منذ أيام قليلة انتهت فعاليات الدورة الرابعة لبانوراما الفيلم الأوروبي وطبعا حدث ثقافي مثل هذا وفي ظل الظروف السياسية المرتبكة التي نعيشها تصبح احتمالية نجاح هذا الحدث ضعيفة للغاية من جميع الاتجاهات حتي المسئولين عن مهرجان القاهرة السينمائي الدولي قرروا تأجيله نظرا للظروف الراهنة. لكن ماريان خوري صاحبة هذا الحدث رفضت تأجيله تحت أي ظرف ولم يكن أمامها بدائل أخري خاصة أن ضيوف المهرجان الذين تمت دعوتهم بالتليفون رحبوا بالحضور تشجيعا منهم لهذا الحدث في تلك الظروف. ولأنني أنتظر هذ الحدث السينمائي من العام للعام نظرا لأن دور العرض لدينا لا تعرض سوي الأفلام الأمريكية فقط طوال العام فقد حرصت علي حضور عدد لا بأس به من أفلام دول أوروبا أنت مع السينما الأوروبية تتعرف علي سينما لها مذاق مختلف تم اختيارها بعناية شديدة بعد النجاحات التي حققتها في المهرجانات السينمائية الكبري مثل «كان» و«برلين» وغيرهما ،و المثير أنني كنت مُتخيلة أن الناس لا هم لها إلا متابعة برامج الفضائيات التي تنقل ما يجري علي الساحة لكن ما حدث فعلياً أن هذه الدورة لاقت حضوراً من الجمهور لم أتوقعه، ففي اليوم الأول من فعاليات الدورة كان الإقبال مُقتصراً علي الصحفيين والنقاد وضيوف البانوراما، لكن من خلال الكتالوج الذي ضم كل الأفلام التي ستعرض وجدول العروض بسينمات «سيتي ستارز» و«جلاكسي» والتي كان يوزعها المسئولون عن المركز الصحفي للبانوراما علي رواد السينما فوجئت في الأيام التالية بامتلاء القاعة التي تعرض أفلام البانوراما وتأكدت أن هذا الجمهور قطع تذاكر لمتابعة هذا الحدث، طبعا نفس هذا الجمهور يتابع مايحدث علي الساحة السياسية كُلاً بطريقته وتوجه أيضاً للإدلاء بصوته في الانتخابا،ت نحن شعب لا نحرم أنفسنا من أشياء تثير اهتمامنا حتي في أحلك الظروف. أول ما يلفت انتباهك في أفلام هذه الدورة هو أهمية موضوعات الأفلام، فأنت عندما تشاهدها لا تشعر بغربة ما تطرحه، هناك موضوعات تصلح لكل زمان ومكان وكان أبرزها فيلم الشرطة «polisse» إخراج مايوين لوبيسكو ولعب أدوار البطولة فيه كارين فييار وجووي ستار ومارينا فوبي، وقد حصل الفيلم علي جائزة لجنة التحكيم في الدورة الماضية لمهرجان «كان» أنت في فيلم «الشرطة» أمام شريط سينمائي يعرض لك نماذج بشرية من لحم ودم من خلال فريق من الضباط يعملون في مجال حماية الأطفال سواء أكانوا يحملون الجنسية الفرنسية أو غيرها. فهذه أم أفريقية تأتي بنفسها لشرطة حماية الأطفال لتسلم ابنها ليحصل علي فراش دافئ وطعام، وطبيعي أيضا أننا نشاهد أفراد الشرطة ينفعلون علي بعض النماذج السلبية من الآباء وظهر ذلك في مشهد المرأة المسلمة التي تعمل ضمن فرقة حماية الأطفال عندما ثارت علي الأب الذي يريد تزويج ابنته الصغيرة رغما عنها وأخرجت له «المصحف» وصرخت في وجهه قائلة: ماهو النص القرآني الذي يجعلك تجبر ابنتك علي الزواج، وأيضاً الضابط الذي اعتدي علي الأب بالضرب أثناء التحقيق بتهمة اعتدائه جنسياً علي طفلته، نماذج عديدة يطرحها الفيلم سواء أكانت تمس الضباط أنفسهم وعلاقاتهم ببعضهم البعض داخل إطار عملهم وعلاقاتهم الزوجية المتوترة أو الأطفال الذين في حاجة لحماية. إيقاع الفيلم يجعلك تلهث خلف أحداثه المتعاقبة لدرجة تجعلك تكتم صرختك تجاه ما يحدث للكثير من الأطفال في جميع أنحاء العالم بلا استثناء. الطفولة علي الطريقة البلجيكية أما الفيلم البلجيكي «الطفل والدراجة» فقد حصل علي