إذا كانت مجتمعات العالم قديما فضلت الذكور علي الإناث، لا يختلف مجتمع شرقي عن مجتمع غربي في هذا الصدد.. فقد كان المجتمع الياباني الأكثر تشددا في ذلك الأمر، فكانوا يدربون البنت منذ طفولتها علي أن تكون خادمة مطيعة للأسرة، عبدة لأخيها، وجارية لزوجها.. وقد شاهدنا في أوائل التسعينيات في القرن الماضي الحياة الصعبة التي كانت تحياها المرأة اليابانية قديما، من فقر وعبودية واضطهاد من خلال المسلسل الياباني «أوشين» الذي عرضه التليفزيون المصري عندما كان يعرض أعمالا عالمية محترمة. تابعنا حياة الطفلة «أوشين» منذ طفولتها في أواخر القرن التاسع عشر إلي أن أصبحت زوجة وجدة وصاحبة أعمال عظيمة. شاهدنا القهر والظلم الذي كان يقع علي نساء اليابان، وكفاح «أوشين» وعنادها وصبرها لتتغلب علي تلك المصاعب. • مدام بترفلاي لقد اشتهرت اليابان قديما بما أطلق علي بعض النساء «فتيات الجيشا» وهي فتيات مدربات علي إسعاد الرجال ولهن منازل خاصة ومعلمات لتدريبهن، كان نوعا من البغاء المقنن، له شهرة عند رجالات العالم، خصوصاً الأمريكيين الذين يذهبون لزيارة اليابان، والويل لفتاة الجيشا إذا تركت قلبها يقع في الحب خصوصاً لحب أجنبي، الويل لها من مجتمعها الذي يحرم ارتباط اليابانيات بأجانب، والويل لها أيضا من الحبيب الأجنبي.. وهذا ما صوره كاتب قصة «مدام بترفلاي» في نهايات القرن التاسع عشر والتي تحولت إلي دراما أوبرالية ألف موسيقاها وألحان أغانيها الموسيقار العالمي «بوتشيني» وقد عرضت لأول مرة في إيطاليا أوائل القرن العشرين، وذاعت شهرتها عندما عرضت علي مسارح بلاد العالم ومنها أوبرا القاهرة القديمة قبل أن تحترق، عندما كانت الأوبرا المصرية تقدم روائع الأعمال العالمية وبأسعار تذاكر يقدر عليها معظم المصريين!.. وكاتب الأوبرا أطلق عليها اسم «بترفلاي» أي الفراشة اسم فتاة الجيشا والمعروف أن الفراشة تنجذب نحو الضوء المبهر للمصباح أو اللهب وعندما تلتصق به تحترق. وهكذا وقعت فتاة الجيشا في حب ضابط بحري أمريكي تزوجها بعقد زواج مزيف وعاش معها أياما جميلة ثم سافر إلي وطنه. وقد أنجبت طفلاً، ولم تصدق القنصل الأمريكي في اليابان عندما أخبرها بحقيقة زواجها.. وانتظرت حبيبها سنين.. وعندما عاد بسفينته لليابان كان بصحبة زوجته الأمريكية، جاء ليأخذ طفله.. لقد هجرها الأهل والمجتمع لزواجها الزائف من أجنبي.. ووجدت نفسها وحيدة ومجروحة.. احترقت الفراشة، ولم تجد سوي الانتحار علي الطريقة اليابانية. مأساة يابانية قديمة مازالت تقدم إلي الآن علي مسارح العالم بأنغام موسيقية رائعة.. وألحان أغاني حالمة وحزينة.. • هيروشيما حُبّي هُزمت اليابان في الحرب العالمية الثانية 1945 عندما ألقت عليها أمريكا القنابل الذرية الجديدة علي مدينتين كبيرتين«هيروشيما» و«ناجازاكي» واستسلمت اليابان تماما، وكانت سياسة الحكومة اليابانية بالنسبة للنساء تنتمي إلي سياسة الهزيمة ومنها السياسة الجنسية، فقد ذهبت مذكرة من الحكومة إلي مراكز البوليس ليقدموا التسهيلات اللازمة للترفيه عن جنود الاحتلال الأمريكان.. فذهبت نوعية المومسات غير الرسميات وانضمت إليهن العاملات اليائسات من أجورهن الضعيفة.. وقد شاهدنا مأساة اليابان الفظيعة بعد تلك الحرب خلال أفلام سينمائية ظهرت في الخمسينيات والستينيات وكان أهمها الفيلم الفرنسي «هيروشيما حبي» وقصة الفيلم تتناول حكاية حب بين شاب فرنسي وفتاة يابانية أو .. بين شابة فرنسية وشاب ياباني.. لا أذكر تماما.. كان الفيلم علي طريقة «الفلاش باك». الرجوع إلي الماضي يتذكر البطل.. أو البطلة قصة حبه في تلك المدينة الجميلة ومصرع الحبيب أو الحبيبة .. كان التركيز أكثر علي مشاهد الدمار وكيف حدث من القنبلة الذرية.. وآلاف الموتي.. الدمار الشامل للمدينة.. تصوير مفصل لتلك المأساة.. • تحرير المرأة.. تحرير اليابان بعد تلك