الرحلات بشكل عام ليس هدفها الوحيد الترفيه، وإنما لا بد أن تخالطها المعرفة، معرفة أشخاص، أماكن، ثقافات. ومن خلال رحلة البحث فى الحلقة الأولى فى عالم مستحضرات التجميل المضروبة، اعتقدت أننى وصلت إلى النهاية، لكن تلك النهاية كانت بداية خيط جديد وجب على أن أتبعه، وهو عالم «النباشين».
والفعل «نبش» كما هو واضح يعنى «كشف»، بحث أو نقب ولكن هيهات، التنقيب والكشف هنا ليس عن البترول، وانما كنز فى معجم جامعى القمامة، ألا وهو «العلب البلاستيكية الفارغة»، خاصة علب مستحضرات التجميل، الشامبو، علب كريمات العناية بالشعر والبشرة، علب كريمات الجسم، كريمات اليدين والقدمين، وأى علب بلاستيكية أو زجاجية، يتم البحث عنها فى كل القمامات.
سيارات تنقل القمامة بعد وصولها المقطم
هناك أفراد بعينهم مسئولون عن الفرز، أو بالأحرى «النبش» فى القمامة المجمعة، ليتم استخراج تلك العلب الصالح منها يتم تقسيمه إلى فرز أول وثان، وغير الصالح يتم جمعه لتسييحه وإعادة تدويره، وفى الحالتين الشارى موجود. تلك المعلومات استطعت الحصول عليها، عندما تنكرت فى شخصية فتاة صاحبة صالون تجميل نسائى واقتربت من جامع قمامة لأخبره أن لدى العديد من العلب البلاستيكية الفارغة فى صالون التجميل، وسألته فجأه: تشترى الكيلو بكم؟ فأجاب بلا تردد: «فرز أول أو ثان»، لم أكن على دراية بالفرق فوجهت له السؤال ليشرح الفرق، من هنا جمعت تلك المعلومات أن البلاستيك الشفاف هو الأفضل والأعلى سعرا، أما البلاستيك الألوان الذى يخفى ما بداخله من منتج أقل فى السعر، وأن البلاستيك الشفاف الكيلو منه ب 20 جنيها أما الملون ب15 جنيها، وأنه على استعداد ليقوم بتوصيلى بالشخص المناسب لفرز تلك العلب ولكن لا بد أن تكون الكميات لدى كبيرة لا تقل عن 50 كيلو. لم يكن هذا الحوار المتبادل مع (ب. ط) أمام دير سمعان الخراز وهو أكبر مكان لتجميع القمامة هو النهاية، ولكن طلبت منه التواصل على الهاتف عندما يستأذن (ك. ر) وهو القادر على فرز العلب الفارغة التى أمتلكها، للاتفاق على سعر الشراء.
نخترق مافيا المستحضرات المضروبة
قمت بالاتصال به فى الموعد المحدد بيننا وكان شديد الحرص على عدم توصيلى برقم (ك. ر) إلا أننى أخبرته بأن هناك مشتريا آخر بمنطقة عين شمس سيقوم بشراء تلك العلب الفارغة لأنها تزحم صالون التجميل، فرضخ وأرسل لى رقم (ك. ر) الذى تحدثت معه بشكل مباشر، وأخبرنى أن تلك العلب يقوم ببيعها لبعض التجار لإعادة استخدامها، وظهر لى الخيط الثانى، عندما سألنى عن إذا ما كان لدى بعض المنتجات المشهورة المستخدمة ولم أنته من استخدامها وأرغب فى بيعها على حالتها إن كانت تحوى نصف المنتج أو ربعه، لأن هناك سيدة ربة منزل «بتسترزق» عن طريق إعادة بيعها بحالتها من المنتج الأصلى بلا أى إضافات بأسعار رمزية عن طريق مواقع التواصل الاجتماعى. وكانت تلك الرحلة هى توثيق حى لما قاله عضو مجلس إدارة اتحاد الصناعة والرئيس السابق لشعبة مستحضرات التجميل بغرفة الدواء محمد البهى: للأسف لدينا سلسلة تجارة تمارس الأضرار بشكل كبير فهناك منطقة «الجامع الأحمر» التى تقع بين منطقة البساتين ومنطقة القلعة، وهى عبارة عن سوق كبيرة لبيع العطور، الحيوانات ومستحضرات التجميل، ويوجد هناك جزء خاص يتم فيه تجميع كل «البراندات» أى الماركات العالمية بلا استثناء من القمامة ويتم بيع العبوات باسم الشركات الأصلية بنفس الملصق اللى عليها ونفس العلامة التجارية. يضيف: تعبئتها بمواد مغشوشة قد تكون مسرطنة لأنها غير أصلية ولا رقابة عليها، والدليل على ذلك أن سعر المنتج الأصلى يكون متعارفا عليه ولا يجوز بيعه بسعر أقل من الشركة الأم لأنه محمل بضريبة قيمة مضافة وضرائب ولأن مكوناته أصلية تراعى فيها معايير الجودة وخاضعة للرقابة ومصرحة للبيع.
