الاتحاد الأوروبى فوَّض قوات حلف «ناتو» ببدء مراقبة تنفيذ حظر توريد الأسلحة إلى ليبيا، اعتبارًا من نهاية مارس الجارى.. المهمة أصابت تركيا وحكومة السراج بصدمة بالغة، لأنها تحد من قدرة أنقرة على دعم الميليشيات.. أوروبا دفعت بوفد من المستشارين والسفراء من فرنساوألمانياوإيطاليا إلى بنغازى أوائل مارس، لوضع خريطة دعم أوروبى للجيش الوطنى الليبى، ليكون أحد محاور مواجهة التحديات الراهنة التى تمس الأمن الأوروبى، مناقشاتهم مع حفتر انصبت على دور الجيش فى القضاء على الميليشيات والجماعات الإرهابية.. أوروبا تنتهج استراتيجية جديدة، تحاول من خلالها تصحيح ما ارتكبته من أخطاء جسيمة عام 2011، عندما تآمرت مع واشنطن لتدمير الجيش، حتى تُسقِط نظام حكم القذافى. السياسة الأوروبية القوى الأوروبية الرئيسية الفاعلة أربعة؛ هى: إيطاليا، فرنسا، بريطانياوألمانيا، إضافة للاتحاد الأوروبى،غير أن مصالحهم تباينت، واختلفت أولوياتهم وسياساتهم.. فرنسا نتيجة تأثير الدور المصرى، دعمت الجيش الوطنى، وهو ما كشف عنه سقوط طائرة هليكوبتر تابعة للجيش فى أجدابيا، والعثور على جثث ثلاثة من المستشارين الأمنيين الفرنسيين منتصف 2016، وكذا عند استيلاء الميليشيات على صواريخ جافلين الأمريكية المضادة للدبابات، التى بيعت للفرنسيين، فى أحد المواقع التابعة للجيش بغريان 2019.. إيطاليا على النقيض إنحازت للسراج، وجماعات الميليشيا المسلحة، وأضحت لها سفارة معتمدة بالعاصمة، وبعثات عسكرية وطبية للتدريب والدعم فى طرابلس ومصراتة، واستفادت من تولى أحد جنرالاتها منصب المستشار العسكرى للمبعوث الدولى.. أما ألمانيا فقد كانت على الحياد، ولكن أقرب للسراج.. وبريطانيا كانت أكثر انشغالًا بملف الهجرة غير الشرعية.. هذه القوى الأربع اتفقت على أن ذلك هو الوقت المناسب، لمراجعة وتنسيق سياساتها فى ليبيا، وتنشيط دور دول الجوار «الجزائروتونس» للحد من النفوذين التركى والروسى، الذى استغل غيابهم.. مراجعة دول الاتحاد الأوروبى للموقف فى ليبيا أكدت خضوع حكومة الوفاق الكامل لكل من تركيا وقطر، وعجزها عن وقف زحف اللاجئين نحو أوروبا، مما يسبب قلقًا بالغًا، خاصة فى ظل اندساس عناصر التنظيمات الإرهابية بينهم، فضلًا عن تراجع قدرة السراج فى السيطرة على الأوضاع غرب ليبيا وداخل العاصمة، حتى أنه يعجز عن التدخل لوضع حد للصراع الدامى بين الميليشيات داخل العاصمة.. وفى المقابل نجح حفتر فى فرض الأمن ببنغازى، ما يجعله جديرًا بأن يكون الضامن للأمن والاستقرار والرؤى الأوروبية، فيما يخص المهاجرين غير الشرعيين، وكل ما يتعلق بالتأثير على الأمن الأوروبى فى ليبيا. تركيا من إدلب إلى طرابلس أوروبا أدركت أن تركيا تسعى للعب دور إقليمى فعال، وأن هذا الدور سيكون خصمًا من دورها، وعلى حساب مصالحها، وأدركت خطورة ربط الاستراتيجية التركية بين سياستها فى سوريا وبالذات داخل إدلب، ونظيرتها فى ليبيا، خاصة ما يتعلق بمعركة طرابلس، واتفاقى ترسيم الحدود البحرية فى البحر المتوسط، والتعاون الأمنى مع حكومة السراج، لذلك طردت اليونان السفير الليبى فى أثينا، كما حرصت أوروبا على عدم الخضوع للابتزاز