الحنين إلى صوت اللغة العربية وحروفها ومفرداتها يزداد فى الغربة - ليست نظرية بالطبع - ولكنه على الأقل إحساسى. من وقت إلى آخر أشتاق إلى الكلام باللغة العربية - ليس مجرد الكلام لكنه أيضًا الإحساس المصاحب للمفردات والصياغات. عجيب أمر هذه الغربة التى تفجر مشاعر قد تتسم بالجنون أحيانًا أو بالمبالغة التى يراها البعض غير منطقية. نعم فى الغربة.. اكتشفت اللغة العربية أو بمعنى أكثر دقة، أعدت اكتشاف علاقتى باللغة العربية؛ ليس لأننى أقوم بتدريسها فى الجامعة لطلاب من مختلف الأصول - رغم أهمية هذا السبب الذى يجعلنى أرى كل يوم ميلاد كلمة ومعلومة وصوت عربى يتعلمه الطالب ويضيفه إلى ملف خبراته العقلية وذاكرته السمعية والبصرية؛ ولكن لأن اللغة العربية معجزة حقيقية تستحق أن نفتخر بها - نحن الناطقين بها-، آن أوان تحسين علاقتنا بها، وليتنا ننقل هذا الفخر لأولادنا بكل ما أوتينا من قوة رغم علمى أن المهمة صعبة خاصة - ولا أستثنى نفسى - بل هو التحدى الأكبر لى مع ابنى 13 سنة الذى ينتمى بكل أسف لجيل يعتبر أن اللغة العربية لغة صعبة ومملة ومزعجة؛ بل يزدادون فخرًا بأنهم يقرأون - فى حالة إن قرأوا - بلغات أخرى غير العربية، أو يتباهون بالحديث الدائم فيما بينهم باللغة الإنجليزية أو الفرنسية. صحيح! إن تعلُّم اللغات هدية ومنحة عظيمة تضاف إلى رصيد صاحبها، ولكن فى رأيى أن التخلى عن اللغة الأم نقمة تسحب الكثير من رصيده الثقافى والإنسانى أيضًا. فما بالكم باللغة العربية ولا أنكر ولا أخفى تحيزي. قررت أن أكتب هذا الموضوع بمناسبة اليوم العالمى للغة العربية والذى يُحتفل به كل عام فى الثامن عشر من ديسمبر- عفوًا إن كانت الكتابة جاءت متأخرة قليلًا- حيث تَقرر الاحتفال باللغة العربية فى هذا التاريخ لكونه اليوم الذى أصدرت فيه الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارها رقم 3190، والذى يقر بموجبه إدخال اللغة العربية ضمن اللغات الرسمية ولغات العمل فى الأممالمتحدة بعد اقتراح قدمته المملكة المغربية والمملكة العربية السعودية خلال انعقاد الدورة 190 للمجلس التنفيذى لمنظمة اليونسكو. وكم كنت أتمنى بكل مشاعر الغيرة أن تكون مصر هى المتقدمة بهذا الاقتراح. إنها اللغة العربية - صاحبة المعجزة - اللغة الثرية التى تمتلك من المفردات ما يزيد على 12 مليون وثلاثمائة ألف كلمة وفق ما نشرته مواقع مهتمة باللغة العربية على شبكات الإنترنت. ووفق ما تم إحصاؤه، وجدوا أنه بمقارنة عدد مفردات وكلمات اللغة العربية وبين مفردات أهم أربع لغات حية فى العالم مثل الإنجليزية والفرنسية والروسية؛ كل وفق ما ورد فى أهم المعاجم والمراجع بكل لغة، كانت اللغة العربية هى الأكثر ثراءً والأعظم بمفرداتها على الإطلاق بفروق شاسعة لا يمكنك أن تتخيلها، فاللغة الثانية فى الترتيب من حيث الثراء هى اللغة الإنجليزية التى تحتوى على حوالى 650 ألف كلمة!. • هل عرفت كم أنت ثرى ومحظوظ بلغتك العربية؟ بصراحة لم تكن مسألة تقدير اللغة العربية تشغلنى بهذا الشكل مثل السنوات الأخيرة التى بدأت معايشة أشخاص يتملكهم التحدى للخوض فى أغوار هذه اللغة وهم لا يعرفون عنها شيئًا، ربما لا يعرفون أنها تكتب وتقرأ من اليمين إلى اليسار. من واقع دراستى وتدريسى للغة العربية كلغة أجنبية لغير الناطقين بها، قابلت طلابًا كثيرين يدرسون أو يريدون دراسة اللغة العربية لأغراض مختلفة. هناك الطلاب الذين ينتمون لأصول عربية، لكنهم كبروا وتعلموا فى أمريكا، ولا يعرفون سوى الكلام بلهجاتهم العربية العامية المختلفة مع عائلاتهم فى البيت، وأغلبهم قد يفهمون ما يقوله الجيل الأكبر لهم لكنهم يردون عليهم بالإنجليزية. فكلامهم ممزوج دائمًا بكل المصطلحات والتعبيرات الإنجليزية، لأنهم غالبًا يشعرون بعدم قدرتهم على التعبير عما يريدون قوله إلا باستخدام اللغة الأكثر راحة لهم وهى « الإنجليزية». بعض هؤلاء الطلاب يتكلمون العامية لكنهم لا يعرفون القراءة ولا الكتابة بالعربية، لغتهم مستمدة من الحديث العائلى اليومى وما يتعرضون له من ثقافة عربية داخل بيوتهم، تختلف من أسرة إلى أخرى. وهذأ أمر طبيعى لكثير من الشباب الأمريكيين المنتمين إلى جذور عربية أو إسبانية أو باكستانية أو هندية، تظل علاقتهم بلغاتهم