تعرفت عليه من سنوات طويلة.. ورأيته مصرياً من طمى نيلنا المعطاء.. شامخ كالنخيل الأصيل.. حنون عطوف محب لكل خلق الله.. فنان مبدع راق نبيل هو الفنان الكبير/حسين العزبى.. الأب لكل الأطفال.. والذى يفتح قلبه وبيته والأتيليه الخاص به لأى طفل، يحنو عليه ويصادقه ويعلمه، ولا يخرج من عنده إلا وهو عاشق للفن ومقدر لقيمة الفنانين..كل من يعرفه يحبه، لأنه يعامل الكل بحميمية مفرطة.. أعتز جدا بصداقته وأعرف قيمته كإنسان قل وجوده فى هذا الزمان.. أما قيمته الفنية كمهندس ديكور وفنان تشكيلى ومصمم سينوغرافيا (فن تصميم المشاهد المسرحية) فيعلمها ويقدرها كل المنتمين للوسط الثقافى والفنى.. قبل أيام من مفاجأة رحيله الأسبوع الماضى، دار بيننا حديث تليفونى، وطلب منى أن أزوره فى أقرب وقت، وهو مازاد صدمتى وحزنى..لأنه ربما كان يشعر بدنو الأجل ويريد وداع الأصدقاء، وربما لأن الغيبة طالت ولم نلتق.. وربما وربما...ولكن الأكيد أسفى على عدم تلبية الدعوة بسبب ما فرضه علينا الوباء اللعين، والذى حرمنى من وداعه، ومن قبله حرمنى من تلبية دعوته، والاستمتاع بحكاياته التى كم سرد منها على مسامعى ومازلت أتذكر منها الكثير، والتى تنم فى مجملها على قدرة هذا الرجل الممتلىء بالإنسانية على العطاء والحب.. وتواضعه وأدبه الجم رغم ما يتمتع به من موهبة فذة وعلم غزير يجعله فى مصاف أعظم الفنانين على مستوى العالم.. ولد العزبى فى 14 فبراير 1947..ونشأ فى منطقة السيدة زينب التى تتسم بالروحانية والنورانية، والتى يقام بها كل عام الاحتفال بالمولد، وما يحمله ذلك من صور جمالية تنمى وتزهر من بداخله موهبة فنية، وكان لذلك أكبر الأثر فى تكوين نزعته الصوفية، والتى بدت ملامحها بعد ذلك فى الكثير من أعماله، كذلك ولّدت داخله شغفا بالتراث والدراسات الشعبية، والتى انعكست بعد ذلك على إبداعاته وأصبحت محورا للكثير منها..وكان لتمتع أهل تلك المنطقة بالتآلف والترابط والشهامة ما أكسبه تلك الصفات، وجعله يهتم بملامح الشخصيات ويشعر بأوجاعهم ويعبر عنهم.. كذلك بعد انتقال أسرته لمنطقة شبرا، التى تتعانق فيها المآذن والكنائس، ويتآخى مسلميها ومسيحييها على قلب واحد، فترسخ داخله التسامح وروح المحبة وفهم جوهر الأديان، لذلك ضمت إبداعاته أعمال ذات صبغة مسيحية، كلوحة السيد المسيح علية السلام، التى عبر بها عن آلام الإنسان ومعاناته فى الحياة، تحت عنوان «أنا مسيح العصر»..وقد بدأت رحلة عشقه للفنون التشكيلية منذ طفولته المبكرة، حيث كان خاله طالبا فى كلية الفنون التطبيقية، وكان يصطحبه للكلية وهو فى الخامسة من عمره، فيُقابل بترحاب وحفاوة من الأساتذة الكبار ومن زملاء خاله، فكانت زياراته للكلية والتجول داخل أقسامها المتنوعة، ورؤية المثالين ومحاولة تقليدهم، وجمال الألوان ورائحتها، تظل داخله وكأنها مخدر يسرى فى دمائه، حتى أصبحت عينيه تلتقط الجمال فيما لا يراه غيره منذ ذلك العمر، وأصبح عشق الفن التشكيلى هو عالمه الذى لم يبعده عنه إلا الموت..