التركى بورقة المهاجرين من الشرق على حدود اليونان وبلغاريا، ومن الجنوب حيث الساحل الليبى، وتدرك أن أهم ما ينبغى تجنبه هو نشوب حرب واسعة فى ليبيا، لأن أول نتائجها سيكون المزيد من تدفق المهاجرين واللاجئين غير الشرعيين، مما يفسر عزمها على إزاحة السراج باعتباره المقدمة الأولى لكسر حلقة التواجد التركى فى ليبيا.. بعد الضربات التى تعرضت لها الميليشيات التابعة لتركيا فى طرابلس، والأضرار التى لحقت ببطاريات الدفاع الجوى التى قامت بنصبها فى مطار معيتيقة، ومخازن الأسلحة والذخائر، فضلًا عن وضوح انخفاض الجهد العسكرى التركى فى طرابلس، مع ارتفاع حرارة المعارك فى إدلب، خشيت حكومة الوفاق على مستقبل بقائها، مما يفسر دعوة فتحى باشاغا وزير داخلية السراج للولايات المتحدة لإقامة قاعدة عسكرية فى بلاده للتصدى لما وصفه بالتغلغل الروسى فى إفريقيا، وذلك فى عملية تأجيج عمدى للصراع بين روسياوأمريكا داخل ليبيا، وهى نفس المحاولة التى تقوم بها مصراتة منذ سنوات، سواء مع أمريكا، أو مع إيطاليا، حكومة السراج تعزف على وتر القلق الأوروبى والأمريكى من مؤشرات الدعم الروسى للجيش الوطنى، وذلك فى محاولة لدفع أوروبا للتراجع عن تجاهلها، وإخراج واشنطن من شرنقة الغياب عن الساحة الليبية.. والحقيقة أن الربط بين تقدم الجيش الوطنى الليبى للسيطرة على طرابلس، والزحف التدريجى للنظام السورى لاسترجاع كامل محافظة إدلب، يعتبر واحدا من أهم المتغيرات الاستراتيجية فى المفاوضات التى تجريها روسيا مع تركيا، لأن كلا العمليتين تستهدفان تقويض تمدد النفوذ التركى، مما يعزز النجاح الروسى فى سوريا، ويحول دون الالتفاف التركى جنوبًا، ويتفق فى نفس الوقت مع مصالح الاتحاد الأوروبى، الأمر الذى يفسر محاولات تركيا المستميتة لتثبيت حكومة السراج التابعة لها.. الربط بين معركتى إدلب فى سوريا، وطرابلس فى ليبيا، يفسر أيضًا زيارة الوفد الليبى برئاسة وزير خارجية حكومة بنغازى إلى دمشق، حيث تم الاتفاق على إعادة فتح مقرات البعثات الدبلوماسية وتنسيق المواقف، ومواجهة ما أسموه بالعدوان التركى على ليبيا وسوريا.. هذا التطور سبب إزعاجًا شديدًا لحكومة السراج، سارعت على أثره باتهام هيئة الاستثمار العسكرى التابعة للجيش الوطنى بإقامة علاقات تجارية مع النظام السورى، وتصدير وقود الطيران إليه، مقابل الأسلحة والعملات الصعبة، فيما وصفته حكومة السراج بالانتهاك الصريح للحظر الدولى على تصدير الوقود لسوريا المفروض منذ أواخر عام 2013.. بلقاسم دبرز، رئيس اللجنة الأمنية بالمجلس الأعلى للدولة فى ليبيا الموالى للسراج والإخوان، أشار إلى تسيير رحلات جوية مباشرة بين مطارى دمشق وبنينا، ومنح السوريين تأشيرات دخول لبنغازى، على متن شركة طيران «أجنحة الشام»، التى فرضت عليها عقوبات أمريكية عام 2016، بسبب نشاطها فى نقل المرتزقة لدعم النظام السورى، واصفا ذلك بالمحاولة من جانب نظام بنغازى لفك عزلة نظام دمشق إرضاء لموسكو، وادعى أن الجسر الجوى المباشر يستهدف نقل المرتزقة الروس والشبيحة السوريين لدعم الجيش الوطنى عسكريا فى هجومه على طرابلس، وهى محاولة تشويه ساذجة لجذب الانتباه