تغزل نورا ناجى قصصها برهافة فتعبر بصدق عن وحدة الإنسان المعاصر فى عالم رقمى، سريع التحول، وفى قصصها محاولة لسماع الصوت الداخلى لأبطالها وسط الضجيج والزحام، وتجتلى فى كتابتها التفاصيل الصغيرة الهامسة التى تكاد لا تُسمع أو تُرى إلا عندما يتجسد الصمت، وكما يقول توماس تشارليل «الصمت هو الطريقة التى تتجسد أعظم الأشياء من خلاله». وفى هذا العالم الداخلى الصامت المتأمل تقف الوحدة شاهدة على رغبة الإنسان الأصيلة فى الحصول على الحب والمشاركة. وقد حصلت نورا ناجى على جائزة الدولة التشجيعية لهذا العام عن مجموعتها القصصية «مثل الأفلام الساذجة» والتى صدرت حديثا عن دار الشروق. لحظات فريدة بطلاتها وحيدات يحلمن بالدفء، بغرف مبطنة بالحلم، والمشاعر الإنسانية الحميمة، بالخيال يعشن، وبقصص لم ولن تحدث يحاولن اقتطاف وريقة من زهرة الحياة. تمر مشاهد سعيدة أو حزينة فى حياة بطلتها فى قصة «مثل الأفلام الساذجة» فتتوقف عندها، وتتأملها لتكتب هذا المجيز المفعم بطاقات شعرية، ومشاهد تغزو الذاكرة كما لو كانت لقطات من فيلم، تتشبث به بطلتها لتنسج قصة حب تتمناها لكنها لا تكتمل، يتجلى فيها بهاء الخيال وقدرته على الانحياز للحظات السعادة، تلك اللحظات الفريدة التى لا تتكرر، وتصبح أحيانا زاد الرحلة، وفى مشاهد تجسد الماردة هذه اللحظات فنراها نابضة بالحب والشوق لمعانقة تفاصيل الحياة فتقول بطلتها : «تودعنى وتعانقنى وسط الشارع أو فى محطة المترو أو فى المقهى أمام الجميع وتذهب، لا يمر يومان إلا وتهاتفنى، تقول اشتقت لك فأترك كل شىء، وأهرع إليك، نسير يدا بيد فى الشارع أحيانا أتأبط ذراعك وأتمنى لو كنا مثل كل هؤلاء الناس العاديين السائرين حولنا، الذين يذهبون إلى السوبر ماركت لشراء حاجيات البيت، ويقفون لشرب عصير القصب فى الأكواب الزجاجية المضلعة، ويجرون أطفالهم من أيديهم للحاق بالأتوبيس ويعودون إلى بيوتهم يتابعوا المسلسل العربى ثم يغرقون فى النوم، لماذا عجزنا أن نكون عاديين». وتتبدى غرابة هذه العلاقة العاطفية وغموضها حين تحلم بطلتها ببساطة العيش، والتمتع بتفاصيل الحياة اليومية بينما يحلم حبيبها بطريقة مختلفة، ويحمل بداخله مشاعر متناقضة متوجسة، مرتقبا المجهول، مضيعا لما بين يديه من ثروة حب تغدقها عليه فتاته التى تستعيد كل مشهد من علاقتهما كأنها لقطة من فيلم سينمائى فتقول الساردة : «أرانا مثل جالسين متجاورين على مقعدين فى محطة المترو، نتابع مرور القطارات أمامنا، تتوقف ويخرج منها ناس ويهبط منها ناس، وأنا وأنت مازلنا فى مكاننا، أخبرتنى بأننا لا يمكن أن نكمل حياتنا معا، وأن حبك لى غير مُعّرف، تحبنى لكنك لا تريد إكمال حياتك معى، سألتك إن كانت هناك امرأة أخرى، فقلت: «ليست امرأة بعينها، ربما حلم بامرأة لم يتحقق بعد». وتنكسر العلاقة بعد هذا الاعتراف الغامض حيث تدرك الفتاة أنها بعيدة عنه، وأنها فى مكانها القصى وحيدة تستعيد تفاصيل حياتها فى مشاهد متقطعة مثل الأفلام الساذجة فنسمع تردد الألم ونسمع صوت نفس محزونة يتردد فى لوحات بصرية حافلة بالصوت والحركة وطعم الأمكنة وتأنس بهذه التفاصيل التى تلونها عين امرأة عاشقة فتقول بطلتها: تذكرت قميصك الكاروهات، وطريقة مشيك وابتسامتك، وذقنك المرفوعة قليلة، وعينيك اللتين تضيقهما فى الشمس، تذكرت رائحتك، وتسريحة شعرى، تذكرت مزاحك، وتذكرت مكالماتنا الطويلة، مقهى المحطة، وتذكرت كوستا محمد محمود، تذكرت العمارات التى كنت تحب السكن فيها، تذكرت شارععنا القديم الذى أخبرتنى فيه أنك تحبنى». ثم تضعنا الساردة أمام انكسار هذه العلاقة التى هذه العلاقة التى تصف فيها حبيبها بأنه يعيش الحياة على السطح رغم أنه فى الوقت نفسه بئر عميقة أما هى فتعيش تحت جلد الحياة وتشعر بكل شىء بعمق، وترصد هذه اللحظة الحزينة لحظة الفقد فتقول:
«كل هذه المشاعر ولم تسعدنى لأننى أدركت فداحة ما حدث، وأننى فى كل اللحظات التى عشت فيها بدونك كنت أخدع نفسى». وفى عبارة واحدة بارعة تنهى الكاتبة قصتها لتولد وحدة بطلتها، وشعورها العميق بالوحشة فتقول: «عندما تركتك هذه المرة، كان وجهك يخرج من الكادر وأنا ألوّح لك، لكنى لم أبتسم، ولا أنت أيضا ابتسمت». الشعور بالاغتراب تجليات الوحدة فى هذه المجموعة القصصية تلتمس حس الحياة فى كل الكائنات والموجودات حيث ترهف المشاعر، وتكتنز النفس الإنسانية بالرغبة فى الحصول على الدفء والمشاركة، وفى قصتها «شيطان أبيض» تتماهى الزوجة التى تشعر بالاغتراب مع قطتها البيضاء، فالزوج منفرد بعالمه وهى تأتنس بقطة اشترتها واستعادت بسببها حس الحياة الونس المصاحب لشغبها فشجعتها على الحركة فى المنزل الخالى فتصف بطلتها مشاعرها تجاه القطة التى تشاركها «القفص الضيق» و«الرغبة فى الانطلاق من أول لحظة لتعارفهما» فتقول : «عيناها خضراوان تملكان نفس النظرة الناعسة المغوية للقطط، وبتلامسهما، انتقلت إليها مشاعر القطة كاملة، تعاستها فى القفص الضيق، رغبتها فى الانطلاق، تلمس البلاط البارد للمحل، الشعور بنسمات الهواء الحقيقى فى الشارع، وليس هبات الهواء الباردة الصادرة من المكيف، شعرت بأنها فى حاجة لمن ينقذها، استسلمت لنظراتها المغناطيسية وأخبرت البائع بأنها تود شراءها». وتبلغ القصة ذروة إنسانيتها عندما تصف الساردة شعور بطلتها تجاه القطة التى كادت تفقد حياتها بسبب ترك الزوج نافذة الحجرة مفتوحة ليدخن سجائره، فتقفز القطة ثم ترقد فوق بقعة من دم جروحها، وهنا إشارة خافية أو مستترة تشى بإهمال الزوج وعدم اهتمامه بحماية القطة أو رعايتها وتركها لوحدتها حتى قفزت من النافذة تبتغى مهربا وفى مشهد دال تعبر الساردة عن هذا الشعور بالأسى والفقد الذى تعانيه بطلتها المجروحة بالوحدة كقطتها: «وصلت إلى الشارع فحذرها من الاقتراب لكنها أبعدته لترى القطة راقدة فوق بقطعة من الدم، تذكرت نظرتها يوم تشبثت بملابسها أمام القفص، شعرت بقشعريرة، وأنها موشكة على البكاء، أحزنها أنها لم تحبها بما يكفى، أنها لم تشاركها اللعب أبدا، أنها لم تحمل». ثم استطاعت الزوجة إنقاذ القطة بمساعدة الجيران، وأطمأنت على القطة التى شاركتها لحظات الوحدة بشقاوتها وحركتها السريعة كشيطان صغير أعاد لها حس الحركة، والونس، وتصف لحظة عودة الزوجين إلى سكونهما الجديد المختلف. بعدما عادا إلى المنزل، ورغم السكون المخيم على البيت الصغير، وحزنها العارم الذى يسكن قلبها إلا أنها فى هذه الليلة بالتحديد نامت بعمق لم تعرفه منذ أعوام». حب وأسى وفى قصتها «تفاصيل صغيرة» ترصد الساردة إحساس بطلتها بالأسى بعد تجربة انفصال قبل إتمام الزواج، تفاصيل صغيرة أدت إلى نشوب الخلاف بين أهل العروسين، اتفق بعدها العريس مع والد العروس على إنهاء الارتباط فمضيا معا ومعهما العروس إلى مكتب المأذون، وتعود الفتاة إلى ذكرياتها فتصور قلق أمها ورعبها عندما اقتربت ابنتها من سن الثلاثين، وموافقتها بل تنازلاتها حتى تتمم هذا الزواج، تعلقت الفتاة بالعريس لذا تصف صدمتها بحدوث الانفصال فتقول : «لم أكن أعلم أن بعد أشهر قليلة سأمضى على قسيمة طلاقى بمثل هذه البساطة، لملم المأذون أوراقه بينما يتمتم بكلمات عامة عن النصيب والمقسوم ولم يجد أبى شيئا يقوله: مد مصطفى يده لى وضغط على يدى قليلا.