مقلب نفايات المقطم الذى تخرج منه العلب الفارغة التى يتم إعادة تعبئتها
ويضيف: تجار مستحضرات التجميل الذين يقومون بهذا الغش يبيعون ذلك المنتج بسعر زهيد فى كلٍّ من الأسواق الشعبية مثل العتبة، حارة اليهود والجامع الأحمر وغيرهما من الأسواق والمحلات التى تغيب عنها الرقابة إن كانت أسواق جملة أو قطاعى بالإضافة لبيعه لأصحاب المشاريع الصغيرة أو «الباعة جائلين», بعض «صالونات التجميل» خاصة الشعبية منها، وأصحاب مشاريع بيع أدوات التجميل على الإنترنت، ومحلات الهدايا والتجميل فى المناطق الشعبية.. ومن المؤكد أن هذا الانخفاض الحاد فى سعر المنتج دليل على أنه مغشوش، فهؤلاء التجار يحصلون على هذه العبوات الأصلية الفارغة بأسعار غالية جدا وتكون مجمعة من القمامة من خلال «نباشين» القمامة أو جامعى القمامة الذين يقومون بفرز كل محتويات القمامة وإعادة بيع العبوات الفارغة، ليقوم التجار بإعادة تعبئتها بمواد غير أصلية مغشوشة، مواد ملونة وتركيبات غير صالحة، وبالتأكيد يتعرض المستهلك للخداع، لأنه يرى اسم الشركة الأصلية على العبوة، والبلد المنشأ الأصلى وأيضا «كيو آر كود»، ولكن ما بداخل العبوة لا يمت بصلة للمنتج الأصلى. أضاف: الوحيد الأصلى وغير مغشوش فى هذه التجارة هى العبوات فقط، مطالبا بأن يكون هناك تغليظ لعقوبة الغش التجارى، لأن المسائل المتعلقة بالبشرة، الشعر والوجه، ممكن أن تؤدى إلى أمراض خطيرة جدا، وعلاجها مكلف إذا كانت على نفقة الدولة أو على المواطن.. وانتشار الفيديوهات على السوشيال ميديا من خلال نموذج مثل «قمر» الوكالة، أو غيرهما ممن يشيرون إلى أسواق لبيع مستحضرات التجميل بالجملة أو القطاعى، من شأنه أن يساعد الحكومة فى الوصول إلى أصحاب تلك المحلات وأخذ عينات للتأكد من صحة المنتجات أو ضررها وسهولة التحكم وعملية الرقابة.
من هنا تبدأ رحلة الميك آب المضروب
وأكد أن التصدى للأمر بحاجة إلى شقين، الأول مزيد من جهود الجهات الرقابية مثل جهاز حماية المستهلك، بالرقابة والتفتيش المستمر، والشق الثانى، تعديل القوانين لأن قضايا الغش التجارى دائما ما تنتهى بغرامة، والشى المهم أن بعد تعديل قانون جهاز حماية المستهلك، إذا كان البائع فى الشارع كيف سيتم تطبيق غرامة عليه، «هو متنقل، ليس مصنع، أو محل أو مكان معلوم»، وهنا لا بد أن تظهر الجهات الرقابية للحد من هذا الغش فى مستحضرات التجميل، ليس للباعة فقط وإنما أيضا لتجار صناعة مستحضرات «بئر السلم» الذين يختارون أماكنهم لصناعة هذا المحتوى فى مناطق عشوائية ويعملون فى أوقات وساعات غير ساعات العمل ليصعبوا على الدولة إمكانية رصدهم وعقوبتهم، ولذلك لابد أن تكون غرامة الغش التجارى كبيرة جدا وعقوبة كبيرة، لأن من أمن العقوبة أساء الأدب».
