كنت آخر من أعلن شعوره بالقلق. طوال الأسبوع الماضي، كنا نتلقي إشارة بعد الأخري تهدف إلي بث القلق في نفوسنا، وكانت استجابتنا - أصدقائي وأنا - مختلفة، بعضنا سقط في القلق بعد تسريبات عن موقف الإخوان، وبعضنا تأثر ببرامج المساء، وبعضنا أقلقه مواقف الكتاب والصحفيين، ثم جاء بيان المجلس العسكري ليعلن انسحاب القوات المسلحة من الميدان ليشعرنا جميعا بأننا سنكون في الميدان وجها لوجه أمام البلطجية. رغم ذلك لم أشعر بالقلق إلا عندما تلقيت مكالمة من صديقة قالت لي إن السائق الذي يعمل معها- وهو من ثوار التحرير - رأي بنفسه بلطجية صفط اللبن ينظمون أنفسهم استعدادا للهجوم علي مظاهرة 27 مايو. كنت بالصدفة البحتة قد وصلت يومها إلي الميدان مبكرا وكنت بصحبة ابنتي والدكتورة عفاف صديقتي نقف أمام سفير للسياحة، يمر بجوارنا الجرحي محمولين علي الأعناق ينزفون بغزارة، ويمر رجال يحملون الحديد وتيل الفرامل الذي يستخدمه البلطجية في ضرب شبابنا، وآخرون يسحبون خيولاً ليسلمونها للجيش الواقف علي مدخل طلعت حرب. هذا كله لم يؤثر علي شعورنا بالأمان الكامل ولو للحظة. تحركنا قليلا في اتجاه هارديز لنشترك في الغناء مع المجموعة الواقفة هناك، أحلف بسماها وبترابها، الغناء يضاعف الشعور بالأمان. يأتي شاب مندفعا يصرخ في المجموعة «انتوا بتغنوا هو ده وقت غنا، عايزين مية شاب عند مدخل البستان» يندفع الشباب في اتجاه مدخل البستان، ونعود للغناء. حتي يقطعه نداء آخر قادم من ميكروفون الإذاعة بصوت مذعور «يا شباب احموا الميدان عايزين خمسين في اتجاه كوبري قصر النيل» يخرج أكثر من العدد المطلوب ويعود الغناء. كنت أتلقي مكالمات تليفونية صارخة من أصدقائي الذين وصلوا الميدان متأخرين فقابلهم البلطجية ومنعوهم من الدخول، ومن أفراد أسرتي المتابعين للميدان علي شاشة تليفزيون الجزيرة. تحمل مضمونا واحدا أن الميدان يتعرض لمذبحة. عندما تركت الميدان وعدت إلي بيتي ثم اضطررت للنزول أثناء حظر التجول ومررت ببعض شوارع القاهرة، عرفت معني الذعر الحقيقي، واتصلت بعفاف - التي أصرت علي البقاء في الميدان -لأبثها ذعري تماما كما كان يفعل أقاربي معي، ولتمنحني الشعور بالأمان الذي فقدته بمجرد أن غادرت الميدان. لذلك بمجرد أن انتابني القلق من أن تتكرر موقعة الجمل يوم27 مايو تذكرت أن الأمان في الميدان. في الطريق إلي الميدان كنا نتلفت حولنا بحثا عن البلطجية، فأطلقت صديقتي شعار اليوم - البلطجية والشعب إيد واحدة - وصدقت نبوءتها. لم يظهر البلطجية.. حتي المشاكل البسيطة التي حدثت كان أطرافها متظاهرون يديرون اختلافاتهم بطريقة عنيفة، ويتم السيطرة عليها بمجرد رفع شعار إيد واحدة. كنا قد استمعنا معا ليلة الخميس إلي حديث اللواء محمود حجازي مع عمرو خالد وكان يحكي عن أخلاق «الأشقياء» التي تظهر في الأوقات العصيبة. وكنا نتفق معه فيما بيننا ونستعرض الأدلة علي أن الخارجين عن القانون والمسجلين خطر والعشوائيين لديهم أخلاق لا نعرفها ولا تظهر إلا وقت الشدة. شعار الجيش والشعب إيد واحدة ظهر في الأيام الأولي للثورة «مرحلة القبلات» و«التعبير لنوارة نجم». إذا سمعته بعيدا عن الميدان لن يترك أي إيحاء، فهو شعار عادي مباشر لا يحمل قوة الشعب يريد، ولا خفة الدم إرحل يعني إمشي ولا إيقاع هو يمشي مش هنمشي. لكنني سمعته ورأيته للمرة الأولي في الميدان فكان