الأم فقط فى بيوتهم مع أهلهم وأقاربهم أو فى مدارس الأحد حيث يتعلمون لغاتهم يوم الأحد «العطلة الأسبوعية ». وهؤلاء الشباب - من الأصول العربية - لديهم دوافع قوية وحقيقية لتعلُّم اللغة العربية الفصحى ويشعرون أن الأمر سيكون أسهل بالنسبة لهم لما يملكونه من خلفية لغوية، وبحسابات معظم الطلاب فى كل مكان حول العالم، فهم يبحثون عن «الدرجات والتقدير» وكيفية تحقيق أعلى نسبة فائدة بأقل مجهود. وحيث أن دراسة لغة أجنبية هى شرط إجبارى على الطلاب فى بعض الجامعات وليس اختياريًا، فبعض الطلاب العرب يفضلون دراسة اللغة العربية لمجرد أنهم من أصول عربية - أمر منطقى جدًا! وهناك طلاب ممن عاشوا فى بلادهم العربية لمرحلة تعليمية قد تصل إلى الثانوية، فهم بلا شك ليسوا فى حاجة للانضمام إلى فصول تدرس اللغة العربية بداية من الحروف الأبجدية أو بمستويات أكثر تقدمًا، ولكن المفاجأة عندما أجد طالبًا عربيًا ينضم إلى فصل المبتدئين.. لماذا؟ لأنه يفكر بطريقة نفعية وفق حساباته: أنا عربيّ، أجيد اللغة العربية، سأحصل على أعلى درجات دون مجهود تقريبًا. وهناك طلاب من جنسيات مختلفة لا يعرفون أى شيء عن اللغة العربية، ولكنهم يدرسون العلوم السياسية أو العلاقات الدولية، وربما بعضهم عنده خطة مستقبلية لدراسة منطقة الشرق الأوسط أو العمل بأحد البلدان العربية، نعم فخطط بعض الطلاب تدهشنى أحيانًا بكل ما يملكونه من وضوح فى الرؤية والأهداف. البعض يدرس العربية لأنه متخصص فى دراسة العلوم الاجتماعية مثل علم الإنسان «الأنثروبولوجي» خاصة فى الدول العربية، وهم يتعلمون اللهجة العامية لأنهم يريدون التواصل مع الناس العاديين فى الشارع ومن مختلف الطبقات. ودراستهم تكون مزيجًا من اللهجة العامية المصرية أو الشامية وكذلك الثقافة العربية. • كنتُ قد اعتدت أن أسأل كل طالب فى بداية كل فصل دراسى: لماذا اخترت دراسة اللغة العربية تحديدًا؟ أتذكر جوان، وهى طالبة أمريكية درست معى اللغة العربية العام الماضي، كان تخصصها الأساسى هو العلاقات الدولية. كان لديها اهتمام ملحوظ بالثقافة العربية وبالفن المصرى؛ حيث إنها كانت تدرس الرقص الشرقى وتستمع إلى الموسيقى العربية، وفوجئت أنها ليست مجرد مهتمة باللغة والثقافة العربية، ولكنها تحمل هدفًا تخطط له وتعمل من أجله، هو أن «جوان ولش» تريد أن تكون مُحكمّة دولية حيث أنها مهتمة بقضايا الشرق الأوسط للدرجة خاصة قضايا اللاجئين السوريين وما يتعرضون له من ويلات الحرب التى طالت الأطفال أيضًا، جوان» طالبة وأم، تدرس وتربى ابنتها ومهمومة بالشأن العربى والسوري، وبدأت الانضمام لمجموعات تطوعية لمساندة اللاجئين السوريين. عندما كنت أسأل طلابى ماذا تريدون أن تفعلوا فى المستقبل؟ أجابتنى جوان بفضول لمعرفة كثير من المفردات الجديدة لأنها تريد أن تشاركنا بالفعل حلمها وهدفها، وقتها تأكدت أن دراستها للغة العربية لم تكن مجرد دراسة عابرة؛ فهى بالفعل تريد أن تحقق إنجازًا إنسانيًا عبر تخطيها لجسور اللغة. قالت إن التحكيم الدولى سيتيح لها أن تقول كلمة العدالة من داخل الحكومة الأمريكية نفسها. وفى حفل نهاية الفصل الدراسي، ذلك الحفل الذى يقدم فيه الطلاب مشروعات فنية أو ترفيهية أو ثقافية باللغة العربية قاموا بإعدادها بشكل فردى أوجماعي، فوجئت بجوان تقترح علىَّ أن تقدم مشروعًا لدعم الأطفال السوريين المتضررين من الحرب أو اللاجئين وذلك من خلال رسائل حب ودعم وتعاطف يكتبها كل من يحب من طلاب اللغة العربية أو من جمهور الحضور باللغة العربية وستقوم هى بتوصيلها من خلال الرابطة التى تعمل معهم بشكل تطوعى لمساندة الأطفال ضحايا الحرب. بالفعل قامت جوان بعرض فكرتها باللغة العربية والإنجليزية وقوبلت هذه الفكرة بإيجابية رائعة من الطلاب العرب ومن الطلاب الأجانب الدارسين للغة العربية. كان المشهد شديد الرقة عندما يكتب طالب لم يتجاوز عمر معرفته باللغة العربية سوى شهور قليلة ويكتب بخط مرتعش وبمشاعر واثقة «نحن نحب أطفال سوريا». لا عجب من أن تكون اللغة العربية هى حلم وهدف؛ فقط لِمَن يصدق فيما تحمله المعجزة. أما «اِستفان» ذلك الشاب الأمريكى- من أصل مكسيكى-(طالب اللغة العربية الذى أصبح أستاذًا لها فى سبع سنوات) فهو حكاية يطول روايتها. 2_copy 3 4 5