في منتصف سبعينيات القرن الماضي اتخذت الحكومة المصرية بنظام الانفتاح الاقتصادي فنشأت محلات لبيع البضائع المستوردة بتصريح من الحكومة بعد أن كانت تأتي مهربة بما عرف وقتها بتجار الشنطة.. وقد هاجم كاتبنا الكبير الراحل «أحمد بهاء الدين» نظام الانفتاح بأنه بلا دراسة متأنية وجادة وأنه «سداح مداح» وهو تعبير عامي يعني التسيب.. ولم تأخذ الحكومة برأيه وغضبت منه وظهرت طبقة جديدة ثرية في المجتمع خلال ذلك الانفتاح، وعلي الرغم من أن قانون «من أين لك هذا»؟ الذي قد صدر قبل ثورة يوليو 1952 لم يشطب من قوانين حكومة الثورة إلا أنها عملت به في حدود ضيقة.. ثم اختفي.. ولم يظهر إلا بعد ثورة 25 يناير 2011؟ - الأستاذ «أ.ع» هو بطل حكايتنا التي حدثت في بداية زمن نظام الانفتاح.. كان جالسا أمام التليفزيون مع والدته وأختيه اللتين أصبحتا علي وشك التخرج من الجامعة جلسة عائلية يحبها خصوصا عندما يجد نظرات الرضا في عيني أختيه ودعوات أمه أن يزيده الله من نعمه ويعوض عليه ما صرفه علي تعليمهما.. فهو الابن الوحيد الأكبر للأختين.. وقد اعتني والده بتربيته الدينية والأخلاقية والعلمية، ومنذ صغره وبتوجيه من والده وهو يميز الخطأ والصواب بسماحة وبدون تطرف، وعندما انتهي من دراسته بتفوق في كلية التجارة مرض والده وعلم من الأطباء أنه لا شفاء لوالده الذي أوصاه أن يعطف علي أختيه ولا يتركهما إلا بعد أن تكملا تعليمهما وتتزوجا. وهكذا حمل «أ. ع» وصية أبيه كرسالة مقدسة علي كتفيه، وقد أخبر أستاذه في الكلية أنه لن يستطيع أن يكمل دراسته العليا بسبب ظروف عائلية، وتأثر لحالته وساعده بالتزكية ليعمل في إحدي الشركات الحديثة في قسم الحسابات.. بمعاش والده القليل لوالدته وأختيه وبعمله بدأ يشق حياته محبوبا من زملائه ومقدرا من رؤسائه، ومع ذلك لم يستطع خلال السنوات الاثنتي عشرة في العمل أن يقتصد شيئا من المال، ولا يستطيع أن يشتري ملابس له إلا في أوقات مكافأة العمل الإضافي أو المنحة السنوية وبطبيعة الحال لم يجرؤ علي طلب حبيبته للزواج التي أحبها فترة الدراسة الجامعية.. لكنه كان مؤمنا أنه بإتمام رسالة أبيه وبدعوات أمه ستعوضه الحياة عن متاعبه. ولأنه ليس ملاكا فهو أحيانا يصيبه شعور بالتذمر والغيظ والغضب كما حدث له ذلك المساء من عام بداية الانفتاح في السبعينيات وهو جالس مع والدته وأختيه يشاهدون التليفزيون. - لماذا ليس لك هذا؟! لقد ظهر علي شاشة التليفزيون إعلان من هذه الإعلانات التي تستفزه.. غناء ورقص علي أنغام زاعقة لافتتاح متجر كبير.. رفوف مرصوصة بمختلف البضائع المستوردة ثم ظهر صاحب المتجر يحيي الزبائن وتسمرت نظرات «أ.ع» علي هذا الرجل.. معقول؟! هذا المحتال الفاشل في دراسته أصبح صاحب متجر؟! إنه يعرفه منذ صباه زميلا بليدا في دراسته الابتدائية وفي أول شبابه زميلا فاشلا في دراسته الثانوية وحوادث كثيرة مخجلة وتعددت مرات فصله من الدراسة إلي أن امتنع عنها تماما واختفي سنين، لم يعد يطارده يتسول منه بعض النقود، أو صحبة وآخر مرة شاهده كان جالسا في مقهي أثناء مرور «أ.ع» فنادي عليه ولم يخزله فجلس معه، لاحظ بجانبه حقيبة سفر، وأجاب علي تساؤله أنه يعمل لحساب أحد التجار.. تاجر شنطة.. يومها رثي «أ.ع» لحالة الرجل من حكايات حكاها له عن العذاب الذي يلاقيه.. ثم اختفي مرة أخري، وها هو يظهر أمامه علي شاشة التليفزيون يعلن إعلانا سوقيا عن بضاعته ويبتسم وهو جالس خلف مكتب فخم وفي يده سماعة التليفون.. عرف من الإعلان موقع المتجر واستأذن من أسرته، نزل مسرعا ليسأل صاحبه من أين له هذا؟! استقبله الرجل في مكتبه مرحبا بأعز من عرف في حياته، وسأله عن عمله. وتعجب أنه لم يتزوج وقال أنه مدين له بالمال الذي كان يعطيه له وبصداقته النقية، وهو يسعده أن يرد إليه بعض جمائله، قال «أ.