فى كتابه «مصر وأهلها»، والذى يُنشر لأول مرة بالعربية مترجمًا عن الإنجليزية، استطاع زكى نجيب محمود أن يقدم للغرب خلاصة التاريخ المصرى، بل الروح المصرية العاشقة للبطولة ورموزها، وإن إطلالة على عوالم الكتاب الثرية لتخبرنا بهذا الاعتزاز العميق الذى ربط وجدان كاتبنا بأرض مصر وأهلها فهو القائل: «لست أعزو النجاح الذى لقيه الكتاب لشخصى بقدر ما أعزوه لمصر ومجدها اللامع وشعبها العظيم». والكتاب الذى ترجمه إلى العربية سيد محمد عبدالمحسن، وصدر عن دار مصر للكنوز المعرفية 2020، هو الكتاب الذى صَّور فيه زكى نجيب محمود صورة مصر للمجتمع الأمريكى، وتحرى فيه أن يصِّور الروح المصرية فى عمقها الآسر والذى يصفها كاتبنا بأنها تأثرت بالنيل أبو الأنهار كما يسمى الناس نيلهم العظيم فقد فرض صفاته على شخصية السكان.
البحث عن الخلود
ويقول: «إن الخلود يشغل المصريين كثيرًا لدرجة أنهم بنوا آثارهم لتكون خالدة» وينظرون إلى الذين ينشغلون بالأشياء البسيطة والعابرة لهذه الحياة، فيمنحونهم ابتسامة متعاطفة مثل تلك الموجودة على شفة «أبو الهول».
ويرى أن الحياة والموت قريبان من بعضهما البعض فى خيال الناس وثقافتهم، يفكرون فى الآخرة بقدر ما يفكرون فى الحاضر، وفى زمن الفراعنة رسم الفنانون ونقشوا على الجدران ما كان لا يمكن الحصول عليه فى عالم المتوفى، اعتقادا بأن الرسومات ستتحول بطريق سحرية إلى أشياء حقيقية فى الوقت المناسب، وأثبتت هذه الفكرة الغريبة أنها مثمرة فى خلق الفن.
مصر القديمة ومصر الحديثة
ويطرح كاتبنا قضية مهمة فيقول: «أحد مصادر الإشكاليات فى أذهان الناس حول مصر الحديثة يأتى من إغفال حقيقة أنه لا يمكن لأى حضارة أن تظل كما هى لمدة ستة آلاف عام، والكثير من الناس يعتقدون أن المصريين المعاصرين كما لو كانوا هم الذين يعيشون فى أيام الأهرامات، والمعابد القديمة كما كان ماضى مصر المجيد إلا أنه ماض بعيد المنال مقارنة بالعديد من أنماط الحضارة الحديثة، ومن الصحيح أيضا أن العديد من جوانب الحياة المصرية الحديثة يمكن إرجاعه عبر العصور إلى زمن قدماء المصريين.
فالتكوين الذهنى للمصرى قد مر بالضرورة بتغيير جذرى، فقد شهدت مصر ثلاث حضارات مكتملة الفرعونية والمسيحية والإسلامية، وبدأت الحضارة الرابعة منذ بداية القرن التاسع عشر، ويطلق عليه كاتبنا «قرن الصحوة».
البطل الحقيقى
ويرى كاتبنا أن الفلاح المصرى لديه كل الأسباب التى تجعله فخورا بصبره وكرامته، فهو يمكن أن يعانى فى صمت كما لا يستطيع أى شخص آخر لكنه لا ينسى سوء المعاملة، فهو مثل العاصفة المتجمعة يجمع قوته ببطء لكن بثبات ضد الاستبداد، ومرارا وتكرارا صنع القرويون المصريون البطل القومى الذى ينتقم من الظلم، أو ضد غزو أجنبى أو آخر، فتكون مرحلة من الهدوء الظاهر، وبطل وطنى للخلاص، هذا هو خلاصة تاريخ مصر.
ومن هنا يقول زكى نجيب محمود: «إن الصحوة السياسية فى النصف الأخير من القرن الماضى أحدثت تقدما ملحوظا فى الحياة الأدبية» وأعطى النضال السياسى الأدب المصرى الحديث، موضوعه الأساسى وهو الحرية، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، وكان من بين جوانب هذه العملية التحررية الكفاح ضد عبودية التقاليد، إذا ثبت أن هذا مُقيد للتقدم.
رموز البطولة
وعلى مدى صفحات الكتاب كانت رموز البطولة تطل فى جميع المجالات، فقد صوَّر كاتبنا للمجتمع الغربى، أولئك الذين شكلوا الوجدان المصرى، وروح البطولة فتحدث عن صلاح الدين الأيوبى الذى دافع عن الشرق ضد الحملة الصليبية ويراه من أبرز الشخصيات الإسلامية، ويضيف «لقد اكتسب شعبية كبيرة، وفى رواية السير والتر سكوت، وعنوانها «الطلسم»، يعطى الروائى صورة حية، وجوانب عديدة من سيرة هذا البطل.
ومن أعلام الشخصيات التى ذكرها زكى نجيب فى كتابه: المقريزى الذى اعتبره نموذجا للمؤرخ الجيد، الذى كان يعمل على المنوال نفسه الذى يعمل عليه المؤرخ الحديث.