الجائزة الكبري من مهرجان «كان» هذا العام وكانت بطلته الفرنسية سيسيل دو فرانس مُرشحة لجائزة أفضل ممُثلة وهو من الأفلام التي استوقفتني. لسببين أهمهما أنك أمام فيلم بطله طفل لا يتعدي الثانية عشرة يبهرك بأدائه وانفعالاته التي تعبر عن عدوانية الشخصية التي يؤديها نظرا لتخلي والده عنه دون مبرر، والمؤكد أنك عندما تشاهد الفيلم لابد أن تقارن بينه وبين أفلامنا التي تظهر الأبناء بصورة بعيدة عن الواقع تماما لتسأل نفسك السؤال الصعب الذي لا تجد له إجابة وهو: لماذا لا نقدم أفلاما تعبر عن قضايا المراحل العمرية المختلفة بداية من الطفولة وحتي المراهقة، علي غرار أفلام «الشرطة» و«الطفل والدراجة» وغيرها من الأفلام التي تحمل قضايا مهمة لهذه الفئة العمرية؟ خاصة إذا علمت أن ميزانية الفيلم الأخير تبدو متواضعة لكنك لا تستطيع منع نفسك من إبداء إعجابك بالتجربة التي حملت توقيع مخرجي الفيلم لوك داردن وجون بيير داردن وهما بالمناسبة شقيقان وقد حصدا العديد من الجوائز في المهرجانات العالمية عن معظم أفلامهما. عودة النجم الإسباني لمخرجه المفضل «الجلد الذي أعيش فيه» من أقوي الأفلام التي شاهدتها في بانوراما الفيلم الأوروبي وهو فيلم للمخرج العبقري بيدرو ألمودوفار والممثل الإسباني أنتونيوبانداريس ونفس الثنائي اجتمعا في العديد من الأفلام التي لاقت نجاحا كبيرا والطريف أن الفيلم الأول للمُمثل الإسباني في بداية الثمانينيات حمل توقيع نفس المخرج. ورغم جاذبية الفيلم في كافة عناصره إلا أنه لم يحصل إلا علي جائزة الشباب في مهرجان «كان» 2011، طبعاً لا ننكر أن المنافسة كانت شرسة علي جائزة أفضل مُمثل بين الإسباني أنتونيو بانداريس، والفرنسي جون وجاردان وقد حسم الأمر لجنة التحكيم لصالح الأخير. أما بطلة الفيلم إيلينا أنايا فكانت أحق بجائزة أفضل ممثلة إلا أن الجائزة ذهبت للممثلة الأمريكية كريستين دانست عن الفيلم الدانماركي «مليونكوليا».. أنت في المهرجانات الكبري تستطيع التأكد من حقيقة اختلاف أذواق لجان التحكيم مهما كانت جودة الأفلام. «الفنان» والسيمفونية الصامتة من الأفلام التي لابد أن تستوقفك فكرتها وتنبهر بتنفيذها علي مستوي الإخراج وأداء ممثليها وجميع العناصر الأخري من موسيقي وديكور وخلافه هو فيلم «الفنان» للممثل الفرنسي جون وجاردان ومعه الممثلة البلجيكية بيرنيس بيجو تخيل حضرتك أنك تشاهد فيلما صامتا بلا حوار في قصة «اتهرت» سينمائيا.. طبيعي إذا لم تجد ما يجذبك ويبهرك ستغادر القاعة فورا، لكن أن تظل 100 دقيقة وهي مدة الفيلم مُندهشاً بصورة شديدة التميز وألق فني في أداء الممثلين ومخرج يعي جيداً خصوصية التجربة فهذا يعني أن مُخرج الفيلم ومنتجه وأبطاله لديهم إيمان بتقديم الأفكار المُبتكرة بشرط صناعتها بشكل جيد بعيداً عن الاستسهال.. ورغم فوز فيلم «الفنان» في العديد من المهرجانات لكن المؤكد أنه سيكون له جمهوره الخاص جداً في أوروبا وأمريكا وسيحقق أرقاماً لا بأس بها في شباك التذاكر لكن إذا عرض جماهيرياً في مصر لن يحقق أرقام تُذكر. وأخيرا: اعلم أن ماريان خوري سبق لها المغامرة واستأجرت قاعة عرض بإحدي السينمات وعرضت بها أفلاماً أوروبية فقط وتحملت وحدها تكلفة التجربة لكنها لم تجد من يشجعها علي هذه التجربة، وليت المسئولين عن هذا الأمر يشجعون فكرة الاستمرار في عرض الأفلام الأوروبية طوال العام بجانب الأفلام الأمريكية، المؤكد أن المصلحة ستكون متبادلة بينهم وبين جمهور السينما.