تأثير فيروس «كورونا» لم يقتصر على النواحى الصحية فقط، بل شمل كل الأنشطة الاقتصادية والاجتماعية والرياضية، وامتد للأنشطة الثقافية والفنية، وذلك هو الأخطر، لأن الحرب ضد «كورونا» هى معركة وعى فى الأساس.. الكوارث الطبيعية كالزلازل، والبراكين، والأعاصير المدمرة، تظل محصورة فى نطاق جغرافى معين، وترتبط بمدى زمنى محدود.. الحروب على العكس قد يتسع نطاقها الجغرافى، ويمتد مداها الزمنى، كالحرب العالمية الثانية «1939/1945»، لكن أيًا من هذه الكوارث لا يقارن بتأثير «كورونا»، الذى امتد جغرافيًا ليغطى كل دول العالم، وامتد تأثيرها الزمنى من نوفمبر 2019، إلى مدى غير منظور حتى الآن، محدثاُ أضرارًا بالغة التأثير على الدول والأفراد وأنماط الحياة وآليات العمل. انعكاس الوعى والثقافة على الناس عنصر حاسم فى مقاومة انتشار وباء «كورونا»، لأن كل إجراءات الدولة الخاصة بمنع التجمع، يتم تفريغها من مضمونها، وتنقلب إلى العكس، عندما يستغل الناس الاجازات المدفوعة وتوقف الأنشطة والفعاليات، فى التجمعات العائلية، والخروج إلى الأسواق والمتنزهات؛ دون مراعاة مخاطر ذلك، وخلافًا للتحذيرات المتكررة بالبقاء فى المنزل، وتجنب الاختلاط، ذلك أن الإشكالية هنا تتعلق بنقص الوعى، وأحادية التفكير، التى تأبى مثلًا تقبل فكرة عدم الصلاة فى المسجد، مهما كانت مخاطرها وأضرارها، استنادًا إلى أن بركة المسجد تفوق قدرة الوباء على الانتشار!.. إجراءات الدولة الاحترازية، وتحذيراتها للمواطنين ينبغى أن تسبقها التوعية الثقافية، وإلا فلا جدوى منها. المعارض والألعاب الإلكترونية انتشار وباء «كورونا» فرض إلغاء أو تأجيل كل معارض الكتب والتجمعات الثقافية فى أوروبا والعالم «معارض الكتاب فى لندن وباريس ولايبزيج بألمانيا، معرض الأطفال فى بولونيابإيطاليا، ومهرجان سياتل للقصص المصورة...»، وامتدت الإلغاءات إلى المنطقة العربية «معارض الكتاب فى أبوظبى وبغداد والرياض، ومهرجان الشارقة القرائى للطفل...».. مؤتمر مطورى الألعاب الإلكترونية فى سان فرانسيسكو تم تأجيله أيضًا إلى أجل غير مسمى، لكن قطاع ألعاب الفيديو استفاد كثيرًا من الاتجاه نحو قضاء وقت طويل بالمنازل، حيث حقق مبيعات قياسية، كما ارتفع إجمالى تحميل الألعاب من متجر أبل فى الصين بنسبة 27 % مقارنة بالعام الماضى. السينما والمسرح والفنون الفيروس وجه ضربة قاتلة لصناعة السينما، فقد تم إغلاق دور السينما فى العالم، ولم يتم عرض الأفلام المنتجة حديثًا، حتى أفلام هوليوود بدول العالم.. المهرجانات أيضًا نالت نصيبها من الإلغاء «مهرجان كوريا تايمز ميوزيك فى هوليوود، ألترا ميوزيك فى فانكوفر، البيتلز فى هامبورغ، الشرق الأقصى الآسيوى شمال إيطاليا، الموسيقى الإلكترونية الفرنسى، عروض ماريا كارى فى هاواى، حفلات فريق BTS فى سيئول، ومغنى الراب البريطانى Stormzy فى زيوريخ وفى آسيا، جولة فريق الروك الأمريكى Green Day الآسيوية، مهرجان «تيد» المختص بالتصميم والتكنولوجيا والترفيه فى فانكوفر الكندية..».. الإلغاءات امتدت أيضًا للمنطقة العربية «مهرجان البحرين السينمائى الدولى، ربيع الشعر العربى بالكويت».. والمسارح والمتاحف ودور الأوبرا اضطرت إلى إيقاف أنشطتها وإغلاق أبوابها، ضمن الإجراءات الاحترازية لمنع انتشار «الوباء». النشر الإلكترونى «التحديات التى تواجهها صناعة الكتاب فى زمن الكورونا»، كان موضوع الندوة الثقافية التى نظّمها «نادى كلمة للقراءة» فى أبوظبى،بالفيديو كونفرنس، نوقش فيها تأثير انتشار «الوباء» على