بالقرب من سينما فاتن حمامة بحى المنيل الهادئ، كان يصعد يوميّا القاضى الشرعى جاد الحق على جاد الحق درجات المنزل رقم 4 بشارع لبيب البتانونى، ليصل لشقته رقم 11 بالطابق الثالث. الشقة التى استقبلته فى الخمسينيات قاضيًا فرئيسًا للمحكمة ومفتشًا بالتفتيش القضائى بوزارة العدل، ومفتيًا للديار المصرية عام 1978، ووزيرًا للأوقاف فى يناير 1982 ثم شيخًا للأزهر فى العام نفسه، وأطل منها على المصريين جميعًا، عبر شاشة التليفزيون يوميّا فى رمضان. وهى ذاتها الشقة التى كان يحتفل فيها بأعياد ميلاد أولاده وأحفاده، ويلتقى فيها بالجيران والأقارب والأصدقاء وطلاب العلم والشخصيات الدولية، ورُغم أنه كان ينوى الانتقال من الشقة إلى أخرى بمصعد بعد جراحة فى قدمه، أبت الشقة أن تتركه دون أن يقضى فيها يومه الأخير فى عام 1996م. وُلد «جاد الحق» بمحافظة الدقهلية فى قرية بطرة 5 إبريل 1917م، وتلقى تعليمه الأول وحفظ القرآن ومبادئ الكتابة فى قريته، وكما تقول زوجة الإمام الحاجة سعدية الموافى: «عاش طفولته فى بيت فلاحى عادى بالقرية، مع أسرته هو وأخواته البنات السبعة، وكان له غرفة خاصة، بها مكتب وسرير، بقت حتى وفاته يبيت فيها كلما زار قريته، وينام فيها بعد أن يقابل أهل القرية فى غرفة الاستقبال». وقد بنى الإمام مسجدًا فى قريته وألحق به مستوصفًا ودارًا للأيتام، لكن القدر لم يمهله أن يفتتح هذه المنشآت. أنهى «جاد الحق» دراسته الابتدائية بالمعهد الأحمدى بطنطا 1934م، واستكمل دراسته الثانوية فى القاهرة، وتخرّج فى كلية الشريعة الإسلامية عام 1944م متحصلًا على الشهادة العالمية مع الإجازة فى القضاء الشرعى، وعمل بعد التخرُّج قاضيًا فى المحاكم الشرعية، ثم أمينًا للفتوى بدار الإفتاء المصرية عام 1953م، فقاضيًا بعد إلغاء القضاء الشرعى عام 1956م. وكما تحكى الحاجة سعدية، سكن الإمام فى القاهرة وهو شاب فى شقة صغيرة فى حى القلعة، ثم استأجر شقة المنيل منذ أوائل الخمسينيات، وأعجب بها كونها مكونة من 4 غرف وصالة وحمّامين ومطبخ وبلكونة، فى حى المنيل الهادئ. «واستأجر القاضى جاد الحق، شقة المنيل من صاحب العمارة الحاج شعراوى، تاجر الجلود الشهير، المشهور بحبه لبناء عمارات فى المنيل والسيدة والزمالك، ولاتزال الشقة بإيجارها القديم حتى الآن». تشبه عمارة أنور وجدى تتميز عمارة المنيل المبنية أوائل الخمسينيات، بمدخل فخم، من باب بضلفتين من المعدن والزجاج، يماثل مدخل عمارة أنور وجدى المقابلة لمبنى وزارة الأوقاف بمنطقة عابدين بوسط القاهرة؛ حيث حوائط وسقف البوابة من الرخام، وعلى يمين البوابة من الخارج، قطع من الزجاج المضغوط بأشكال المربعات، وهى سمة من سمات العمارات الفخمة المبنية فى الأربعينيات والخمسينيات، فى الإضاءة الذاتية للمبنى من الداخل.. وحوائط المدخل من الداخل من الرخام أيضًا، أرضيات السلالم من الرخام الأبيض فى الأزرق، وترتفع درجاتها بطريقة مريحة للصاعد، ونصف درابزين السلم من الحديد، والنصف الآخر مبنى، وشبابيك السلالم مربعة من الحديد الكريتال، المقسّم إلى مربعات مكسية بالزجاج. واجهة العمارة بسيطة وأنيقة، تتميز بالتماثل النصفى أو السيمترية فى عدد الشبابيك والبلكونات وأشكالها، وتعتمد على تتابع الأشكال الهندسية، المميزة للعمارة الحديثة أو طراز «الآرت دى كو».. بكل طابق من طوابق العمارة الثلاثة 4 شقق، وفى الطابق الأرضى شقتان فقط، وبلاط البسطات من رخام يختلف عن رخام السلالم، ولايزال باب شقة الإمام كما هو، خشبيّا بسيطا تتوسطه شرّاعة زجاجية. أيام