وقد حاول والده الصيدلى المرموق أن يورثه حب الصيدلة ليظل فى جلبابه ويطعمه خبراته التى اكتسبها من تلك المهنة، ولكن فشل الأب أمام إبنه الذى رفض الإلتحاق بكلية الصيدلة، وفازت به أكاديمية الفنون بالتحاقه بمعهد الفنون المسرحية، والذى فضل الدراسة به عن أى من الكليات الفنية الأخرى، ليتخصص فى الديكور المسرحى الذى وجده شاملا لجميع الفنون التشكيلية وتخرج منه عام 1971.. وأصبح من أهم مهندسى الديكور ومصممى السينوغرافيا فى مصر، وأستاذا للتصميم والأزياء بجامعة حلوان، ومديرا لمسرح العرائس، ومقررا لشعبة الديكور بنقابة المهن التمثيلية.. وقد قدم حوالى 90 عمل مسرحى منهم: (تخاريف..وجهة نظر..ماما أمريكا..عاشق المداحين.. أنا ومراتى ومونيكا.. رصاصة فى القلب.. يا غولة عينك حمرا.. يماما بيضا..دورى مى فاصوليا.. ملاعيب.. على بلاطة)..وكان يؤمن أن مصمم السينوغرافيا ليس دوره تنفيذ رؤية المخرج، بل هو مخرج ثانى للعمل، يضع فلسفته الخاصة فى التصميم، وربط عناصر العمل.. لذلك كان يستطيع أن ينقل المشاهد إلى أجواء خيالية، ويحلق به داخل عوالم العمل الفنى، حتى لقب ب «ساحر الصورة المسرحية»، وهو الاسم الذى حمله الفيلم التسجيلى الذى أنتجه المركز القومى للمسرح عام 2016 بمناسبة حفل تكريمه..لم يغفل العزبى الجانب النظرى، بل حرص على التنظير لكل أعماله، وكان مهتما بجميع التفاصيل التى يتبلور من خلالها رؤيته التشكيلية الدرامية..وقد حصل على العديد من الجوائز منها جائزة المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب عن بحث علاقة التشكيل بالمسرح الشعبى، وجائزة وزارة الثقافة للديكور المسرحى عن عرض ماما أمريكا، وجائزة التفوق والآداب عن مجمل تاريخه فى مجالى الديكور والأزياء..وبالإضافة لعبقريته فى السينوغرافيا كان فنانا تشكيليا متميزا له جمهور من مختلف الجنسيات.. وكان رائدا فى فن الضوء باللون، من خلال استخدام الألوان الفسفورية مع الألوان المائية والطحن الزجاجى والصدفى..وقد أقام عشرات المعارض فى مصر والخارج..وكان يحرص على عرض أعماله فى النور والظلام، حيث تتفاعل وتتغير مع الضوء..وفى أحد المعارض التى حضرها فنانون ألمان ونمساويون، توقفوا عند إحدى اللوحات، وطالبونه بتسجيلها فى موسوعة جينيس، وأطلقوا عليها لوحة القرن.. لقدرته غير المسبوقة فى الإضاءة باللون، وتغيير وجه اللوحة فى اللحظة الومضية الضوئية التى تجعلها تنبض بالحياة.. وقد جسدت أعماله الفنية تشبعه بالأصالة، وأصبحت بمثابة قراءة لجماليات التراث والفن الشعبى المصرى.. أما الأطفال فكان يمنحهم جزءا كبيرا من وقته، يعلمهم ويتعلم منهم ويشركهم فى أعماله.. كالنصب التذكارى الذى أقامه بعد أحداث 25يناير.. فقد حكى أنه ذهب لميدان التحرير كى يشاهد الأحداث، وفجأة انطلقت رصاصة طائشة أصابت شابا سقط شهيدا بجانبه.. فتأثر بشدة وبدأ عمله الإبداعى الذى استغرق شهورا..وباعتبار الهرم أقدم بناء معمارى فى التاريخ، فقد جسده كرمز لمصر.. وبداخل الثلاثة أهرامات دائرة تمثل ميدان التحرير.. وبدأ تشكيله بخامات متعددة، واشترى 80كجم مسامير بأحجام وألوان مختلفة، للتعبير عن الشهداء، وأشرك الأطفال فى وضع المسامير وهم يمسكون علم مصر.. وكانت فكرته أن أحجار الهرم الجرانيتية والتى لا تقبل دق أى مسمار مهما بلغت صلابته، لا تقبل إلا أرواح الأنقياء.. ولخص فلسفة هذا العمل الفنى التشكيلى بقوله: «أنا الهرم..ومصر الهرم..وكل شهيد هو مسمار فى جسدى».. رحم الله هذا المبدع الكبير والإنسان النبيل الذى سيظل بإبداعاته ومدرسته وسيرته فى قلب مصر وذاكرتها.