صناعة النشر وعملية التأليف.. أحد الكتاب العرب عرض نتائج تجربته فى التسويق لكتابه رقميًا، بسبب إغلاق المكتبات وإلغاء المعارض، حيث سجلت نسبة مبيعات الكتاب الإلكترونى 5% فقط، مقابل مبيعات لكتابه الورقى السابق بلغت 95%، مما يؤكد أن الكتاب الورقى لازال يحتل الصدارة.. تسويق الكتاب الألكترونى يفترض كاتب ذو شهرة واسعة، وموضوع يحظى باهتمام كبير.. وهو يتعرض لمشكلات القرصنة وسرقة المحتوى، مما يفسر الأضرار البالغة التى تعرضت لها صناعة النشر نتيجة انتشار «الوباء».. اتحاد الناشرين الدولى أكد أن النشر الإلكترونى لم يستطع منافسة الكتاب الورقى التقليدى،الذى لازال يفضّله معظم القراء فى العالم. الدكتورة فاطمة المزروعى أكدت أن الجائحة تسببت فى خسارة الناشرين العرب ما بين 15-20 مليون دولار، وتوقعت أنه بنهاية عام 2020 قد تغلق بعض دور النشر العربية الصغيرة أبوابها، إن لم تستطع التأقلم مع مستجدات الاقتصاد العالمى بشكل عام، والتغيرات فى صناعة النشر بشكل خاص.. الناشر الإماراتى جمال الشحى أوضح أن «كورونا» كشفت عن نقاط الضعف التى كانت موجودة فى قطاع النشر العربى، حيث لم يكن القطاع مستعدًا لهذا النوع من الاضطراب والتوقف، لذا تراجعت مبيعات الكتب فى الوطن العربى، بينما ازدادت فى الكثير من دول العالم، لأن الحظر شجع على المزيد من القراءة. رغم ذلك هناك محاولات ناجحة لتطوير منصات إلكترونية للكتب.. المجموعات العربية على الإنترنت هى عبارة عن مكتبة عامة توفّر إمكانيّة الولوج الإلكترونى إلى 12810 كتب باللغة العربية فى أكثر من 7469 موضوعًا مُستَمدًا من مكتبات بحوث متميَّزة، تأسست بدعم من جامعة نيويورك أبوظبى.. و«كتاب صوتى» هو منصة رائدة للكتب الصوتية العربية، تضم أكثر من 2000 كتاب صوتي كالروايات ودواوين الشعر والكتب العلمية وملخصات الكتب. «كورونا» والتعليم «الوباء» استهدف التعليم فى مقتل، حيث تسبب فى قيام معظم بلاد العالم بإغلاق شامل للمدارس، بخلاف من أغلقوا بعض المناطق جزئيًا.. منظمة الأممالمتحدة للتربية والعلوم والثقافة «اليونسكو» أكدت أن المتأثرين بإغلاق المدارس حتى 4 مايو أكثر من مليار و268 مليون يشكلون 72.4 % من إجمالى عدد الدارسين المسجلين، فى 177 دولة قامت بإغلاق المدارس بشكل كامل.. معظم المؤسسات التعليمية فى المدارس والجامعات، سارعت بتعديل أنظمتها التعليمية، لمتابعة تقديم الدروس «عن بعد».. وهناك مراجعات لأنظمة تأهيل المعلمين والمعلمات، ضمانًا لتدريب الطاقم الأكاديمى على أنظمة التعليم والمتابعة عن بعد، لأن قدرة الجامعات والمدارس على تقديم برامجها عن بعد ستكون من عوامل قوتها وتميزها فى المستقبل القريب. غالبية المؤسسات التعليمية اعتمدت على الإنترنت فى العملية التعليمية، كبديل أنسب لضمان استمرار العملية التعليمية، مما يفسر الزيادة الملحوظة فى استخدام تطبيقات محادثات الفيديو عبر الإنترنت مثل «زوم» و«جوجل» و«ميتينغ» و«ويب إكس ميت» وغيرها.. موقع «تيك كرنش techcrunch»؛ أكد أن عمليات تحميل هذه البرامج بلغت 62 مليون مرة، كما زادت عمليات تحميل برامج iOS وجوجل التعليمية بنسبة 45% فى أسبوع واحد، ما بين 14-21 مارس 2020، أى مع بداية فرض الحظر بمعظم الدول.. هذا التطور يؤكد أن الجيل القادم سيخرج أكثر إيمانًا وتشبثًا بأنظمة العمل المرن التى لا تتطلب القدوم إلى المكاتب، وستخلق هذه الثقافة فرص عمل عابرة للقارات. الثقافة والفنون فى عهد «كورونا» أهمية العلاقة بين الثقافة والفنون من ناحية، والوعى اللازم لحصار