ع» إنه لم يحضر ليطالب بديونه القديمة لكنه جاء إليه بعد أن شاهد هذا الإعلان السوقي ليسأله من أين له هذا؟! نظر إليه الرجل بدهشة ثم ابتسم وضحك وجذبه ليشاهد متجره.. أخبره وهما يتجولان أنه قد تزوج ابنة التاجر الذي كان يستخدمه لتهريب البضائع وتعلم منه المهنة، وقد مات الرجل قبل صدور نظام الانفتاح فأخذ بضاعته المخزونة وجلب في السليم بضاعة أخري وفتح هذا المتجر.. حاول الرجل أن يعطيه هدية من المعروضات ورفضها، سأله أن يعمل مراجعا لحساباته كعمل إضافي قال «أ.ع» ساخرا إن هذا ربما يعرض الرجل للسجن، سلم عليه لينصرف فقال له الرجل: «سألتني يا صديقي من أين لي هذا؟!.. وربما لم تصدق إجابتي.. وقد عرضت عليك هدايا وعمل ورفضت فلابد أن تسأل نفسك.. لماذا ليس لك هذا؟! - طيار طار حلمه من يوميات مدير - هو عنوان كتاب للزميلة العزيزة ناهد الشافعي، ثلاثون حوار بين مدير وزوجته العاملة أيضا وأبنائه.. نموذج لأحوال المعيشة في مصر مع بدايات القرن الواحد والعشرين، وما تلاقيه الأسرة المتوسطة من ضغوط وهموم.. وزيادة أعداد الأغنياء بدون مناسبة واختفاء قانون.. من أين لك هذا؟! اخترت موضوع حوار عنوان «الكتاب لأنه وضح لي عمل هؤلاء الشبان الذين أشاهدهم في الطريق يركبون الدراجة البخارية «الفيسبا» وأمامهم صندوق مكتوب عليه اسم مطعم أو مأكولات.. يسوقون بسرعة فابتعد عنهم حتي وأنا أسير علي الرصيف! يخترقون صفوف السيارات يحاورون الباصات ليصلوا إلي غرضهم بسرعة! يدور الحوار بين المدير وابنه الذي انتهي من دراسته الجامعية بتفوق ولم يجد عملا فالبطالة بين شباب الجامعات وغيرها.. زادت.. والوظيفة المناسبة يدفع الطالب ثمنا باهظا ليحصل عليها.. نفهم أن المدير كان سيبيع سيارته القديمة ليجلب مبلغا من المال يدفعه ابنه للشركة أو لصاحبها أو للحكومة ليعمل نفهم أن الواسطة لم تعد بالكروت بل بالنقود!! يكتشف المدير بعد حواره مع ابنه عن الوظيفة التي ضاعت منه أن معه نقودا كثيرة في جيبه.. من أين لك هذا؟! ويكتشف المدير بالضغط علي ابنه أنه يعمل في مطعم عامل توصيل طلبات للمنازل يطلقون عليه طيار.. سلموه «فيسبا» يكون مسئولا عنها أو يشتريها يأخذ مرتبا شهريا ويزيد من إكراميات الزبائن التي يوصل لها الطلبات.. حوار طويل وطريف يدور بينهما بعيدا عن الأم فربما يغمي عليها إذا عرفت عمل ابنها. ينزعج الأب ولا يدري ماذا يفعل!! فابنه الذي كان سيدرس دراسات عليا ليصبح أستاذا جامعيا يصبح هكذا طيارا.. وياريت طيارا حقيقيا.. لكنه طيار فوق فيسبا!! وينزعج أكثر عندما يجد ابنه قد اقتنع بمهنته هذه «بص لقدام يابابا.. الوظيفة دي عمرها قصير، مافيش طيار عنده أكثر من خمسة وثلاثين سنة، يعني قدامي عشرة اتناشر سنة.. وأنا عندي هدف ربنا يقدرني وأوصل له.. يبقي عندي مطعم وأشغل طيارين كتير.. إدعي لي.. يا بابا» ويتأسف الأب علي ابنه.. هكذا طار حلمه في الأستاذية وهو يعمل طيارا لتوصيل الطلبات. - في الجزء الأخير من القرن الماضي والجزء الأول من القرن الواحد والعشرين ظهرت قصص.. ومقالات.. وحوارات ومواضيع صحفية تبين الوضع القاسي الذي يعيش فيه أكثر من نصف الشعب المصري سواء بالكتابة الجدية أو الساخرة.. أو شديدة النقد.. لتفضح هذا الوضع غير الإنساني ولا شك أن مثل هذه الكتابات لها تأثير في قيام ثورة 25 يناير 2011 وحوارات الكاتبة ناهد الشافعي من خلال أسرة المدير قد ساهمت أيضا فقد قدمت صورا وتصرفات في المجتمع تؤكد إحباطنا وشعورنا بالاكتئاب لصعود طبقة جديدة من الأثرياء السياسيين ورجال الأعمال يفوقون في العدد والتصرفات المستفزة هؤلاء الذين ظهروا في زمن انفتاح سبعينيات القرن الماضي.. وكان ظهور هؤلاء الجدد عاملا آخر مهما لتحريك ثورة 25 يناير 2011. وأخيرا فتحت الأدراج وخرج قانون من أين لك هذا؟! وشاهدنا وقرأنا.. وفهمنا العقوبات الصارمة التي ستواجه الذي ستظهر التحريات وعدالة القضاء إذا كانت أمواله بعيدة عن النزاهة! وحتي لا يسأل أحد آخر بعد ذلك «لماذا ليس لك هذا»؟!!