ربما، والمجلة ماثلة للطبع، تكون كاميليا شحاتة، زوجة كاهن دير مواس تداوس سمعان قد أدلت بأقوالها أمام النيابة في محاولة أخيرة لإغلاق ملف «الأخوات المحتجزات في الكنيسة»، ومن ثم الخروج من دائرة نيران أشعلتها الجماعات السلفية الفترة الأخيرة. علي كل، فإن مثول كاميليا أمام النيابة تحصيل حاصل. فأغلب الظن أن الملف سوف يظل مفتوحا، خصوصا أن الجماعات السلفية قد تقدمت ببلاغ «مصبوغ بالطائفية»، مفاده التأكيد علي أن كاميليا قد تم احتجازها في الكنيسة بعد إسلامها، في حين بدأت النيابة التحقيق الأسبوع الماضي للتأكد مما إذا كانت كاميليا قد تم اختطافها من عدمه! الاختلاف بين صيغة البلاغ، وبين خط تحقيقات النيابة، هو الذي يشير إلي أن «استدعاء كاميليا» وإدلاءها بأقوالها تحصيل حاصل، فالجماعات السلفية لن ترضي لو أكدت كاميليا أنها مازالت مسيحية، في حين أن النيابة العامة، لن تكون مختصة خلال التحقيقات بالبحث عن نوايا زوجة الأب تداوس سمعان لا قبل الأزمة.. وبعدها. النتيجة: الأزمة مستمرة، والملف مازال مفتوحا، ونيران السلفية سوف تستمر في تصاعدها إلي أن يأذن الله بالعفو. ملامح التحقيقات جديد قضية كاميليا، هو إعلانها بنفسها علي شاشة قناة الحياة القبطية قبل أيام أنها لا تعرف الشيخ أبو يحيي الذي ادعي في بلاغه ، أنه تم اختطافه معها من علي كوبري قصر النيل ليلة اختفائها، وقالت كاميليا إنها لم تره من قبل. وأكدت كاميليا أن أحدا لم يجبرها علي الظهور بالبرنامج، إضافة إلي أنها أكدت مسيحيتها «حتي النخاع»، فالمسيح «علي حد قولها» يجري في دمها بوصفها قبطية مؤمنة. من جانبه، وحسب المتوقع، رد الشيخ أبويحيي بتأكيده علي أن ظهور كاميليا بهذه الطريقة يثير العديد من الأسئلة، مضيفا أن اللقاء يدل علي أن كاميليا بالفعل قد خطفت لأنها أسلمت، وتم إجبارها علي الظهور بكلام وصفه أبو يحيي بأنه كذب. اعتذار كاميليا علي الهواء مباشرة للبابا شنودة عن تسببها في الأزمة، ظهر أيضا أنه لم يؤخذ في الاعتبار، حتي أن التعليقات علي ظهورها بدت وأنها تسير في نفس الاتجاه الذي سوف تسير فيه التعليقات، بعد انتهاء تحقيقات النيابة.. مهما كانت نتائجها. قبل أيام، استمعت نيابة وسط القاهرة إلي أقوال الأنبا أغابيوس، أسقف ديرمواس والمسئول عن الكاهن تداوس سمعان زوج كاميليا شحاتة، وحسب مصادر قضائية، فإن مثول الأنبا أغابيوس أمام وكيل النائب العام كان بوصفه أحد شهود واقعة اختفاء زوجة الكاهن، قبل العثور عليها في منزل أحد أقربائها في القاهرة، لا بوصفه ممثلا للكنيسة.. والفارق في التحقيقات علي هذا الأساس كبير. فالتحقيقات وفق هذا المعني، لم تشمل البحث فيما يتعلق باعتقاد كاميليا شحاتة، أو إشهارها الإسلام من عدمه،فكاميليا لا هي قاصر، ولا هي مرغمة - حتي الآن - لا علي العودة للمسيحية إن كانت قد أسلمت، ولا