هذا ليس عرضاً لكتاب ولكن يمكن أن اعتبره وصفاً متواضعاً لهدية جميلة جاءت فى وقت مناسب دون أن أطلبها أو أسعى إليها، ووسط استمتاعى بها شعرت أنه من الأمانة ومن الود واللطف والفعل الطيب أن أعلم من لا يعلم بأن هناك شيئًا ثمينًا يمكن أن يعيننا على السلام والهدوء، يعيننا على السعادة إن تأملنا بعضاً من كلمات هذا الكتاب.. « البحث عن السعادة» للدكتورة ريم بسيونى. من لا يعرف الدكتورة ريم بسيونى فهمى أستاذ علم اللغويات الاجتماعية فى الجامعة الأمريكية وهى كاتبة وروائية مصرية متميزة فى الكتابة عن تاريخ المجتمعات واللغة والهوية، وتميز كتبها لم يسوقها إلى الجوائز الأدبية والثقافية فحسب ولا لترجمة مؤلفاتها إلى لغات عدة ونشرها فى كثير من دول العالم، ولكن الحقيقة أن الخط الإنسانى والنفسى والروحانى الذى تلعب عليه دكتورة ريم بسيونى ببحثها وكلماتها ورؤيتها هو شيء يبعث على الإلهام، كأنه ضوء ينير مناطق داخلك لم تكن على وعى بها أو ربما تكون واعياً بوجودها ولكن غير قادر على وصفها أو التعبير عنها وهذا هو سر وسحر كتابها « البحث عن السعادة» من خلال رحلة تاريخية وفكرية عبر الصوفية، فهو رحلة فى الفكر الصوفى وأسرار اللغة». لن أتطرق فى هذا الكتاب لعرضه من خلال الجزء التاريخى ولكن جوهر الغرض من الكتابة عن هذا الكتاب هو محاولة الاشتراك مع كاتبته فى هدفها النبيل والذى اتضح من إهدائها لابنتها مها: « لأن هذا العالم أصبح أكثر تعقيداً وأكثر شراسة، أتمنى أن تقرئيه وأن يفيدك فى رحلتك».
ريشة: منة الصياد
من منا لا يشعر بتعقيد العالم وشراسته التى نالت من كل منا جزءًا لا يستطيع استعادته أو على الأقل يحاول التعافى من الألم الذى أصابه جراء تلك الشراسة والقسوة.
لذلك وعلى مدار 390 صفحة – عدد صفحات هذا الكتاب الزاخر- الذى لا يمكن قراءته مرة واحدة فحسب، فهو من الكتب الباقية، التى ربما تتركها بعض الوقت بعد أن تفرغ من كتابتها ثم تعود إليها ثانية لتكتشف بعداً آخر بداخلك، داخل منظومة أفكارك ومعتقداتك وأنت فى رحلة البحث عن السعادة أو عن الرضا وهو المحور الأساسى الذى ينطلق منه هذا الكتاب «مفهوم السعادة المرتبطة بالرضا» ،وذلك من خلال التركيز على الحالة الإنسانية للفكر الصوفى للوصول إلى مقام الرضا مروراً بجهاد النفس وبحثاً عن الحرية ومحاولة التحرر من السجون التى نصنعها بأنفسنا حولنا ونعيشها ونعيش بداخلها مرتبكين وتائهين بين دورى السجان والسجين. ما سأقوم به هو مرور إنسانى على تلك الحالة الإنسانية للفكر الصوفى نفسه وكيف قرأت جملاً ومفاهيم تعد بمثابة المرجع الذى نحتاج أن أذكر به نفسى وإياكم بأن السعادة موجودة لمن استطاع وتدرب وجدد نواياه أن يرى ما لا يُرى إلا بالقلب. وكما ذكرت د. ريم نقلاً عن إبراهيم بن آدم أحد أوائل المفكرين الصوفيين: « نحن فى سعادة لو علمها الملوك لجادلونا عليها بالسيوف»!! بالفعل هذه الجملة تستحق أن نضع أمامها عشرات علامات التعجب وربما يزيد الأمر أن نرفضها ونعتبرها خيالاً جائحاً هائماً. ولكن الأمر يستحق أن نغوص قليلاً فى معانٍ أكثر خصوصية، المعانى الباطنة وليست الظاهرة، دون أن نحكم على أنفسنا ولا على الواقع الذى نعيشه، هى مساحة للتأمل فى أعماقنا التى ننسى أن نطل عليها بعين الرحمة واليقين والاستحقاق والبراح. الأمر يستحق منا بعض التأمل فيما ورد فى هذا الكتاب وأتمنى ألا يكون عرضى لما شعرت به ولمس قلبى يسبب إخلالاً بجوهر وقيمة كتاب «البحث عن السعادة» الذى سأقتطع من بعض صفحاته جملاً لعلها تكون معينة على قسوة وتعقيد وشراسة العالم بداخلنا ولعلها تكون مرشداً إلى النور بداخلنا.