رائعا وجميلا وموحيا إلي درجة أنني حاولت الوصول للشاب الذي يقود الهتاف لأتعرف عليه، كان يقف علي مكان مرتفع «قبل اختراع المنصات» ويهتف بصوت رائع وفي الوقت نفسه يمد إحدي ذراعيه ويقول «الجيش»، فيرد الجمهور «الجيش»، ثم يمد الذراع الأخري قائلا «والشعب»، فيرد الجمهور «والشعب» ثم يشبك كفيه ويهز ذراعيه بقوه ويقول «إيد واحدة». فيرد الجمهور «إيد واحدة»، ويظل يربط بين حركة ذراعيه والهتاف ويقلده الجمهور. وقفت وسطهم وتشجعت وقلدتهم وهتفت الجيش والشعب إيد واحدة. كنت سعيدة مثلهم تماما، سعيدة لأنني وجدت الإجابة عن سؤال شابة كانت في مظاهرة تحت بلكونتي يوم28 يناير وكانت المظاهرة تصارع فرقة من الأمن المركزي بأجسادها وكانت تلقي عليهم قنابل الغاز بأعداد مهولة وترش عليهم خراطيم المياه وهم يؤدون صلاة المغرب تماما كما حدث علي كوبري قصر النيل، وكنت قد ناديت عليهم بمنتهي السعادة أزف إليهم بشري «الجيش نزل.. خلاص الجيش نزل» فسألتني إحدي الشابات «معانا ولا معاهم؟» فلم أجد إجابة مناسبة بل إنني فوجئت بالسؤال، فكررت «الجيش نزل الجيش نزل» فسألتني شابة أخري «أيوه بنقولك معانا ولا معاهم ) أحبطني السؤال وأجبت مش عارفة. لذلك أحببت أن أردد ذلك الهتاف في الميدان مصحوبا بتلك التمرينات الرياضية. كان الشعب يقبل الجيش طوال أيام الثورة والجيش يتلقي القبلات، وكان الشعب يهتف إيد واحدة، والجيش يقف عند المداخل المؤدية للميدان يسمع الشعار، وعندما قرر الجيش أن ينسحب من الميدان يوم 27 مايو شعر الشعب بالقلق والخوف والذعر ثم تغلب علي خوفه وذهب إلي الميدان فمنحه الميدان الشعور بالأمان. الصلاة - صلاة الجمعة كانت أجمل اللحظات بالنسبة لي في جمعة تجديد الثورة - جمعة 27 مايو، كان الميدان يصلي الجمعة في مجموعتين، اخترت المجموعة الأصغر لأنها كانت قريبة من مكان جلوسي. قالت لي شابة جميلة تقف خلفي في الصف «صلي بالشوز» «كنت قد خلعت حذائي استعدادا لصلاة الجمعة» فلبست الحذاء، وقلت للواقفة بجواري «صلي وانتي واقفة ما تسجديش»، قالت لي «ليه ما احنا بنصلي في الحرم رجاله وستات جنب بعض» كانت الواقفة خلفي محجبة حجاباً عادياً والواقفه بجواري منقبة. أما أنا فكنت قد انتقلت تماما بروحي إلي جو الحرم. كان صوت الصلاة الأخري يصلنا من بعيد يتداخل مع صوت صلاتنا في تناغم جميل، وكانت حرارة الجو في أشد درجاتها وكان الإمام يقرأ «إذا جاء نصر الله والفتح». بعد الصلاة اخترنا منصة حزب التحالف الاشتراكي لنستقر أمامها. ونستمع إلي أغاني الشيخ إمام وبعدها أبوالعز الحريري يلقي كلمة طويلة ثم مني مينا. أتعرف علي الجالس بجواري تحت الشجرة في الحديقة، إحدي عينيه مغطاة، اسمه محمد علي طه من دمياط، حكي لي أنه فقد عينه بسبب شظية رصاصة يوم28 يناير وأنه أجري جراحة في الفرنساوي بمساعدة سيدة اسمها هبة السويدي، لكنه أصبح لا يري بهذه العين وهي معرضة للنزيف في أي لحظة مما يؤثر علي العين الثانية، يقول «قال لي الدكتور لو اشتغلت قبل سنه هنضطر نستأصلك عينك، أصل أنا باشتغل نجار، أنا جيت هنا لأني محتاج شغل، ولأني مش هاشحت، ده حقي، هأطالب بيه مش هاشحت، أنا مش حاسس إن الثورة انتصرت، لأني مش عارف أعيش». تركني لينضم إلي مسيرة تلف الميدان، وسألني قبل أن يغادر «هي الثورة نجحت؟» قلت له «أيوه»، قال لي «قولي دليل واحد علي إنها نجحت» قلت له «أنت».