تسير الأمور فى القرية ِالصّغيرة على نمطٍ واحد لا يتغيّر، ما إن يتنفّس الصّباح، تُسارِع ظُلمة اللّيل بالانحسارِ من فوقِ الحقولِ، تتراخى قبضتها التى فرضتها على البيوتِ طوال المسّاءِ، رويدا رويدا تُطارِد فلولها المُشتّتة جنود الشّمس المتوهجة من جهةِ المشّرقِ، وعلى تكاسلٍ تدبّ الحياة فى كُلّ شيءٍ، تنتفض البيوت بأهلها، تنحسر حركة دواب اللّيل، وتستعد الدُّنيا لاستقبالِ النَّهار وزواره. يجلس سلامة خفير النّظام جلسته الصّباحية المُعتادة، فى خُصهِ الجريد عند مدخلِ القريةِ، يظلّ فى نوبةِ حراستهِ من المغربيةِ وحتى شُروقِ الشّمس، يلتف (بالبالطو) الميرى الصّوف، الممتلئ بمزيجٍ من الرَّوائحِ الكريهة ، وكميةٍ لا بأسَ بها من التّرابِ، وبجوارهِ كومة كبيرة من حطبِ القُطنِ، وفوق حفرةٍ عميقةٍ ثبّت على جانبيها حجرين كبيرين، استقرّ (براد) شاى عتيق، لا يُعرف لونه من كثرةِ (الصّماد) المُحيط بهِ، لفّ حول عنقهِ الواسع، حِزمة من الأسلاكِ اتخذها مقبضا. كُلّ ما يشغل بال سلامة؛ هو أن يظلّ على وعيهِ حتى يقترب أوان الفجر، ومن بعدها مباحٌ له أن يغفو فى الخُصِّ، حتى انتهاء نوبةِ حراسته، لقد اعتاد ضابط النقطة الجديد المرور على ظهرِ الخيلِ فى تلك الأثناء، وهو رجل كِشرى وسمّاوى ولسانه زالف، هكذا اعتادَ سلامة نعته لزوجتهِ (ست أبوها)، إنّه لا ينسى آخر صدامٍ وقع بينهما، يسترجع صاحبنا تفاصيله فترتجف أوصاله، حين وطأته حوافر فرس البيه الضابط ، ضبطه مُتلبّسا بالنومِ فى الخدمةِ، اقسمَ عندها الضابط بشرفِ أمهِ؛ أن يربطه فى ذيلِ حصانهِ ويسوقه لبابِ النقطة ، لولا شفاعة ( البلك أمين) جارحي، الذى توسّلَ إليهِ بأرواحِ والديه، أن يتركه فهو صاحب عيال، ولا يقوى على البهدلة، بعد أن تعهّد أمامه وأقسم ألّا يعود لفعلتهِ مرةً أخرى.
فى ساعةٍ مُبكرة ، وقبلَ أن يتهيّأ للانصرافِ شقّ السُّكون المُخيّم من حولهِ صراخ، ألقى بكوبِ الشّاى من يدهِ، أمسك ببندقيتهِ استند عليها واقفا، وضع الطّاقية فوق رأسهِ الكبير، التقم سيجارته بين أسنانهِ، توسّط الجسر الترابى الفاصل بين القريةِ والتّرعة الكبيرة، حولَ وجهه ناحيةِ الصّوتِ لحظات وتداخلت الأصوات، فأصبحت مزيجا بين الصّراخِ والعويل والنّحيب، سارعَ أهل القرية الذين استفزّهم الصوت، امتلأ الجسر بهم، لم يجد بُدّ من مزاحمةِ الحشود، وبنبرتهِ الميرى المعتادة، اندفع شاهِرا سلاحه: وسع يا جدع منك ليه.. فيه إيه يا بلد.. على إيه اللمه دى.