انتشار «كورونا» من ناحية أخرى، كان موضع إهتمام منظمة «اليونسكو»، التى نظمت مؤتمرًا عن بعد، حضره 130 من وزراء ثقافة دول العالم، اتفقوا فيه على التعاون والتضامن الدولى، وتبادل المعلومات المتعلقة بالتوعية فى مواجهة انتشار «الوباء»، واتفقوا على تنشيط العروض الثقافية وتنظيم المعارض باستخدام تكنولوجيا الواقع الافتراضى، وكذا دعم الفن والفنانين لضمان زيادة الأنشطة الإبداعية التى تدخل فى إطار الحملة المضادة لانتشار «كورونا».. الصندوق العربى للثقافة والفنون أطلق مبادرة عرض أفلام وموسيقى «أون لاين» تعرض من خلالها برامج أسبوعية، تضم نماذج من الأعمال الفنية الذى يمولها الصندوق منذ 2007، سواء أفلام أو موسيقى أو صور فوتوغرافية. وزارة الثقافة المصرية تبنت مبادرة «الثقافة بين إيديك.. خليك فى البيت»، تعتمد على بث الإنتاج الثقافى والفنى للوزارة من خلال شبكات التواصل الاجتماعى، وعلى قناة الوزارة على اليوتيوب.. المجلس الأعلى للثقافة دشن مبادرة «إقرأ معانا»، وتتضمن السلسلة قراءة للباحث أو المبدع لأحد الموضوعات أو فصل من كتابه أو روايته أو إحدى القصص القصيرة أو إحدى قصائده الشعرية.. كما تم تفعيل أكثر من مبادرة إليكترونية، أهمها مبادرة الندوات القصيرة لتقديم رسائل توعية للتصدى ل«كورونا» من قبل لجان علم النفس والاجتماع والثقافة العلمية، وهى مبادرة موجهة وجيدة.. الهيئة المصرية العامة للكتاب عرضت العديد من الكتب للتصفح على الإنترنت مجانًا، منها إصدارت المركز القومى للترجمة، ودار الكتب والوثائق القومية، وصندوق التنمية الثقافية.. كما قام قطاع الفنون التشكيلية بتقديم بانوراما لمتاحفه الفنية «أون لاين» على قناة وزارة الثقافة، مايسمح بالتجول فيها من داخل البيوت.. والمركز القومى لثقافة الطفل قدم العديد من الفعاليات الثقافية والفنية والتوعية ضد كورونا، من خلال قصص الأطفال والعروض المسرحية والأفلام الكرتونية، وهو مالقى تفاعلًا كبيرًا من جانب الأطفال.. المتحف المصرى قدم على صفحته الرسمية على الفيسبوك مجموعة محاضرات فى علم الآثار والمصريات، وكذا جولات إرشادية قصيرة داخل المتحف وصورًا مع الشرح لقطع فريدة ضمن مجموعته الأثرية. وزارة الثقافة رصدت من خلال قناتها على اليوتيوب، 11 مليونًا و508 آلف زائر، شاهد العروض منهم مليون و2615 شخصًا، بإجمالى ساعات مشاهدة 126 ألفًا و737 ساعة، كما سجلت القناة 83 ألف مشترك حتى منتصف أبريل.. جائحة «كورونا» علمتنا أن الحفلات الفنية الراقية الجديرة بدخول بيوتنا يمكن تنظيمها عبر قنوات تصل مباشرة إلى أكبر قطاع من المجتمع لترتقى بالزوق الفنى، وفى نفس الوقت تضمن حقوق المنظم والمؤدى والمعاونين باشتراكات رمزية، وهذا هو المدخل الجيد لأن تؤدى الدولة دورها فى الاختيار، وبالتالى الارتقاء بمستوى التزوق. «كورونا» والقيم والتقاليد «كورونا» قهرت الكثير من العادات والتقاليد والطقوس الراسخة منذ قرون طويلة، خاصة ما يتعلق بممارسة الشعائر الدينية، وأبرزها صلاة الجمعة والجماعة، وتراويح رمضان والعمرة والحج، وطقوس صلاة الجنازة والدفن، ووصل الأمر بالبعض إلى رفض دفن جثث موتى «كورونا» فى مدافنهم، كما طالب البعض الآخر بحرقها، أما حفلات الزواج فقد تم اختزال طقوسها.. حتى التزاور الأسرى صار من الأمور «غير المرحب بها».. «كورونا» غيرت مالم تغيره إنقلابات النظم السياسية والاجتماعية ولا وقوع الكوارث الطبيعية ولا الأزمات الاقتصادية ولاحتى الحروب، عبر قرون طويلة.. فمتى ينتهى ذلك الكابوس الثقيل؟!.