نهاية رحلة مستحضرات التجميل المضروبة على الرصيف
أين حماية المستهلك؟! كان لا بد أن نتوجه إلى جهاز حماية المستهلك لمعرفة القوانين والعقوبات المفروضة فى حالات الغش التجارى، ولحصد عدد البلاغات المقدمة أو الشكاوى حول منتجات مستحضرات التجميل، وما هو الدور الرقابى الذى يقومون به للكشف عن صناعة مستحضرات التجميل «بئر السلم». تحدثت مع دكتور أيمن حسام الدين رئيس جهاز حماية المستهلك الذى بدوره طلب منى إرسال الأسئلة، ولم أحصل على الإجابات، فقمت بالتواصل مع المتحدث الرسمى للجهاز الإعلامى أشرف مجدى وإعادة إرسال الأسئلة المطلوبة والذى بدوره أكد حرصه على الرد وتابعت لعدة أسابيع دون جدوى مما تسبب فى تأخير نشر التحقيق. وما زال حق الرد مكفولا لجهاز حماية المستهلك للرد عما يوجه إليه من تقصير. وصلت إلى محطة أخيرة من رحلة البحث فى عالم مستحضرات التجميل المغشوش وصناعة مواد تجميل «بئر السلم» لأتحدث مع رئيس الشعبة العامة للأدوية ومستحضرات التجميل باتحاد الغرف التجارية دكتور على عوف سألته عن كيفية ضبط المواد المخالفة وغير المطابقة للمواصفات. قال: المستحضرات الأصلية لابد أن تكون مسجلة فى هيئة الدواء المصرية، ويتم صناعتها فى مصانع مرخصة وتحت إشراف ورقابة من هيئة الدواء المصرية ومصانع مسجلة طبقا لمراجع ومعايير عالمية. يضيف: تقوم هيئة الدواء بأخذ عينة لتحليلها قبل التعبئة والبيع، وأثناء تلك العملية إذا كانت نتيجة التحليل غير صالحة أو غير مطابقة للمواصفات العالمية يتم إعدامها بمحضر رسمى، ولا يتم تعبئتها وبالتالى لا تنزل فى الأسواق ولا تصل إلى المستهلك، وفى حال كانت مطابقة للمواصفات يتم توزيعها من خلال الموزعين المعتمدين فى هيئة الدواء والغذاء.. كما تقوم هيئة الدواء بالنزول على الأماكن المرخصة من قبلها لتفتش وتأخذ عينات لتحللها وإذا كانت غير مطابقة للمواصفات تبدأ بتوزيع منشورات بسحب تلك المنتجات مجهولة المصدر، ويتم سحبه من الأسواق الموزعة المعتمدة من هيئة الدواء والغذاء فورا، وإذا لم يتم التنفيذ يتم غلق المكان. أضاف عوف: لكن للأسف هناك سوق مواز، مصانع مجهولة المصدر «تحت بير السلم» والمستهلك يسعد بالسعر الرخيص دون النظر إلى أسباب رخص المنتج ويقوم بالشراء من أى جهة لا تخضع لرقابة مثل الأسواق المفتوحة بالشارع أو صفحات الفيس بوك ومواقع التواصل الاجتماعى، وقال: أوجه خطابى للمستهلك بأن يقوم بشراء مستحضرات التجميل أو الشامبو من أسواق كبيرة ومعروفة لأنها تخضع للرقابة من هيئة سلامة الغذاء ومن جهاز حماية المستهلك أو الشراء من الصيدليات أيضا لأنها تحت الرقابة والتفتيش من هيئة الدواء والغذاء، وذلك لحجم الأضرار الناجمة عن استخدام منتجات مجهولة المصدر». لا توجد أى ضمانة أو رقابة لاستخدام منتجات مضروبة
أما عن الأضرار فيقول: «تتسبب المواد المضروبة فى تساقط للشعر، تلف وحساسية لفروة الرأس، حساسية بالجلد وحكة، حساسية بالعين وأضرار أخرى». دعا المستهلك بأن يكون له دور كبير فى الإبلاغ عن أى منتج قام بشرائه من مكان معروف ويحتفظ بالفاتورة ليقدمها لجهاز حماية المستهلك، أو هيئة الغذاء والدواء، فيتم فحص المنتج وتحليله لديهم وإذا كان به مشكلة من سوء تعبئة أو تخزين أو غيره نقوم بسحبه من الأسواق.