تقدّم بِضع خطواتٍ قبل أن يتراجع سريعا، حين باغته المنظر، رجعَ للخلفِ خطوتين، كادَ قلبه أن يتوقف، قال مشمئزا : يا سابل الستر يا رب.. مين دا يا ولاد؟
تقدّمت أم هاشم بائعة الفجل، وقد أغرقت الدموع المخلوطة بالكُحلِ عينيها، فزادت من زُرقةِ وجهها، وقالت: أنا طلعت زى كل يوم أغسل (مقطف) الفجل على الموردة لقيته ممدد بالشكل دا.. .ادَ اضطربه جعل يفرك فى الأرضِ، لكنّه طلبَ أخيرا من أحدِ أصدقائهِ، الذهاب للنقطةِ وإبلاغهم بالواقعةِ، أمّا هو فسيظلّ فى حراسةِ القتيل لحينِ قُدوم السلطات.
وبعد ساعةٍ وصلَ ضابط النقطة، شابٌ فى نهاياتِ العقد الثالث من عمرهِ، يبدو أنّه من أبناءِ بحري، ما إن رآه حتى صرخَ فيهِ، قائلا: خير يا وش المصايب، وكنت فين لما المصيبة دى وقعت..؟!
لم يرد، مكتفيا بنظرةٍ خبّأها بين طياتِ ملفحتهِ التى لفّ بِها وجهه. مع قليلٍ من البرطمة، على الفورِ طلبَ منه أن يصرِف الأهالي، وأشار (للبلك أمين) جارحى أن يُشعِر المركز بالواقعةِ..أسرعَ صاحبنا فحمل دكةً من منزلٍ قريب، ووضعها للضابط على مقربةٍ من الجثةِ، ثم اشعل النار فى كومةِ الحطب، قال متردداً: أعمل لجنابك شاى.؟ فهم أن مزاج صاحبنا ليس على ما يُرام، تحرّك من سكاتٍ ناحية القتيلِ المُمدّد، جلسَ الضابط فى تأفف، ينظر فى وجوهِ العجائز، الذين افترشوا جانبى الجسرِ، وبعد مدةٍ وصل مأمور المركز وبصحبتهِ وكيل النيابة والطبيب الشرعي، استدعى الوكيل على الفورِ الشّهود لسماعِ أقوالهم : فين العفير إللى هنا.. إيه العبارة يا بني؟
اضطرب صاحبنا وتلعثم فى أقوالهِ، وهو موزّع النظرات ما بين الضابطِ والوكيل: يا بيه دى البت أم هاشم بياعة الفجل إللى شافته..
طلبها على عجلٍ لسماعِ ما لديها، وأثناء تدوين شهادتها تعالت أصوات النّحيب المكتومة، وانطلقت زفرات النساء: يا عينى يا بنى كبد أمك.. يا ترى بلدك فين يا غريب.؟
عندها استشاط المأمور غضبا: سكتوا الناس دى.. فين العساكر . يلا من هنا.
حاول ضابط النقطة تفريقهم لكنّه فشل، علا صوت سلامة وهو ينظر من حولهِ منتفخا : سكوت وإلا مش هيحصل طيب ...تفرّسه الضابط بعينيهِ وهو يعضّ شفتيه من الغيظِ، طأطأ صاحبنا رأسه ومشى بعيدا عنه، كان الطبيب الشرعى قد انتهى من فحصِ الجثة، وكتابة التقرير : بعد المُعاينةِ ثبت لدينا أنّها جثة مفصولة الرّأس، على ما يبدو لرجلٍ فى العقدِ الرابعِ من عمرهِ، ولا يوجد معه ما يستدل بهِ على شخصيته. .طلب وكيل النيابة على الفورِ مسح المنطقة، فقد يعثر على ما يكشف غموض الحادث، انتشر الخفر والعسكر يفتشون جانبى الجِسرِ وأسفل التّرعةِ، بين الحلفا وفى أشواكِ العاقول، ووسط الغابِ والقصب الكثيف المفترش المكان، استغرق البحث قُرابة الساعتين، قبل أن يصرخ سلامة وهو يجرى ناحية الضابط ، ووجهه يتهللّ : لقيت محفظة يا سعادة البيه ..التقطها منه الضابط فرِحا، وقال: عفارم عليك يا سلامة شاطر ...أمسكَ الوكيل بالمحفظةِ يفتشها، طلب من كاتبهِ أن يدون: وبالبحثِ فى محتويات المحفظة عُثر بداخلها على مبلغٍ مالى مائة جنيه مصرى، وصورتان شخصيتان لصبيٍ وفتاة فى سنِ العاشرةِ تقريبا، وبطاقة عائلية باسم صابر سعداوى جاد الله، من محافظة أسيوط .
