لم أصدق نفسى عندما سمعت أحد شيوخ السلفيين على «اليوتويب» وهو يلقى خطبة طويلة عن فيروس كورونا، هدفها التأكيد على معنى واحد : «أن فيروس «الكورونا» هو عقوبة للكفار ورحمة للمؤمنين، وأن الله يصيب الكفار بالوباء كعقوبة وتذكير لهم بأنهم فى حاجة للرجوع إلى الله والتوبة، أما المؤمنون فإنه يصيبهم بالوباء «ليغفر لهم سيئاتهم ويرفع حسناتهم». استغربت أن المتشددين الدينيين لا يزالون على نفس مواقفهم القديمة، ولم يتزحزحوا عنها سنتيمترًا واحدًا، حتى فى ظل هذه الأزمة العنيفة التى يمر بها العالم كله! فبينما العلماء والأطباء فى جميع أنحاء العالم يسابقون الزمن لإنقاذ أرواح الناس من «الكورونا»، وبينما العمال البسطاء يعملون ليلاً ونهارًا، معرّضين أنفسهم لخطر الإصابة بالوباء من أجل إنتاج الطعام والحاجات الأساسية للناس، وبينما الجمعيات الأهلية تبذل كل طاقاتها لتوصيل المعونات للأسر الفقيرة والعاملين الذين فقدوا وظائفهم، وبينما تنشغل الحكومات بعلاج الآثار الاقتصادية والاجتماعية المدمرة للوباء، وتطبيق الإجراءات الاحترازية لحماية المواطنين، فالجماعات الدينية المتشددة والإرهابية ما زالت مشغولة بالصراع الثنائى بين المؤمنين والكفار، وقد وسّعت من نطاق الأعداء فأصبحت الصين عدوًا جديدًا، بجانب الغرب «كعدو تقليدى»، واعتبرت «الكورونا» بحسب تعبيرهم جند الله الذى سخره للانتقام من الغرب والصين «الكفار» الذين يضطهدون المؤمنين من المسلمين.. وما زالت هذه الجماعات تؤلب الناس على الحكومات فى المنطقة العربية، عن طريق التشكيك فى المعلومات الرسمية حول أعداد الإصابات والوفيات من فيروس «الكورونا»، وكذلك حث المصابين على نقل الفيروس إلى قوات الجيش والشرطة. ولا تدخر جهدًا فى زرع الشك بين المواطنين والمؤسسات الدينية الرسمية، لأنها أوقفت الصلاة الجماعية خوفًا من انتشار العدوى، وتدّعى فى الوقت نفسه أن الهدف هو تقليص المظاهر الدينية فى المجتمع.. وفى زحام أحداث «الكورونا» نقلت وكالات الأنباء أخبارًا عن بعض الأحداث الإرهابية التى وقعت فى مناطق متفرقة من العالم مثل: طعن مواطنين فرنسيين فى بلدة فى جنوب شرق فرنسا وسقوط قتيلين، ومقتل عشرات الجنود فى نيجيريا وتشاد من جراء هجوم من قبل جماعة بوكو حرام. وقد أطلقت سلطات الأمن الداخلى فى العديد من الدول الأوروبية وأمريكا تحذيرات من استغلال الجماعات الإرهابية للارتباك العام الذى نشأ فى ظل أزمة «الكورونا» وارتكاب أعمال إرهابية فى أماكن غير تقليدية مثل السوبر ماركت المزدحمة، أو المراكز الطبية للتحليل عن فيروس كورونا، أو الكنائس – رغم خلوها من المصلين. وفى هذا السياق جاءت العملية الاستباقية لقوات الأمن المصرى لإحباط مخططات خلية إرهابية بمنطقة الأميرية واستشهاد المقدم «محمد الحوفى» خلالها. الأرضية المشتركة بين البشر ويصل أغلب الخبراء فى مجال الجماعات الدينية السياسية والإرهابية إلى نتيجة فحواها أن استغلال الجماعات الدينية المتشددة والإرهابية للارتباك الدولى الحادث فى أزمة «كورونا» يهدف من أحد جوانبه إلى تهيئة الحاضنة الشعبية للفكر الدينى المتشدد وإلى جذب وتجنيد مزيد من الشباب اليائسين من الأزمة إلى الجماعات الإرهابية.. فهل يستطيعون إنجاز هذه المهمة فى المرحلة القادمة؟ أم أن الأزمة سوف تفرض تحديات وأسئلة وخبرات جديدة سوف تزلزل بنية الأفكار المتشددة والإرهابية من جذورها ويأتى فى مقدمتها: أن أزمة الوباء أظهرت عملياً الأرضية المشتركة بين البشر فى المشاعر والغرائز والاحتياجات المادية والنفسية والأحلام والمصائر المشتركة أيضاً، والتى طالما تحدث عنها الباحثون والكتاب ضد الأفكار المتعصبة التى تحاول إثبات تفوق وأفضلية أية جماعة دينية أو عرقية من خلال تضخيم محاسنها وتميزها، وإبراز تدنى ومساوئ الجماعات الأخرى. إن الفيروس الذى فرض نفسه على البشر أخرج الجانب الحقيقى منهم دون ادعاءات؛ ورغم الاختلافات الدينية والعرقية والجنسية والاجتماعية بين البشر، فالجميع يخاف العزلة الاجتماعية، ومنشغل بتلبية الاحتياجات الأساسية وقلق على المستقبل الذى سوف يحمل الكثير من الأزمات الاقتصادية والاجتماعية. فى نفس الوقت كشفت أزمة الوباء أن الطريق إلى الحل والعلاج لن يأتى إلا بالفكر والعمل والإبداع المشترك بين البشر، ليس فقط فى المجال الصحى، بل فى جميع الأنشطة الاقتصادية الأخرى.. وفى إطار أزمة الوباء عرفنا أبطالاً حقيقيين يدفعون حياتهم ثمنًا لحماية الناس وعلاجهم من خطر الوباء دون النظر إلى أديانهم أو انتماءاتهم المختلفة هم العلماء والفريق الطبى الذين يعيشون عمق وقسوة تجربة الوباء.. حينما يرفع المؤذن صوته فى كل صلاة هذه الأيام قائلًا: «صلوا فى بيوتكم صلوا فى رحالكم» أشعر بعمق تجربة الصلاة الفردية والعلاقة مع الله بزهد وتجرد دون مظاهر أو شكليات، وهو ما يعبر عنه كثير من المتدينين الذين حزنوا لإيقاف الصلاة الجماعية فى المساجد والكنائس، ولكنهم بعد فترة عادوا ليكتشفوا خبرة روحية جديدة فى الصلاة الهادئة المنزلية.. فهل بعد كل هذه الخبرات التى مر بها البشر فى أزمة الوباء ما زال هناك مكان للأفكار المتعصبة والإرهاب؟!