ريشة: جون مراد
مع السلامة لم أرد، اكتفيت بهزة رأس وأنا ابتسم بجانب فمى، سبقنا فى المغادرة بينما انتظرنا نحن دقائق قبل الرحيل، عندما عدت إلى البيت لم أشعر بشىء، كنت قد أصبت بحالة غريبة من التبلد، وكان أبى وأمى يتحدثان عما حدث، وكأن أبى لم يحك لها مرتين فى طريق العودة، يستعيد الموقف مرات ومرات، كيف انتظرنا مصطفى أمام المكتب، وكيف استقبلنا بابتسامة وكأنه لا يبالى، وكيف جلسنا جميعا أمام المأذون لننهى الأمر، وكأنها مجرد أوراق تمضى». فتضعنا الساردة أمام العلاقات التى توشك أن تتوج فتنتهى، وتوشك أن تكتمل فتتلاشى، ورغم المشهد الذى يصور لحظة الانفصال، لا مبالاة العريس «مصطفى»، وصدمة العروس إلا أن الساردة تمضى عميقا نحو تصوير الإحساس الداخلى للعروس، المشاعر الكامنة والقلب المهزوم كاشفة عن الألم العميق لحياة مسلوبة فترصد فى مشهد معبر معاناة بطلتها، وأساها العميق على حب ضائع، وحبيب مفارق، تطاردها الذكريات رغم ارتبطاها برجل آخر فتقول بطلتها: «أحيانا أقابل «مصطفى» صدفة فى السوبر ماركت أو فى السوق مع زوجته وأطفاله، وأنا مع زوجى وأطفالى، نتجاهل بعضنا بعضا باتفاق وهمى مشترك، نتظاهر بأننا لم يعرف بعضنا بعضا قط، لم تتشابك أيدينا، لم نخطف قبلة سريعة على السلم المظلم، لم نفكر فى أسماء أطفالنا معا، لم نُحضِّر قائمة بالبلاد التى نود زيارتها معا، لم نضحك معا ونبكى معا، وكأن الاعتراف بأننا كنا نحلم بحياة واحدة ذات يوم، سيجعلنا نشعر أنها بالفعل قد سُلبت منا» . ليله الطويل أبطالها أيضا تقسو عليهم الوحدة مثل الجد فى قصتها «خوف» فتصفه وهو يتشبث بالحياة رغم وحدته، ومقاومته وبحثه الدائم عن أنيس فتصفه الساردة «تأملته بينما يتلاشى سريعا أمام عينى، نظراته مذعورة، أرعبنى تشبثه بحياة لم يعد قادرا حتى الإحساس بها، كان قد تخطى الثمانين بسنوات، رأى أولاده وأحفاده، وأبناء أحفاده، ولم يكتف بعد». وتصور إحساس الحفيدة بالتقصير تجاه الجد فتقول: «يثقلنى إحساسى بالذنب الشديد من كل شىء، من كل المرات التى خفت فيها من دخول غرفته، والجلوس فى صحبته فى ليله الطويل، من أننى لم أخفف عنه بصوت أنفاسى إلى جانبه، اكتشفت أن رعبى من لعنة تتلبسنى ساذج، وأيقنت ألا فرار من الوحدة إلا بالموت، ولا وقوع للموت بغير الوحدة». .. هذه المجموعة القصصية لنورا ناجى دعوة للتشبث بالحياة والحب، وصرخة ضد الوحدة الوحشة بلغة سردية مبدعة، ورؤية فنية متميزة.