الحرب المدمرة ظهرت أول جمعية نسائية لتحرير المرأة اليابانية من نساء متعلمات. مثقفات وعاملات، وكان علي الجمعية أن توقظ ضمير النساء وترفع قيمتهن بإيجاد عمل لهن وأجور مجزية تغنيهن عن عمل الترفيه للجنود الأمريكان.. وكانت «أوشين» بطلة المسلسل الرائع الياباني الذي شاهدناه قد وصلت بجدها وعملها وثقافتها إلي صاحبة أعمال، وقد أنقذت كثيراً من الفتيات من مهمة الترفيه عن الجنود بالعمل في مصانعها بعد تلك الحرب.. وكان من رأي النساء المنقذات أن النهوض بوطنهن لا يكون علي أكتاف الرجال فقط، ونظراً لظروف اليابان الصعبة في ذلك الزمن فقد وافق الرجال، بل عملوا فيما بعد علي المساواة في الأجور بين الرجال والنساء العاملات وكن يخضعهن لبند «أجور النساء» وهو الأضعف أجراً. وعملت الجمعيات النسائية بمساعدة الحكومة علي إنشاء تعاونيات تزود الأم العاملة بدور حضانة وتسهيلات معيشية. ولا أحد ينكر ازدهار اليابان في العالم بعد سنين خرابها في الحرب مشاركة النساء في بناء وطنهن. وقد ازدهرت اليابان صناعياً مع مرور السنين وأصبحت صناعاتها تنال الثقة العالمية، واختراعاتها الدقيقة تبهر العالم. فالعمال والعاملات في كل مجالات العمل يعملون بجدية وإخلاص لا مثيل لهما في العالم.. لذلك نهضت اليابان. • النصف الحلو مع تقدم المرأة اليابانية عملياً وثقافياً ومظهرياً خلال النصف الثاني من القرن الماضي لم تتخلص نهائياً من تقاليد المجتمع القديم، بالرغم من اقتناعها بأفكار المرأة الحديثة وحصولهن علي حريتهن التعليمية والاقتصادية وحرية الاختيار، أصبحن حائرات إلي حد ما.. وقد عبرت عن هذه الحيرة كاتبات وأيضا كتاب معاصرون في اليابان.. وقصة«النصف الحلو» كتبها كاتب ياباني معاصر «أتودا تاكاشي»عن صديقتين منذ كانتا تدرسان في الجامعة.. كانتا من بنات الجيل التقدمي كانت الصديقتان تتناقشان في قضايا المجتمع ومشاكله خصوصاً مسألة الزواج، لفقد شاهدتا الزوجات يعشن جواري للأزواج ولابد من إعادة تشكيل المجتمع وتصحيح المفاهيم، وانتقدتا بشدة صور البنات التي يرسلها الأهل للخاطبات للبحث عن زوج مناسب.. فالرجل الذي يختار زوجته هكذا كأنه يذهب إلي السوبر ماركت ليختار سلعة!.. وقررت الصديقتان أن تتزوجا عن طريق الحب من رجل تختاره كل منهما بنفسها ليكون النصف الحلو لحياتها. وتمر الأيام وتسافر إحداهما إلي الخارج وتنقطع أخبارها ثم تظهر لصديقتها بعد سنين وقد تزوجت حسب اختيار أهلها بشاب غني، نفذت رغبتهم مضطرة لعدم مقابلتها لشاب أحلامها لتختاره هي.. والعمر يجري.. ووجدت الثانية المتمسكة بآراء الاختيار والحب أن عمرها فعلا جري.. وأصبحت فوق الخمسين.. ومازالت تبحث عن الحب!.. • المأساة الثانية من هجمة الطبيعة اعتبر اليابانيون أن الزلزال الهائل الذي حدث لهم أخيرا ودمر أجزاء كثيرة من وطنهم المأساة الثانية الكبيرة بعد الحرب العالمية الثانية عام 1945 قتل الآلاف وشرد الآلاف وتأثرت المفاعلات النووية التي تمدهم بالكهرباء والماء بهذا الزلزال المهول وتمرد أمواج المحيط لاكتساح البيوت والناس، وتهدم المباني العالية بالرغم من اختراعهم في أسفلها ضد ضرر الزلازل لم تصلح في مواجهة هذا الزلزال والألعن الإشعاعات السامة التي صدرت من تهدم تلك المفاعلات ذكرتهم بإشعاعات القنابل الذرية القديمة التي أثرت علي صحة الناجين، وبالتالي علي زراعاتهم وصناعاتهم. هذه المأساة اليابانية الثانية شاهدناها مباشرة بواسطة الأقمار الصناعية وعلي الهواء مباشرة خلال شاشات تليفزيونات العالم.. وأنا أشاهد هذه المأساة .. تذكرت أفلام الحرب القديمة وفيلم «هيروشيما حبي» .. وهمست.. «اليابان حُبي» ستتغلب علي هذه المصيبة الطبيعية كما تغلبت علي المصيبة الأمريكية الذرية التي هدمتها منذ أكثر من ستين عاما.. أثق في نهوضها بإصرار أهلها وإخلاصهم في أعمالهم وصبرهم علي تخطي المصاعب.