عندما تتعالى أصواتنا اليوم بضرورة أن تكون مصر الجديدة دولة مدنية يسود فيها القانون وتعلو فيها قيم المواطنة، حيث الكل سواء أمام القانون لا يفرق بين المصريين جميعاً دين أو جنس أو عرق أو لون، نتذكر على الفور أبو الدولة المدنية الذى دفع حياته ثمناً لأفكاره وآرائه وبحثه الدائم فى الفقه والشريعة الإسلامية عن مدنية الدولة فى الإسلام.. قال عنه أصدقاؤه: إنه كان يُسخر كل وقته للتعمق فى دراسة الفقه والشريعة، وذلك لاعتقاده الكامل بأن الدين الإسلامى يدعو لدولة مدنية ولا مجال فيه لدولة دينية. إنه فرج فودة الذى نعيش هذه الأيام ذكرى وفاته التاسعة عشرة والذى كان ومازال علم من أعلام التنوير فى العالم العربى والإسلامى.. عاش يحارب الجهل والتخلف بالفكر المستنير من أجل مصر الناهضة وحلم بالدولة المدنية التى بدونها لن نكون إلا إحدى الدول المتخلفة التى تتلقى المنح مقابل التبعية والانبطاح. كان فرج فودة.. صوت العقل فى زمن الخرافة. وصرخة المدنية فى وجه التخلف.. حين عجزوا عن مقارعته الحجة بالحجة والدليل بالدليل.. قتلوه.. بعد أن كشف حقيقتهم الضحلة. قتلوا جسده لكنهم لم يقتلوا فكره. وهب نفسه للدفاع عن آرائه بالكلمة والبرهان وظل ينكر ويقاوم استخدام السلاح لفرض أحكام الإسلام ومبادئه على المجتمع، أو إلقاء القنابل على الآمنين أو استخدام الجنازير والسكاكين لذبح الناس أو هدم الكنائس أو مخالفى الرأى أو العقيدة، ولكنه حمل قلمه لمهاجمة أساليب الذين يغطون جرائمهم بالجلباب الأبيض ويخفون إرهابهم وراء اللحى السوداء ويسمعون الآخرين اسم الإسلام بصوت الرصاص ويكتبون قرآنهم بدم الأبرياء.. فقد أدرك أن هؤلاء هم الذين قال عنهم الإمام محمد عبده: «إنه دين أردت صلاحه وأحاذر أن تقضى عليه العمائم». إنه التاريخ يعيد علينا أحداثه دون أن يترك لنا عظاته والعيب فينا نحن لا فى التاريخ بالطبع . وفى كلمة لدكتور أحمد صبحى منصور أحد شيوخ الأزهر فى حفل تأبين فرج فودة بنقابة الصحفيين يوم 25 نوفمبر1992 الذى أقامته المنظمة المصرية لحقوق الإنسان يقول: بعد الإفراج عنى وعن إخوتى القرآنيين، توثقت الصلة بينى وبين فرج فودة. وفى سنة 1992 اتفقنا على إشهار حزب جديد باسم «حزب المستقبل» يقف ضد تيار التطرف الدموى الذى كان يستبيح دماء الأقباط وأموالهم فى موجة عنف لم تعرفها مصر حتى فى العصور الوسطى عصور التعصب. ونشرت الصحف البيان التمهيدى الرسمى عن الحزب ومؤسسيه وفورا أصدرت ندوة علماء الأزهر والتى تمثل التطرف السلفى الوهابى بيانا دمويا فى تكفير فرج فودة وتكفيرى والتحذير مسبقا من صدور الموافقة الرسمية على الحزب الجديد. نشرت جريدة «النور» التى كان يمتلكها الحمزة دعبس هذا البيان بفتواه الدموية فى يوم الأربعاء الأول من يونية 1992 ورأيته على مكتب فرج فودة صبيحة ذلك اليوم. قال: «لا بُدَّ أن أردَّ عليهم». قلت له «لا تفعل. إنهم لا يستحقون» كان مقررا أن يسافر فودة إلى فرنسا بعد عيد الأضحى مباشرة ليعود بعد أسبوعين لنستأنف معاً