل ذقنه الأيسر أعلى الرقبة من الأمام وخرجت من أسفل رقبته من المنتصف من الخلف. مات أحمد بعد عشرين يوماً من الإصابة قضاها فى الرعاية المركزة على جهاز تنفس صناعى فى غيبوبة عميقة تزداد عمقاً يوماً بعد يوم حتى صعدت روحه فجر السبت 10 ديسمبر. أصيب أحمد فى موقعة محمد محمود التى بدأت يوم السبت وانتهت بعد خمسة أيام، سقط خلالها خمس وأربعون شهيدا، وأصيب الآلاف ومنهم عدد لا بأس به فقد عين من عينيه ومنهم أحمد حرارة الذى فقد العين الوحيدة المتبقية له. حتى الآن يعتبر أحمد صالح هو الشهيد الأحدث. من قتل أحمد؟ هذا هو السؤال. التقيت بأسرة أحمد قبل وفاته بخمسة أيام، قمت بزيارته فى الرعاية المركزة بقسم 5 طوارئ بقصر العينى، رافقتنى فى الزيارة الأولى الأستاذة الدكتورة عالية عبدالفتاح رئيس قسم طب الحالات الحرجة، تناقشت هى مع الأطباء المسئولين عن علاج أحمد وهما الدكتور محمد يوسف والدكتورة سارة، فهمت أنا من المناقشة أن حالة أحمد لا أمل فى شفائها، لكننى كذبت نفسى حتى انتهت المناقشة ثم أفهمتنى الدكتورة عالية أن ما يعانى منه أحمد يمكن تسميته بموت المخ، حيث تسببت الرصاصة فى قطع النخاع الشوكى، ثم أدى توقف القلب إلى انقطاع الدم عن مخ أحمد لفترة كانت كافية لأن يفقد كل وظائفه. صارحت الدكتورة عالية أسرة أحمد بحقيقة حالته، وفهمت منهم أن الأطباء المشرفين على علاجه كانوا قد صارحوهم من قبل. لكن لا أحد من الأسرة صدق تشخيص الأطباء ولا من الأصدقاء. قالت والدة أحمد لى إنها تشعر أنه يشعر بها (ابنى وأنا حاسة بيه) حكت أن أحمد كان جالساً يشاهد التليفزيون يوم السبت وكاد يبكى وهو يقول لأمه (أنا هنزل التحرير الناس هناك بيتسحلوا). لم تفكر أمه أن تمنعه لأنها تعرف طبيعة ابنها، أحمد كان معروفاً فى العائلة كلها وفى الشارع وفى الحى أنه خدوم وشهم ويساعد كل من يجده محتاجا للمساعدة حتى دون أن يطلب منه أحد. ذهب أحمد إلى ميدان التحرير وعاد إلى بيته فجر الأحد يحمل رشاشاً مملوءاً بالمادة التى اخترعها المتظاهرون لمقاومة الغاز المسيل للدموع، وهى تركيبة من دواء حموضة اسمه أبيكوجيل وماء.. كان مرهقاً ورغم ذلك لم يستطع النوم إلا دقائق، وقرر أن يعود، رفضت أمه وحاولت هذه المرة منعه، وتدخل أصدقاؤه لإقناعه أيضاً بألا يذهب، فتهرب منهم، وصارح أمه بأنه لا يستطيع أن يترك ناسا يموتون وينام فى بيته حتى لو كان لا يعرفهم. قال لها (إنتى عايزة الجنة ولا النار يا أمى، أنا عايز الجنة) وتركها وذهب ولم يعد. يقول والد أحمد «أنا حاولت أكلمه على المحمول لقيته مقفول، وبعدين واحد صاحبه كلمنى وطمنى وقال لى ما تقلقش على أحمد يا عمى بيساعد المصابين وما بيتعرضش لأى خطر». وبعدين اتقطعت أخباره وما قدرتش استنى، نزلت سألت فى مستشفى المنيرة مالقتش حد، وسألت فى قصر العينى لقيته، وكان معاه بطاقته الشخصية، ومعاه كل أوراقه، لكن كان خلاص مش حاسس بأى حاجة). والد أحمد يحاول أن يبدو متماسكا لكن الدموع تسقط من عينيه رغماً عنه. منذ اللحظة التى عرفوا فيها مكانه لم تغادر الأم والأب والجدة قصر العينى، يجلسون على الأرض أمام القسم، ليبقوا فى أقرب مكان مسموح لهم بالتواجد