ريشة: هانى حجاج
« المحن مكتوبة لنا حتى نرتقى، فربما يكون طريق المحنة بداية لطريق أوسع للفهم». هذا ما حرض الدكتورة ريم بسيونى على البحث بل عمق البحث عن الفكر الصوفى وأسرار اللغة المستعملة فى التصوف، « ولأن الرحلة كانت نيتها البحث بغرض الفهم، رزقها الله بالمرشدين عبر رحلتها – على حد تعبيرها». ربما تكون هذه هى أحد أسرار الكعبلة الإنسانية المسببة للتعاسة وهى أننا نتعجل الفهم، أو لا نبحث عما نريد أن نفهمه وربما نتوق إلى الفهم الجاهز، وربما يعيش الكثيرون منا برغبة غير معلنة عنها وهى «اللافهم»! وما يميز علماء الصوفية هو التعمق فى التجربة الإنسانية والكتابة عن النفس البشرية بصدق غير معهود، فيقول الشيخ الأكبر ابن عربى إن الطريق إلى الله يعدد بتعدد الباحثين فلكل عالم صوفى قصة ومحنة ورحلة، كلهم يشبهوننا يخطئون ويتوبون يفقدون صبرهم ويستغفرون، يحتارون تارة ويشكون تارة ثم يعودون إلى ربهم فهم أولياء الله ولكن الولاية هى رحلة بين « الفتن والمحن». ألهتنى هذه الجملة الرائعة بفكرة أن هناك من يفسد على البشر حياتهم بإدعائهم أنهم يملكون زمام الحق والحقيقة والفضيلة وأنهم يزكون أنفسهم على الله تحت مظلة ادعاء العلم دون تشكك لحظة فيما يدعون، فهى أصل كل الآفات، فكما جاء فى الكتاب « حكمة 35» عن النفس ومحاربة الهوى: « أصل كل معصية وشهوة وغفلة هى الرضا عن النفس وأصل كل طاعة ويقظة وعفة عدم الرضا منك عنها، « أن تصحب جاهلاً لا يرضى عن نفسه خير لك من أن تصحب عالماً يرضى عن نفسه».