علي الاستمرار علي مسيحيتها، إن كانت مستمرة عليها. هذا من ناحية النيابة، لكن من ناحية البلاغ، فالأمر مختلف. فقد دفع مقدموه أولا إرغام الكنيسة كاميليا علي العودة للمسيحية بعد إسلامها، وأكدوا ثانيا علي احتجاز الكنيسة لها، إما عقابا لها أو تهديدا. وظهر التباين بين الاثنين في إنذار مقدمي البلاغ كاميليا علي الكنيسة، ما يعني من وجهة نظرهم أن خصومتهم مع الكنيسة، في حين أنه إجرائيا كان لكاميليا شحاته عنوان معلوم، ما يعني أن إرسال الإنذار إليها علي الكنيسة خطأ إجرائي، وجدت الكنيسة أنه من حقها رفض استلام الإنذار بوصفها ليست محل إقامة كاميليا، وثانيا لأنها ليست مختصة بإلزام زوجة الكاهن بالحضور أمام النيابة. بالنسبة للكنيسة أزمة كاميليا «قانونية»، لكن بالنسبة للبعض الأزمة طائفية.. لذلك، فأغلب الظن حدوث مزيد من التداعيات حتي مع مثول كاميليا أمام النيابة. السؤال: ما الذي يعنينا علي الأكثر في أزمة كاميليا؟ الإجابة: أكثر ما يعنينا هو إلقاء مزيد من الضوء علي واقعة فعلية، لا يتوقف فيها الفكر السلفي عن صب مزيد من زيت علي نار، أزمة كامليا اجتماعية أيضا سوف نظل في مواجهات مع تفاصيلها، بسبب الفكر الذي لازال، يغذي مثل هذه النوعية من «الملمات» بمزيد من النار، كرامة للدين.. مع أن هذا ليس صحيحا. السلفيون مؤمنون، لكنهم ليسوا مفكرين ولا مجتهدين. والذي يظهر من أزمة كاميليا أن السلفية تقليد، فالذين أشعلوا الأزمة، اعتقدوا في جهادهم لإعلاء الإسلام، بينما في الإسلام أفكار أقل تطرفا، وحلول أبسط، وفقه أوسط للبناء لا للهدم، فالأزمات الطائفية ليست هينة. الأزمات ليست جهادا أقام الله الدين لصلاح المجتمعات، رغم اختلاف أهواء الأفراد أو الجماعات، لذلك يري جمهور أهل الفقه أن: «الإسلام عادات تصح بها الدنيا» (المقصود بالعادات هنا هي المعاملات) إضافة إلي عبادات يصح بها الدين. وبينما يري الإمام ابن تيمية (فقيه السلف) أن العبادات مقدمة علي المعاملات، فإن الإمام الشافعي (فقيه الوسط) يخالفه، ويري العكس، فحسب الشافعي، الهدف من تشريع الدين تنظيم العلاقات داخل بلاد المسلمين، ومنع التشاحن أو الافتئات علي الحقوق بين أفرادها، لذلك فالمعاملات عند الشافعي مقدمة علي العبادات. لايعني هذا تقليل الشافعي من قيم العبادات، إنما حاول تطبيق القاعدة الشرعية أن حقوق الله محل عفوه سبحانه، بينما حقوق العباد هي محل القصاص. وحتي لا تفور المجتمعات، ويؤخذ الأبرياء بالشكوك، استقر الفقهاء علي ما أسموه قاعدة «الاستصحاب» التي جعلوها أساسا في أمور خلافية كثيرة. يعني الاستصحاب ، استمرار الشيء علي أصله حتي ظهور جديد يغير هذا الأصل إلي ضده أو مخالف له. فبالاستصحاب مثلا، لا تثبت جريمة علي متهم إلا بإقراره أو بالدليل، علي أساس أن الإنسان ولد بريئا بيقين، بينما اتهامه شك. وفي