الأغلبية الساحقة من الشعب المصرى قالت: نعم للتعديلات الدستورية. وعندما تقول الأغلبية نعم يجب على الذين قالوا «لا» أن يتقبلوا هذه النتيجة بصدر رحب ورضوخ تام واقتناع. فهذه هى قواعد الديمقراطية. ولكن الذى حدث فى بلدى أن الذين قالوا «لا» بدأوا يفندون ويفتشون عن الأسباب التى جعلت الأغلبية تقول «نعم». وهذا حق للجميع.. لكن ليس على حساب القواعد والمبادئ الديمقراطية. ذلك أننى لاحظت أن بعض الذين كانوا ضمن المنادين بضرورة التصويت بالموافقة هللوا وكبروا للنجاح الساحق، وهذا أيضا حقهم ولكننى أحسست أن هناك لهجة شماتة وإحساسا بالتفوق والتعالى بين المنادين بالموافقة على التعديلات الدستورية. خرج البعض علينا فى الشاشات التليفزيونية شاهرين الكلمات التى تهدد وتقول إن الشارع ملكنا، وأننا نحرك الشعب فى الاتجاه الذى نريده، وأنه من هنا وطالع لن نسكت على اتهامات الإعلاميين، وأننا سنلجأ إلى القضاء وسنحاسب ونحاكم ولن نسكت. هذا يا قوم تهديد واضح لمن يختلف فى الرأى مع أصحاب الاتجاهات السلفية أو التيارات المتعصبة التى تريد أن تحتكر المستقبل لصالحهم. وإذا أردنا تحليلا واضحا وصريحا لنتيجة الاستفتاء على التعديلات الدستورية، فإن المراقب المدقق لحركة المجتمع المصرى فى المدن الكبرى وفى القرى وفى الأرياف سواء فى وجه بحرى أو وجه قبلى سوف يكتشف أن هذه الحركة أخذت أشكالا متعددة. الشكل الأول كان ذلك الشكل الذى لاحظناه فى الانتخابات السابقة، وهو تشجيع رجال وسيدات الجمعيات الدينية المعتدلة والسلفية والمتعصبة لجميع الذين يخصونهم بالإعانات والمساعدات الإنسانية فى شهر الصوم الكريم أو فى المناسبات والأعياد التى تمر علينا طوال العام، شجعوهم على الذهاب إلى صناديق الاستفتاء ليقولوا نعم لأن الذين سيقول لا سوف يسهمون فى ضياع المعونات والمساعدات التى نوفرها لكم ومنهم من قال: إنهم يسيرون فى طريق قفل أبواب الرحمة عن الفقراء والمساكين من أبناء الشعب المصرى.. وهذا بالطبع غير صحيح، ولكنهم أوحوا بأن كلمة «لا» تعنى قفل باب الرحمة. كما أن أبناء الشعب المصرى شهدوا جميعا لافتات وملصقات تقول للناس إن الموافقة على التعديلات أمر شرعى ومن لا يقول نعم يخالف الشرع.. وهذا أمر خطير جدا. والبعض حرص على استخدام الميكروفون لحشد الجماهير وتعبئتها للذهاب إلى صناديق الاستفتاء والتصويت بالموافقة لئلا يتجرأ العلمانيون على إلغاء المادة الثانية من الدستور. وعلى الجانب الآخر قام الذين كانوا ينادون بأهمية التصويت بعدم الموافقة على التعديلات الدستورية بتخويف الناس من أن دستور 1971 هو الدستور الذى صنع الديكتاتور، وأن استمراره سوف يجىء بديكتاتور جديد. وكلمة الديكتاتور فى الثقافة الشعبية ليس لها مدلول كما هو الحال عند المثقفين والمتعلمين. الشعب المصرى يخاف من الحاكم المستبد والحاكم الظالم وليس الحاكم الديكتاتور. تكلم الكثيرون عن دستور 1971 ووصفوه بالتعديلات الكثيرة التى جعلته يصنع الديكتاتور الذى أسقطناه وأسقطنا نظامه. ووصف بعض المنددين بدستور «71» بأنه الدستور الملىء بالرقع والثغرات، وأنه يعطى جميع الحقوق لرئيس الجمهورية ولا يوجد به نص واحد يجعل الرئيس مسئولا أمام الشعب. وهذا كلام مرسل لا يلفت نظر أبناء القرى والأحياء الشعبية. ذلك أن سكان القرى والمناطق الشعبية يؤمنون بما يقوله الإمام فى خطبة الجمعة بالمسجد عندما يدعوهم قائلا: أطيعوا الله والرسول وأولى الأمر منكم. وكان جميع خطب الجمعة التى سبقت الاستفتاء تحض الناس على التصويت بالموافقة.. فالمسلم المؤمن هو الذى يقول نعم، أما المسلم قليل الإيمان فهو الذى يقول لا. ولأول مرة يتدخل المسجد فى الحض على الانحياز بالموافقة على التعديلات. كان من المفروض أن يحض الإمام فى المسجد الناس وجمهور المصلين على التوجه إلى صناديق الاستفتاء صباح السبت والإدلاء بأصواتهم بكل حرية، ولكن ذلك لم يحدث وانبرى بعض جمهور المصلين إلى الالتزام بالموافقة حتى نحمى الإسلام والمسلمين، أما فى الأرياف وفى قرى الصعيد فقد استطاع أعضاء الحزب الوطنى وقياداته حض الناس على الإدلاء بأصواتهم بالموافقة طمعا فى الاستقرار وحتى تدور عجلة الإنتاج، واستطاعوا فعلا أن يجعلوا الناس تؤمن بأن «نعم» هى الطريق إلى المستقبل. إذن هناك تيارات كثيرة لعبت دورا مهما فى نتيجة الاستفتاء وهذه التيارات سوف تحاول لعب الدور نفسه فى الانتخابات المقبلة.. والتى سوف تفرز لنا مجلسى الشعب والشورى. وبالطبع طبقا لقواعد الديمقراطية سوف نقبل النتيجة التى تعلنها لنا صناديق الانتخاب. فنحن اليوم نسير فى طريق الديمقراطية وإذا الشعب قال كلمته فلابد أن نستجيب لها ونحترمها. ولكن هل سنترك الساحة فى بلدنا تتقاذفها التيارات السلفية والدينية وأعضاء الحزب الوطنى بعصبياتهم وأسرهم الممتدة الجذور فى القرى وفى ريف البحيرة؟! هل سنجعل النظام القديم بكل رجاله وأطيافه يحتلون الساحة السياسية ويجلسون فى مقاعد نواب الأمة ومشرعى القوانين وصناعة مستقبل ثوار 25 يناير 2011؟! هل هذه هى مصر التى نحلم بها، مصر التى بهرت العالم بثورتها الشبابية، نترك التيارات السلفية والعصبيات القبلية تسيطر عليها وتقود خطانا نحو المستقبل؟! هذا أمر مهم وضرورى ويحتاج إلى مناقشة ديمقراطية ومجتمعية قبل إجراء الانتخابات المقبلة. لا يمكن أن يقبل ثوار يناير 25 لعام 2011 أن نضع المستقبل فى أيدى الذين صنعوا ديكتاتور الأمس، ودولة الفساد التى أسقطناها؟! إننى أدعو إلى مناقشة ديمقراطية وحوار مجتمعى نحو المستقبل الذى نرجوه لمصر فى قادم الأعوام.