عندما تدخل إلى مكتبه تمر فى سلاسة شديدة لدرجة أنك لا تستطيع تصديق أنك فى حضرة مسئول فى مصر.. هذا ما شعرت به لأول وهلة فى مكتب اللواء حافظ فكرى - رئيس الهيئة العامة للنظافة الجديد بالجيزة والأسبق فى نفس الوقت. وقبل أن تطأ قدماى غرفته تنامى إلى أذنى صوت رجل يصرخ بكل عزمه قائلا : عاوز شغل.. أنا مش معين تماثيل، فدخلت لأراه منهمكا فى متابعة سير العمل مع الموظفين.. وبالرغم من أن مكتبه هو الوحيد المضىء فى الهيئة بعد الإفطار، لكن هذا الضوء، وحركات العمل المستمرة داخله بعثت الحياة كلها فى أرجاء المبنى بعد أن سيطر عليه السكون لفترة طويلة. حكى لى عن التجربة القاسية التى عاشها.. فلم تكن رئاسته للهيئة للمرة الأولى، بل سبقتها مرة قبل خمس سنوات تولى فيها المسئولية لمدة سبعة أشهر فقط انتهت باستقالة شهيرة على الهواء أعقبها صمت طويل رأى خلاله الكثير من التلاعب والفساد. اقتربت لأعرف منه كيف أعاده أصحاب المقشات بعدما استبعده أصحاب المعالى ؟ سألت اللواء حافظ فكرى : كيف عدت إلى الهيئة بعد خمس سنوات من الإقصاء ؟ وهل توقعت رجوعك مرة أخرى ؟ - الحقيقة أننى لم أتوقع أن أعود مرة أخرى إلى الهيئة، خاصة بعدما حدث وبالرغم من أننى أثق فى الله ثقة كبيرة، لكنى لم أتوقع كل هذا الخير. فبعد إقصائى عن العمل قهرا وزورا وتضليلا رجعت، وبعد خمس سنوات تأكدت أن الله يمهل ولا يهمل، وحتى الآن لم أصدق ما حدث. .. منذ خمس سنوات فوجئ الجميع باستقالتك الشهيرة على الهواء أعقبها تعتيم على الأسباب.. ألا ترى أن الوقت قد آن للإفصاح عن تفاصيل وملابسات ما حدث ؟ - كنت فى اجتماع مع المحافظ فتحى سعد، وسكرتير المحافظة سيد البرعى بخصوص متابعة سير العمل، وموضوع شركات النظافة الوطنية التى كنت أول رئيس للهيئة يدخلها ويتعاقد معها. وكنت قد لاحظت أن سكرتير المحافظة يريد أن يتصعد ومن أجل ذلك يسىء إلى هيئة النظافة وعدة هيئات أخرى، وبناء على ذلك فوجئت به يقول للمحافظ فى الاجتماع : عندما أنزل إلى الشارع أشعر أن رئيس هيئة النظافة يرش لى عمال فى الطرقات والشوارع ليوهمنى بأن هناك نظافة واهتماما فى العمل، ولينال استحسانى، فأجبته قائلا : من الممكن أن افعل ذلك لكن فى حالة واحدة، وهى نزول رئيس الجمهورية إلى الشوارع وليس من أجلك أنت، وأنا أرفض أن تتحدث معى بهذه الطريقة. فلم يُعجب المحافظ بكلامى، وهب واقفا وقال لى : ماتيجى تدير الاجتماع مكانى يا حافظ بيه.. وبعد يومين فوجئت بقرار استبعادى.. وهنا تدخلت مستفسرة : ولكن ما حدث ليس سببا قويا لاستبعادك بهذه الطريقة بعد أقل من سبعة أشهر ؟ - للأسف المحافظ فتحى سعد كان ضعيف الشخصية، وطوال مدة رئاسته للمحافظة لم يأخذ قرارا وحيدا بنفسه، كان موظفا روتينيا رديئا قدرته على اتخاذ القرار بطيئة، لم يكن ينزل الشارع مطلقا.. يدير المحافظة من خلال شلة تلتف حوله، ومنهم السكرتير الذى غضب كثيرا عندما واجهته بحقيقة ما يقول. لذلك فقد استقلت على الهواء، فلم يكن يشرفنى أن يقترن اسمه بأى قرار اتخذته، وقدمت استقالتى لوزير الحكم المحلى، وليس له. فقام موظفو هيئة النظافة بعمل اعتصام فى الشارع وفى الهيئة وأمام مكتبى، ورفضوا أن أغادر المكتب، وبقيت فيه 72 ساعة.. بالرغم من أن مدة رئاستك للهيئة لم تتجاوز سبعة أشهر لكننا لاحظنا خصوصية فريدة فى العلاقة بينك وبين مرؤوسيك لدرجة أنهم بعد خمس سنوات هتفوا وطالبوا برجوعك للهيئة.. فما سر هذه العلاقة ؟ - مشكلة العمال كانت تكمن فى حقوقهم المهدرة ، وآدميتهم المهدرة والمهانة. وقد أدركت ذلك من اليوم الأول فى عملى منذ خمس سنوات، فحاولت جاهدا توفير كل مطالبهم وسد جميع احتياجاتهم، والأهم من كل ذلك هو الحرص على التعامل معهم بمنتهى الآدمية والحرص أيضا على صون كرامتهم حتى يشعروا بالعزة ويقبلوا على العمل بنفس راضية وسمحة.مما خلق كيمياء بينى وبين العمال، وأحبونى بدرجة كبيرة بالإضافة إلى أننى كنت أنزل الشارع وأكنس معهم، وأشعرهم بأننى واحد منهم وأكافئ المجتهد، وأعاقب المخطئ، ولم أغلق مكتبى فى يوم من الأيام أمام أحد منهم، فمكتبى كان ومازال مفتوحا أمام الجميع، وبكل هذا أصبحت أول رئيس منتخب على مستوى جمهورية مصر العربية، فأنا لست معينا بل منتخب من قبل العمال. احك لنا عن شعورك طوال ال(خمس) سنوات الماضية ؟ - لقد عشت خمس سنوات مريرة، شعرت فيها بطعم الظلم والقهر، لكنى تغلبت على ذلك بالعمل، فقد عملت كمدرس بأكاديمية الشرطة فى أبوظبى، وعضو بالمجالس القومية المتخصصة، وعينت وزيرا للحكم المحلى فى حكومة الظل التى وضعها حزب الوفد. وكنت أنوى خوض الانتخابات هذا العام عن محافظة الإسماعيلية إلى أن تلقيت نبأ عودتى للهيئة، فألغيت كل مشروعاتى من أجل الهيئة. فى الفترة القصيرة التى توليت فيها رئاسة الهيئة.. هل رأيت فسادا أو تلاعبا من جانب المسئولين كالمحافظ أو تابعيه؟ - كثيرا.. فعلى سبيل المثال كان عندى فى الهيئة 22 مليون جنيه، وكان من المفروض أن أشترى معدات وعربات وأدوات لتنظيم حى العمرانية والهرم وبولاق الدكرور، ففوجئت بالمحافظ يطلب منى أن أترك الفلوس لأدفع منها للشركة الإيطالية كل شهر مبلغ 3 ملايين جنيه. فسألته : وماذا سأفعل فى المعدات التى تحتاجها الهيئة، فقال لى : ما تتصرفش فى حاجة، لكنى رفضت ويعتبر هذا الموقف أحد المواقف التراكمية التى جعلت المحافظ يستبعدنى. وأيضا كان يرسل لى سكرتير المحافظ معه رجل لأشترى منه صناديق القمامة، ومعدات النظافة، وكنت أرفض لأنه يريد أن يبيع لى الصندوق الواحد ب 1400 جنيه فى حين أن العمال كانوا يصنعون الصندوق ب 700 جنيه وأعطى لهم 100 جنيه مكافأة فيقف الصندوق بنصف الثمن الذى يريدنى المحافظ أن أشتريه به. وعلى هذه الشاكلة مواقف عدة، لكنى فى كل مرة كنت أصر على موقفى ولا يهمنى أحد.. مما أدى ذلك إلى ترسب المواقف فى ذهن المحافظ وأتباعه، حتى حانت اللحظة التى استبعدونى فيها. لكن الله يمهل ولا يهمل.. وعدت مرة أخرى. من أبلغك بنبأ رجوعك للهيئة مرة أخرى ؟ - البداية كانت سماعى بأن العمال فى هيئة النظافة اعتصموا، وأضربوا عن العمل مما أدى إلى توقف حركة المرور فى شارع السودان، لكنى لم أعرف السبب حتى اتصل بى د. على عبدالرحمن المحافظ وطلب منى أن أجلس معه لمناقشة بعض الأمور، وبالفعل ذهبت، وتحدثنا عن مشاكل الهيئة والنظافة، بالإضافة إلى أنه كان يريد أن يتحدث معى عن الشركات الوطنية للنظافة قبل أن يجددوا معهم. بعد ذلك بيومين تجددت المظاهرات مرة أخرى، وفى هذه المرة هتف العمال وطالبوا بعودتى، وعلى الفور تحدث معى المحافظ وأخبرنى بقرار عودتى، فذهبت إلى العمال لأجد ترحيبا شديدا، فقمت بإزالة الطوب الذى وضعوه فى شارع السودان، وتحدثت معهم واجتمعت بهم واستمعت إلى كل شكواهم وأنا أعكف الآن على حلها كلها. والشىء الطريف هو استغراب رجال الشرطة، ورجال الشرطة العسكرية من فض الاعتصام بهذه السهولة بعد أن حاولوا فضه على مدار أربع ساعات ولم يستطيعوا. صف لنا وضع الهيئة الآن، مقارنة بالوضع الذى وجدتها عليه من خمس سنوات؟ -الحقيقة أن وضع الهيئة الآن أسوأ بكثير مقارنة بالسابق، ففى السابق كانت مؤسسة قوية، وكان هناك حماس بين العاملين، ونشاط وهمة. وكنت أرى أناسا موهوبة ومبدعة ومدركة لكل ما يحيط بها وما يحدث بالهيئة. أما الآن فوجدتها ضعيفة، وتحتاج إلى مجهود كبير، فالمعدات معظمها متهالك، وتحتاج إلى تجديد، بالإضافة إلى المطالب الفئوية الخاصة بزيادة الأجور. لقد تعودت أعيننا فى الفترة الأخيرة على مشاهد القمامة فى كل مكان، فمتى ستعود الجيزة نظيفة كسابق عهدها، وما هى مقترحاتك المقدمة بشأن هذه المشكلة المفزعة ؟ - لقد اجتمعت مع د. على عبدالرحمن محافظ الجيزة، وعرضت عليه مقترحاتى بشأن التطوير، وكان أهمها هو البدء بستة أحياء ومناطق لتنظيفها. وأيضا تشجيع شركات النظافة الوطنية، وأنا أدعو الشباب لخوض تجربة النظافة والدخول بها، فهى عمل مربح وفلوسها مضمونة. فما عليهم سوى أخذ القمامة من المنازل، وتوصيلها إلى المقالب.فأنا لا أريد شركات تحتكر السوق، لكنى أريد شبابا.. دما جديدا لديه الحماس لمنافسة القديم، وسوف نطرح ذلك خلال الأسبوعين القادمين. وكيف ستواجه ظاهرة تسول عمال النظافة بالمقشات ؟ - أتمنى أن تقضى زيادة 200% على هذه الظاهرة، ونراهم فى مظهر أفضل، فعندما أتيت إلى الهيئة فى المرة الأولى سألت العمال: لماذا تشحذون ؟ فقالوا : لنوفر ثمن مواصلاتنا، فقمت على الفور بشراء عربات تقلهم إلى أماكن سكنهم، ثم وعدونى بأن يتركوا الشحاذة والتسول، وبعد أن تركت الهيئة عادوا مرة أخرى إليها. وقد تحدثت إليهم اليوم، ووعدونى مرة أخرى بالالتزام لكن بعد الزيادة، وأنا فى الحقيقة خجلان من مشهد تسول العمال بالمقشات، وإن شاء الله سنقضى على هذه الظاهرة قريبا. لقد زادت الشكاوى فى الفترة الأخيرة بشأن إضافة رسوم النظافة على فاتورة الكهرباء، واختلافها من منطقة لأخرى، فهل من الممكن إلغاؤها، أو على الأقل تفعيلها ؟ - إلغاؤها غير وارد، ولكن تفعيلها جار عن طريق شركات النظافة. وهناك شىء أحب أن أوضحه، وهو أن قيمة المبلغ المفترض تحصيله من الجيزة 7 ملايين جنيه، وهناك مناطق كالوراق وأرض اللواء لا يتم تحصيل القيمة فيها نظرا لانخفاض مستوى المعيشة فيها، فكل ما يتم تحصيله هو 5,1 مليون فقط، والشركة الإيطالية تأخذ 3 ملايين جنيه شهريا، فيتبقى 5,1 مليون. ونحن لدينا 8 شركات وطنية تأخذ 700,1 مليون شهريا، وهذا يحدث كل شهر. وهنا تدخلت مستفسرة وما الداعى لوجود شركات أجنبية ليس لها دور سوى الحصول على أموال طائلة كل شهر ؟ - للأسف هناك عقد وقعه عاطف عبيد مع الشركات الأجنبية لمدة خمسة عشر عاما، ،لا يمكن فسخه بأى حال من الأحوال. وكل ذلك بالرغم من تلكؤهم وعدم انضباطهم، وإن حدثت أى مشكلة فالفاصل بيننا سيكون المحكمة الدولية. وهناك شىء آخر وهو أن تكلفة الشركات الأجنبية وصلت الآن لمليون جنيه، نظرا لانخفاض كفاءتهم، ويعمل بها عمال مصريون. كيف يشعر المواطن فى الشارع المصرى بأن دور الهيئة العامة للنظافة أصبح مفعلا عن ذى قبل ؟ - لقد تعود الناس فى مجتمعنا على أن يلقوا بجميع همومهم على الدولة، لكنى اليوم أريد أن ألقى همومى على الناس وأقول لهم : لا يوجد فى أى بلد من بلاد العالم شىء يعمل 24 ساعة، فهذا غير ممكن أو معقول لكننا فى مصر نعمل 24 ساعة، والمحلات التجارية عندنا تلقى بمخلفاتها 6 مرات فى الشارع يوميا، فإذا التزم كل شخص بإلقاء القمامة فى الصندوق المخصص لذلك، سيمر عليه عمال النظافة ويجمعونها وسنقوم بعمل غرامات رادعة لكل شخص يلقى قمامة فى الشارع. فللأسف ثقافتنا متواضعة جدا فى مجال النظافة، ومن هنا أتوجه بعدة نداءات: لابد أن نخاف على بلدنا، ولابد أن نشعر بقيمة مصر خاصة بعد قيام الثورة، وعلينا أن نرتقى بثقافتنا فى مجال النظافة ونرى ماذا تفعل شعوب العالم بالنسبة لنظافتها. فالشعب فى ميلانو خرج بنفسه ليجمع القمامة عندما أضرب العمال عن العمل، وعلى الشباب أن يخرجوا ويكرروا نفس تجربة النظافة فى ميدان التحرير، وعلى الإعلام أن يقوم بحملة إرهاب فى موضوع النظافة. فالجميع عليه دور فى هذه الدولة من أجل النظافة. ما هى أكبر مشكلة تواجهك الآن فى الهيئة؟ - مشكلتى الحقيقية هى عدم استطاعتى تعيين عامل نظافة الآن وهذه المشكلة بسبب أحمد نصار - الرئيس السابق للهيئة، فقبل أن أترك الهيئة كنت قد تركت 12 مليون جنيه للعمالة المؤقتة حتى أغطى الدرجات الوظيفية لعمال النظافة. لكن للأسف قام أحمد نصار بتبديد موارد الهيئة فى المجاملات وتعيين دبلومات على درجات وظيفية حتى استنفد كل الدرجات الوظيفية لعمال النظافة، ولا أستطيع الآن تعيين أى عامل نظافة نظرا لعدم وجود أى درجة وظيفية، فقد قام هذا الرجل بشرخ كيان الهيئة لأن العمال هم كيان المؤسسة. وأخيرا.. ما الحلم الذى يراودك تحقيقه الآن ؟ أن أجعل الناس تحب بعضها البعض، فالحب هو الملك على كل شىء وإذا لم يحب المرؤوسون رئيسهم، فهو رئيس فاشل فبالحب وبالحنان تستطيع أن تفعل المستحيل.