فلو أوهمت نفسك أنك تطيع ربك ومع ذلك تطمع فيما لأحد غيرك من مال أو زوجة أو أى شىء فقد حكمت على بصيرتك بالظلام. بعد أن نجدد نوايانا ونعقدها للبحث داخل النفس بغرض الفهم وما أن تبدأ تلك الرحلة بكل ما فيها من أسئلة وباستمرار البحث وورود بعض أنواره إلى داخلنا علينا أن نحذر من « الوهم»، وكما أوردت دكتورة ريم بسيونى فى كتابها: « ما قادك شيء مثل الوهم». لأن الإنسان يوهم نفسه ويرضى عن أفعاله حتى ولو كانت خاطئة أما الصوفى فيحاسب نفسه طوال الوقت. أهم شيء فى الصوفية هو التواضع والتركيز على النفس ولا يجب الحكم على الآخرين ولا يجب الحكم على دينهم ولا ملتهم ولا نحكم عليهم حتى وإن فعلوا الأخطاء لأننا لا نعلم قدر هذا الإنسان عند الله والفكرة هنا كما تصفها د. ريم هى أن يجاهد الإنسان نفسه فكل من رأى الشيخ الإمام المجدد أبو حامد الغزالى شعر أنه ترك الدنيا عندما بقى فى خلوته لمدة 11 عاماً، وأنه أصبح زاهداً فى كل شيء ولكن الغزالى نفسه يخبرنا بأن الدنيا كانت تشغله ولكنها لا تتملكه وكان يجاهد نفسه ويحاول تصفية قلبه مما دون الله، وهذه هى رياضة الصوفية (الرياضة الروحية لجهاد النفس ومحاربتها من الهوى). الكثيرون يحاولون البحث عن معنى لحياتهم – ولا استثنى نفسى – وهذه رحلة ليست بهيّنة وكما قال الإمام الغزالى فى طريق رحلته من الحيرة إلى الحقيقة: « مفاتيح القلوب بيد الله يفتحها إذا شاء كما شاء بما شاء» . فالعقل ليس كاشفاً للغطاء عن جميع المعضلات، والبحث عن معنى الحياة هى من المعضلات. لذلك لن يستطيع العقل مساعدتنا فى فهم كل شيء ولن يستطيع أن يجد لنا حلاً للمشاكل الصعبة، فعلى قدر معرفتنا لأهمية العقل علينا أن نفهم حدوده. وربما لهذا وجب علينا اليقين بما لا تدركه عقولنا. فمثلاً علينا أن ندرك أن حياتنا على الأرض سفر وليست وطناً، فالدنيا رحلة، كما كتبت د.ريم فى كتابها، البحث عن السعادة طريق لابد فيه من الوسطية والثبات فالسعادة لا تدخل قلباً سقيماً فهى محصورة على القلب السليم. فكيف نعرف إن كانت قلوبنا سليمة أم لا إن لم نكن نعرف أنفسنا أو نعرف الله بداخلنا؟ إنها كلمة كبيرة وفضفاضة ،كثيراً ما نسمعها وهى معرفة النفس، وهى ببساطة والأمر ليس بسيطاً أو سهلاً هى أن تكون لدينا القدرة على مواجهتها بصدق ومحاسبتها، أحياناً يقودنا الوهم فنظن أننا نفعل الخير ولكن فى باطن الأمور نحن نفعل الشر وبنية الشر، ربما ننتقد شخصاً ونتصيد له الأخطاء ولا نواجه أنفسنا أن مصدر ذلك هو الغيرة والحسد، لذلك علينا أن نصبر على أنفسنا ونصبر على معرفتها حتى تتحقق ولكى تتحقق فالأمر يحتاج إلى قلب سليم وكلما صححنا المسار وتعرفنا على الباطن بداخلنا لا الظاهر كلما سرنا على الطريق المؤدى إلى القلب السليم. هذا هو الطريق إلى النصر الذى أحلم به ويحلم به الكثيرون. فكما قال نجيب محفوظ فى رائعته الأدبية « الحرافيش»: وتم له أعظم نصر وهو نصره على نفسه. اعتقد أن هذا هو الكنز الذى نجنيه، كنز المعرفة عبر الرحلة، كنز الفهم، الفهم الذى يفتح قلوبنا وعقولنا ويرشدنا إلى القلب السليم. والمعانى الثمينة التى تحملها صفحات ذلك الكتاب كثيرة وتستحق التأمل.. فإذا كان الكتاب يستعرض رحلة التجارب الإنسانية والبحث عن السعادة من خلال التعمق فى الفكر الصوفى إلا أن أى شخص يمكن أن يقرأ الكتاب على مستوى استقبال إنسانى، المستوى الذى لا يختلف عليه الأسوياء وهو البحث عن معنى للسلام وللتسامح والتقبل والارتباك والخطأ والتوبة والرجوع والتشتت ثم إصلاح المسار.. هى ما أطلقت عليه د. ريم بسيونى فى كتابها مصطلح السياحة أى السفر من أجل معرفة الله ومعرفة النفس والتعلم. ولنا فى هذه السياحة رحلة أخرى