إجراءات إقامة الحزب. ولكنهم يوم الاثنين التالى اغتالوا فرج فودة أثناء خروجه من مكتبه وأصابوا ولده الصغير بجراح خطيرة». المثير والغريب حقاً هو ما حدث أثناء محاكمة الجناة بعدها حيث وقف الشيخ محمد الغزالى السلفى يدافع عن القتلة فى المحكمة التى حولها إلى محاكمة للقتيل وليس القاتل. قال الغزالى «إن القتلة افتأتوا فقط على السلطة حين بادروا بقتل فرج فودة وهو مستحق للقتل باعتباره مرتدا».. والواقع أنهم اغتالوه لأنه قبل أن يتحاور معهم رغم اختلاف الأدوات: هو بالحجة والمنطق والبحث العلمى وهم بالرصاص والنيران والدم ويبدو أن هذا هو مصير كل من يختلف معهم أو يعتقد من قريب أو من بعيد، إنهم يحملون فكرًا يمكن مقارعته بالفكر, ذلك لأنهم إرهابيون بالأجر، أو بالطموح السياسى الشره, وبالكراهية لكل «آخر»، بل بالعداء للحياة، تشهد عليهم عصبيتهم الهستيرية وخروجهم على آداب الحوار وأكاذيبهم وتشويههم لخصومهم بكل الوسائل غير الشريفة، وعداؤهم للديمقراطية وحقوق الإنسان، وشرائطهم الصوتية العنصرية الساذجة وكتبهم الفرحة بالقتل وتبرير الجريمة من نوعية كتاب «من قتل فرج فودة؟» التى قال عنه الكاتب «على سالم»: «إنها المرة الأولى التى يُظهر فيها مصريون الفرح لموت إنسان ويسجلون ذلك فى كتاب». إن مصر التى عرفت أخناتون وفكرة الأبدية وتعاليم بتاح وديانة إيزيس والعلامة الصوفى ابن الفارض وأفكار ابن رشد الحرة واحتضنت مريم العذراء والسيد المسيح، ومرقس الرسول.. بل حبذت الاجتهاد الشيعى الذى أقام الأزهر الشريف، بكل ما يدل عليه ذلك من تنوع ورحابة فكر، وما يمثله من ثراء وتميز ثقافى وإنسانى لشخصية مصر. هل يعقل أن تشهد نفس الأرض قتل الكُتّاب وأصحاب الرأى والفكر؟ إن من يحاول استبدال كل ذلك الثراء الفكرى الإنسانى العبقرى بالإسلام المسلح، البدوى، البترولى، الذى لايعرف إلا فقه القتل والخوف والتكفير والارتداد عن الإسلام، إنما يعود بنا إلى غياهب الجاهلية قبل بزوغ الإسلام بزمان.. فالواقع إننا كمسلمين فى أمس الحاجة ليس إلى دعاة دينيين، بل إلى دعاة فكر ومناخ علمى ينهض بنا إلى مقدمة الأمم كما كنا فى عصور الإسلام الزاهرة ولن يتأتى ذلك إلا بالتسليم بحق الإنسان المسلم فى الشك الذى هو مقدمة طبيعية لليقين الذى يبنى الحضارات.. ذلك الحق الذى قال عنه الإمام أبو حامد الغزالى رحمه الله «من لم يشك لم ينظر، ومن لم ينظر لم يبصر، ومن لم يبصر بقى فى متاهات العمى والضلال». وها نحن الآن نكتوى بنيران العمى والضلال اللذين يدفعان بنا للإرهاب الفكرى ثم من بعده الإرهاب المسلح الذى أصبح سائداً فى المنطقة العربية والإسلامية بأسرها. من أجل ذلك دعا فرج فودة ويدعو كل المخلصين لتراب هذا الوطن إلى الدولة المدنية وقد قالها فرج فودة صادقاً قبل أن تناله يد الغدر والجهل والإظلام: والذى نفس مُحمد بيده لو أن محمداً بن عبدالله الهاشمى كان حياً بينكُم اليوم ما وسعه إلا أن يبنى الدولة الإسلامية المدنية العلمانية. أقول قولى هذا وأجرى وأجره على الله.