الفقه لا يلغي الدليل اليقيني، إلا دليل يقيني آخر. فلا يجوز عقاب المتهم بالشك لأن الأساس فيه البراءة المؤكدة. الاستصحاب في الفكر الديني قاعدة مهمة، تغلق الباب علي الظنون بما يؤلب المجتمعات بعضها علي بعض في أمور مشكوك فيها، فيتنازع الأفراد والطوائف، وتتمسك كل جماعة بآرائها، وظنونها في مواجهة الجماعة الأخري والنتيجة كوارث اجتماعية وطائفية أيضا. رأي الأمام الشافعي بالتيسير اجتهاداً، ورأي الإمام ابن تيمية بالتشديد اجتهاداً أيضا، والاثنان لم يخرجا عن صحيح الدين، وروح الإسلام كل في عصره، لكن السؤال: ما الذي يجعلنا نرجح أحدهما علي الآخر في عصرنا وفي ظروف مجتمعنا؟ الإجابة: المصلحة، فقد اجتمع أهل الفقه علي أنه حيثما توجد المصلحة، فعندها شرع الله. وغالبا ما تتلاقي المصلحة عند الفقه الأيسر، لكن «جماعات السلف» كما هو واضح لا يأخذون بالرأي الأيسر. بين المفاسد والمنافع كاميليا مثلا، وحتي الآن، لم يثبت إسلامها بيقين، في حين أن مسيحيتها أصلية استصحابا لديانتها وقت الميلاد. هذا من جانب، من جانب آخر فإن الوقيعة بين المصريين بسبب إسلام مزعوم لقبطية، أو احتجاز لم يتأكد منه ليس في صالح المجتمع الكامل ولا في صالح الدين. فالقاعدة الدينية أن درء المفاسد مقدم علي جلب المنافع. درء مفسدة التطاحن الإسلامي القبطي بين المصريين، مقدم علي منفعة إرجاع كاميليا المشكوك في إسلامها، خصوصا مع ما قيل أنها أسلمت هربا من زوجها الكاهن، ليس حبا في الإسلام. قانونا، لو أقرت كاميليا بعدم إسلامها أمام النيابة، فلن تكون هناك قوة تشكك في كلامها، أو تطعن فيه، إلا لو عادت هي نفسها وقالت إنها أكرهت أو تعرضت لتهديد وهو ما لن يحدث بنسبة كبيرة. أغلب الظن أن النيابة قبلت البلاغات المقدمة بهدف التهدئة، فلا الذين قدموا البلاغ أصحاب مصلحة مباشرة، ولا هم ممن وقع عليهم ضرر حتمي من إسلام كاميليا أو استمرارها علي ديانتها. أما كاميليا فهي ليست معيبة الإرادة أو مشكوك في قدرتها علي اتخاذ القرار وامتلاك أمر نفسها. أزمة كاميليا شحاتة التي تسبب فيها السلفية لن تصل آخر محطاتها سريعا، فلو أقرت كاميليا باستمرارها علي دينها، سوف يشتعل «السلفية» اعتقادا بأن ما قالته زوجة الكاهن كان تحت التهديد، مع أنهم هم الذين طلبوا مثولها أمام النيابة علي أن يرتضوا ما تقول. السؤال هو: هل يسعي السلفية للإصلاح؟ الإجابة: السلفية غيورون علي الدين، هذا صحيح، لكن غيرتهم مشوبة بغشم القوة. الصحيح أيضا أن معظم جماعات السلف مفتقدو الانتباه إلي عوامل أخري، ورؤي عصرية لاجتهاد يصح به دينهم، وتنصلح أوطانهم. الملاحظة أن السلفية يأخذون بالكثير من فقه الإمام ابن تيمية، بينما للإمام الشافعي وأبوحنيفة آراء في المسائل نفسها أيسر حلا، وأكثر ملاءمة للدين والدنيا دون الخروج علي شرع الله.. وتراكيب الأوطان.