فيه.. يسألون كل من يمر أمامهم عن أحوال أحمد ربما يسمعون كلمة تطمئنهم. لم يستطع أحد أن يفعل ذلك ولم يستطيعوا هم أن يفقدوا الأمل. قبل وفاة أحمد بيومين زاره أحد كبار الأطباء فى قصر العينى وخرج من عنده يقول أنا لم أجد فتحة دخول رصاصة ولا فتحة خروج، فقالت له الأم فتحة الدخول هنا وأشارت إلى رقبتها من الأمام - وفتحة الخروج من هنا - وأشارت إلى ظهر رقبتها، ابتسم الدكتور مجاملة لها، وقال لى أنا هامساً (مااظنش)، دخل الطبيب مرة أخرى إلى حجرة الرعاية بعد أن جاء الطبيب الشاب المسئول عن علاج أحمد ومعه الأشعات، وبعد دقائق خرج الأستاذ الكبير يعتذر للأم قال لها (فعلاً اللى قلتيه صح تماماً. أنا شفت فتحة الدخول والخروج والأشعة مبينة أثر الرصاصة على النخاع الشوكى). شرح لنا الطبيب أن الرصاصة قطعت من ضمن ما قطعت الأعصاب المسئولة عن عضلات التنفس لم تقطعها كلها وإلا كان أحمد مات فى نفس لحظة الإصابة قطعت أغلبها وتركت عددا قليلا استمر يعمل لفترة بسيطة ثم انقطعت فتوقف قلبه وأُجرى له إنعاش قلبى فعاد القلب ليعمل بعد فترة من التوقف كان المخ قد فقد تماماً، وأصبح أحمد معتمداً على جهاز التنفس الصناعى تماماً. بعد زيارتى الأولى التى رأيت فيها أحمد وربت على رأسه وكتفه ولم يشعر بى، قررت أن أكتفى بزيارة والدته التى تجلس على الأرض خارج الرعاية، تقف معى فى ركن تحكى لى آخر أخبار أحمد التى هى لا جديد دائماً وتسألنى إن كنت أعرف طبيباً آخر يمكن أن يرى أحمد ويجد أملاً فى علاجه، فأعدها بأن أبحث عن طبيب. والغريب أننى لم أطلب من أى أستاذ كبير فى قصر العينى أن يزور أحمد ليرضى أهله له نفسياً فقط وليشعروا بالاهتمام إلا ووافق الأستاذ بدون تردد. كنت أراقب الأساتذة: جراح العظام الشهير وجراح المخ والأعصاب وأستاذ الباطنة وأستاذ التخدير وهم يحاولون القيام بدور الطبيب النفسى الذى يساعد الأهل على تقبل الصدمة. فى الوقت نفسه كان الجميع أطباء وممرضات وعمالا وزوارا يسألون نفس السؤال من قتل أحمد الشاب الطيب الجميل؟ ومن سيحاكم من قتل أحمد؟، ومن سيقتص ممن قتل أحمد؟ فى كل مرة زرت فيها والدة أحمد وجدت عندها زواراً قليل منهم تعرفه الأم.. جيران أو أقارب أو أصحاب أحمد، وكثيرون لا يعرفهم أحد قرأوا عن أحمد على الفيس بوك أو تويتر باعتباره واحداً من الحالات الخطيرة من مصابى محمد محمود فجاءوا لدعم أهله معنوياً، كلهم شابات وشبان فى عمر أحمد أو أكبر قليلاً تحتضنهم الأم وتبكى. توفى أحمد فجر السبت وظل إلى الخامسة مساءً فى ثلاجة قصر العينى ثم نقل إلى مشرحة زينهم ليعاينه الطبيب الشرعى ووكيل النيابة ويكتب تصريح الدفن. قبل فجر اليوم التالى الأحد استقر جثمان أحمد فى مدافن الأسرة، واستقرت روحه فى الجنة. ومازالت أمه تقول (عارفة إن ابنى عند ربنا شهيد حى يرزق.. لكن لازم كل الناس تعرف الحقيقة دى.. تعرف إن ابنى شهيد.. ولازم ياخد حقه). ليس أحمد فقط.. بل كل شهداء محمد محمود يجب أن يعرف الناس أنهم شهداء.. ويجب أن نطالب جميعاً بحقهم. كذلك كل من فقد عينه أو أصيب أو اختنق.. لو كل هؤلاء ضاع حقهم كما ضاع الذين من قبلهم سندفع جميعاً ثمناً غالياً لضياع هذا الحق.