سرت بين الأهالى غمغمة، وبصوتٍ واحد قالوا: أسيوط.. أسيوط .؟!
انفجرت عجوز على الفورِ باكية : أسيوط.. يا عينى ع الغريب.. وإللى جرا له.
نظرَ وكيل النيابة من حولهِ ، طلب من أحد العساكر أن يعرض صورته على الحُضورِ للتعرّفِ عليهِ، أجمع الكُلّ على أنّهم لم يروه قبل سابق، انبرى أحد عجائز القرية من بينِ الجموع، يتوكأ على عصاه ببطئ، أمسك بالعسكرى من كتفهِ: ورينى كدا يا باشا.. آه دى صورة صابر بياع الفول، إللى فى عزبة طنطاوى.. يا حول الله وعمل إيه المسكين علشان كدا.؟!
كانت الشمس قد توسّطت كبد السّماء، ظهر الإرهاق على وجهِ الجميع، برم المأمور فى مكانهِ مُنزعجا، وهو يُضرب فخذه بعصاةٍ فى يده ويبرِّق فى ساعتهِ، وقال: فين شيخ البلد إللى هنا..؟
تقدّم منه وهو يُضرب برجلهِ الأرض، مؤدّيا التحية العسكرية: تمام يا فندى ..
نظرَ المأمور إليهِ بازدراءٍ، وقال: مفيش لقمة ولا كوبة شاي، ولا حتى بلعة ميه للناس دى يا شيخ البلد، أنتو بخلة كدا مع ضيوفكم.
تفلتت ضحكات الأهالي، فشيخ البلد الحاج سعداوي، من أبخلِ رجال الزِّمام ، على الرّغمِ من ثرائهِ الفاحش، تحرّك الرجل مُناديا: بسرعة يا واد منك له بلغ الحريم يجهزوا لقمة عليها القيمة للبيه المأمور وضيوفه.
رجع رجال النيابة والطب الشرعى من حيث أتوا؛ لإكمالِ باقى الإجراءات، أمّا المأمور وضابط النقطة والعسكر فقد حلّوا ضيوفا على شيخِ البلد، همسَ الضابطُ فى أذنِ سلامة: حراسة الجثة مسئوليتك يا سلامة لغاية الإسعاف ما تيجى.. شد حيلك يا بطل..انشرحَ صدر صاحبنا، وارتفعت معنوياته، وعلت وجهه الأسمر ابتسامة لم يستطع إخفاءها، أخيرا انفكّ نحسه، وانحلّت عقدته مع ضابطِ النقطة عدوه اللّدود، على الفورِ هاج َفى النّاسِ وزمجر: يلا يا خويا منك ليه.. على بيتك هى فرجة...انصرف الناس ولكنّ نواحهم استمر على الغريبِ المغدور، وبعد أيامٍ جاءَ الخبر، فقد اتضح أن القتيل هاربٌ من ثأرٍ قديم، وتخفّى فى عزبةِ طنطاوي، لكن أصحاب الدم تعقبوه، وأخذوا بثأرهم منه ، ثم جزّوا رأسه وحملوها معهم؛ إمارةً يقدِّمونها لمن أرسلهم .
أغلقِت أوراق القضية، وطُويت فى أدراجِ النسيان، لكنّ سلامة خرجَ منها الرّابح الوحيد، بعد أن كسبَ ثقة ضابط النقطة ونالَ وده.