الاستراحة وأيام الشقة بحُكم عمله كقاضٍ كان يبيت «جاد الحق» فى استراحة القضاة بإحدى المحافظات، حسب القضية التى يحكم فيها بإحدى محاكم المحافظات المصرية، بحيث يقضى 3 أيام فى الاستراحة، و4 أيام فى شقته يبحث فيها فى أوراق القضايا، وأغلب أوقاته بالشقة كان يقضيها فى غرفة خاصة به، بها سرير ومكتب ومكتبة لأمهات الكتب، فيها يبحث القضايا ويدرسها، ولمّا كان ينتهى من العمل كان يذهب لغرفة نومه، بحسب الحاجة سعدية زوجته، التى لاتزال تعيش بالشقة حتى الآن.. واستمر عمل القاضى «جاد الحق» بالمحاكم المصرية حتى حصل على منصب مستشار بمحاكم الاستئناف عام 1976م. وأصبح مفتيًا للديار المصرية فى رمضان 1978م، وكرَّس كل وقته وجهده فى تنظيم العمل بدار الإفتاء وتدوين كل ما يصدر عن الدار من فتاوى؛ ليسهل الاطلاع على أى فتوى فى أقصر وقت، وجمع الفتاوى التى صدرت عن دار الإفتاء فى عهود سابقة وسجل (1284) فتوى بسجلات دار الإفتاء. كاميرات الإمام الأكبر وفى عام 1982م عُيّن وزيرًا للأوقاف، وفى السنة نفسها أصبح إمامًا للأزهر الشريف. وبجانب عمله فى المشيخة، كان الإمام يحرص أن يقابل ضيوفه فى صالون شقته الذى يحوى مكتبة ضخمة، تبرعت بها الأسرة قبل 10 سنوات لمشيخة الأزهر؛ ليستفيد منها طلبة العلم، تحوى كتُبًا مهمة بالإضافة إلى مؤلفاته، وأشرفت على نقل الكتب وأثاث المكتبة ورص الكتب فيها، زوجته السيدة سعدية الموافى.. أمّا مكتب الإمام الذى كان يجلس عليه فى غرفته بالشقة، فأهداه قبل وفاته لطالب من طلاب العلم، كان يزوره قبل وفاته، وأمّا غرفة الصالون فشهدت تسجيل أحاديث الإمام جاد الحق التى كانت تنقل، عبر شاشة التليفزيون؛ حيث كانت تحضر كاميرات التليفزيون لتسجيل حلقات برنامجه فتاوى وأحكام، حين كان مفتيًا للديار المصرية، ثم برنامج «حديث الإمام الأكبر» بعد أن أصبح شيخًا للأزهر. وكانت تذاع يوميّا فى شهر رمضان. ولتواضع الإمام وزهده، لم يكن يهتم بأثاث الشقة أو نوعيته، وكان يترك لزوجته الأمر، رُغم أنه كان يزوره فيها شخصيات عربية ودولية كالدكتور بطرس غالى الأمين العام للأمم المتحدة، ووفد من الأممالمتحدة، وأبدوا دهشتهم من أن يسكن شيخ الأزهر فى عمارة عادية، بالطابق الرابع من دون مصعد، بينما كان يفضل أن يقابل الرئيس الفلسطينى ياسر عرفات فى مكتبه بمشيخة الأزهر الشريف. شقة الإمام كانت مفتوحة طوال الوقت لاستقبال الأقارب من أهل القرية، وأصدقاء الشيخ من القضاة، وأخوات الشيخ وأخوة زوجته وأولادهم. وتحكى الحاجة سعدية عن حب الشيخ جاد الحق للاحتفال بأعياد ميلاد أولاده الثلاثة «على وأسامة ومدحت» وأولادهم بعد ذلك، فلم يكن ينكر أهمية الاحتفالات الخاصة بالأطفال والكبار وإدخال البهجة على قلوبهم. كانت الحاجة سعدية تشرف على تنظيم مقابلات الإمام للجيران الذين يرغبون فى زيارته، وكان من عادته أن يقابل النساء فى صالة الشقة، والرجال فى غرفة الصالون، وكان يعامل العاملين فى المنزل وسائقه باعتبارهم أولاده، ولم يكن له سكرتير يحمل له الأوراق والكتب عند صعوده للبيت، فكان يتولى أمر نفسه. بعد أن انتقل الشيخ متولى الشعراوى إلى العيش فى فيلته بالهرم، أراد أن يهدى شقته بجاردن سيتى لفضيلة شيخ الأزهر جاد الحق، لكن الشيخ جاد الحق رفض، وبعد سنوات أراد الشيخ جاد شراء شقة أكثر اتساعًا وبها مصعد، بعد أن أجرى عملية جراحية فى قدمه، ولم يعد قادرًا على صعود السلم، فتعاقد على شراء شقة فى شارع صلاح سالم، عن طريق مشروع إسكان تابع لمجلس الوزراء، لكن لم يمهله القدر للانتقال للعيش فيها.