ومن العلماء اختار « ابن الهيثم» المعروف لكتاب الغرب باسم الهازن، ويُنسب إليه ما لا يقل عن مائة عمل فى الرياضيات والفلك والطب والفلسفة، وكان تخصصه الأساسى البصريات، واعتمد عليه كتاب العصور الوسطى وعصر النهضة فى أوروبا، ودُرست أعماله فى جامعاتها، وتُرجمت إلى اللاتينية.
القضية الوطنية
وصف زكى نجيب محمود فى كتابه ملحمة مصرية لنيل الحقوق والمطالب الوطنية فى العصر الحديث، صور البطولة ورموزها فوصف وقفة عرابى الحاسمة فى وجه الخديوى، حين احتشد عرابى ورجاله ليقدموا مطالبهم الوطنية، ومقولته الشهيرة «لقد ولدتنا أمهاتنا أحرارا، ولن نُورث، ولن نُستعبدبعد اليوم»، وذكر بعض العوامل التى ساعدت على هزيمة عرابى ومنها تعرضه لخديعة دليسبس عندما أكد له أن البريطانيين لن يستخدموا قناة السويس المحايدة للأغراض العسكرية، بينما دخلوا بالفعل منها، وصف استبسال عرابى لآخر لحظة لكنه خسر معركة التل الكبير، فحدث الاحتلال البريطانى لمصر.
لكن ما لبثت الروح الوطنية أن بعثت أبطالها القوميين، الروح المصرية الأبية التى تأججت، وكان من أبنائها العظام مصطفى كامل، الذى طالب بالانسحاب البريطانى، وعكست كلماته تلك الروح المصرية عندما قال:«لقد ولدت فى داخلنا روح جديدة، أكثر من أى وقت مضى، ندرك الآن أن الأمم لا تنهض دونه أن تكافح من أجل قضيتها الخاصة ، ولا يمكننا الحصول على الاستقلال بمساعدة الآخرين، علينا أن نعمل من أجل ذلك بأنفسنا، ويجب أن تكون الأمة شأنها شأن الفرد، قوية ومجهزة تجهيزا جيدا للدفاع عن شرفها وحياتها وممتلكاتها»، على عكس محمد عبده الذى اعتقد أن الإصلاح الفكرى هو وسيلة للاستقلال السياسى، رأى مصطفى كامل أنه لايكون أى إصلاح طالما البلاد تحت نير الاحتلال.
كما تحدث زكى نجيب محمود عن مرحلة أخرى من مراحل الكفاح لنيل الاستقلال
نضال سعد زغلول وأحداث ثورة 1919، وثورة شعب مصر لنيل حقوق بلاده
كما وصف الجنود المصريين الذين قاتلوا ببطولة فى الفالوجة عام 1948 دفاعا عن قضية فلسطين، وكلمات عبدالناصر عندما اكتشف كضابط محارب أثناء وجوده فى الفالوجة، وأثناء الحصار «أن وحدة العالم العربى هى المخرج الوحيد لدول الشرق الأوسط من معاناتها».
كما أرخ لقيام ثورة يوليو 1952 وإنجازاتها، فربط التاريخ القديم بالحديث من خلال كلمات عبدالناصر التى يقول فيها: «لآلاف السنين كانت أهرامات مصر الكبرى أعجوبة هندسية فى العالم، وقد بناها الفراعنة لضمان الحياة بعد الموت، ولكن غدا السد العالى العملاق أكبر 17 مرة من الأهرامات، وسيوفر مستوى حياة أعلى لكل المصريين».
أنا المصرى.. أنا المؤلف
ومن الأسرار التى كشف عنها زكى نجيب محمود فى كتابه «أرض مصر وأهلها» ما حدث بينه وبين الناشر بخصوص الكتاب فيقول فى مقدمته «عندما أرسلت مخطوط كتابى مع صديق مسافر حتى لا يفوتنى الموعد المتفق عليه لنشر الكتاب، وكانت المواصلات بيننا وبين أمريكا قد اضطربت نتيجة العدوان الثلاثى على مصر إبان هذه الفترة، وبعد مرور ثلاثة شهور جاءنى خطاب من الناشر يحمل اعتراضات على نقاط معينة مذكورة فى الكتاب، كان أهمها ما هو متصل بالاحتلال البريطانى وبالمشكلة العربية الإسرائيلية فأرسلت من فورى أطلب رد المخطوط، وإلغاء الاتفاق، فأنا المؤلف وأنا المصرى، فى كتابى عن مصر الكلمة الأولى والأخيرة، فما كان من دار النشر فى نيويورك – بعد بضعة أشهر – إلا أن أرسلت إلىّ بالموافقة على نشر الكتاب، وصدرت طبعته الأولى عام 1958 باللغة الإنجليزية».
.... ونحن نحتفل بهذا الكشف الأدبى على صفحات «صباح الخير»، بصدور ترجمة الكتاب لأول مرة إلى العربية هذا العام 2020، إنما نحتفل بزكى نجيب محمود المفكر عاشق مصر وأهلها، الذى خطَّ كتابه بما يُرضى عقل العالم وقلب الأديب، وضمير الوطنى المفتون بحب وطنه.