بعيدًا عن تدفق 5000 مرتزق من الموالين لتركيا على طرابلس حتى الآن. زيارة حفتر لباريس وبرلين فى ظل هذه التغيرات الإقليمية تمت زيارة خليفة حفتر القائد العام لقوات الجيش الوطنى لباريس وبرلين التى تم الإعداد لها جيدًا، فى إطار التغير النوعى للسياسة الأوروبية تجاه القوى المتصارعة فى ليبيا.. فبخلاف زيارة وفد الاتحاد الأوروبى أوائل مارس، التقى كريستوف فارنو مدير دائرة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بالخارجية الفرنسية مع حفتر ببنغازى 11 فبراير، وقدم له دعوة رسمية من الرئيس ماكرون، لزيارة فرنسا، وكان فارنو قد زار تونس فى طريقه لبنغازى، لتقديم دعوة رسمية إلى فتحى باشاغا وزير الداخلية فى حكومة السراج، من نظيره الفرنسى كريستوف كاستانير، لزيارة باريس فى 17 مارس الحالى، المفارقة الكاشفة هى أن يتزامن مع زيارة حفتر للإليزيه، خروج مصدر رسمى يؤكد أن ماكرون لا يعتزم حاليًا مقابلة فايز السراج، أو التحدث معه، بما يعنى خلعه تماما من حسابات فرنسا والرغبة فى عدم إشراكه فى المفاوضات القادمة إن أمكن، وتقديرى أن ذلك الاتجاه الأوروبى هو المبرر الحقيقى لاستقالة غسان سلامة من منصبه كمبعوث دولى، عرف عنه انحيازه للسراج.. زيارة باشاغا لا تعكس توازنًا فى السياسة الفرنسية تجاه طرفى الصراع الداخلى فى ليبيا، بقدر ما تمثل خطوة سياسية لازمة للتعامل مع أى متغيرات محتملة مستقبلًا، والتعرف على أعضاء المجلس الرئاسى المؤهلين لخلافة السراج.. زيارة حفتر لباريس تمت بدعوة واستقبال رسميين، بمشاركة رئيس أركان الجيش الفرنسى ووزراء الدفاع والداخلية والخارجية، وعدد من القيادات العسكرية، فإذا أضفنا إلى ذلك إغلاق فرنسا الباب أمام زيارة مماثلة للسراج، لتأكد الاعتراف الرسمى من الدولة الفرنسية بحفتر، والسعى لبناء المصالح معه، ومعاملته ليس باعتباره قائدًا عسكريًا، وإنما ممثلًا للدولة الليبية.. جوانب الاهتمام الفرنسى متعددة: ملفا مكافحة الإرهاب والهجرة غير الشرعية.. تعهد حفتر بوقف إطلاق النار، شريطة احترام ميليشيات السراج له، وذلك تحصيل حاصل، لأن كل طرف على قناعة بأن وقف إطلاق النار ليس فى مصلحته، وبالتالى لن يلتزم به أحد.. موافقة حفتر على عقد مؤتمر مصالحة ليبي/ ليبى تحت رعاية الأممالمتحدة وذلك لا يضيف جديدًا، لأنها فكرة دوارة، يزايد بها الجميع، ويزرعون الألغام فى طريقها.. ورفع الحصار عن موانئ تصدير النفط شرق ليبيا، على أن يتم توزيع عائداته بعدالة بين المناطق الليبية، دون المرور على مصرف ليبيا المركزى، حتى لا يتحكم فيه السراج.. حفتر فى المقابل حمل معه ملف ثقيل يتعلق بالتدخل التركى فى البلاد، وتحميلها مسئولية تعثر مفاوضات جنيف نتيجة عدم إلتزامها بحظر السلاح، رغم تعهداتها فى برلين، لينتقل من ذلك إلى محاولة تنشيط الدعم العسكرى.. العلاقة بين معركتى إدلب وطرابلس هى أحد المحاور الاستراتيجية الجديدة والجديرة بالمتابعة، المعركتان تحويان من العناصر المشتركة والتجاذبات والتناقضات ما يفرض التدقيق والمتابعة، لتأثيرها على التوازنات الإقليمية بالمنطقة، التفاعل بينهما بدأ منذ فترة ليست بالقصيرة، وتأثيرهما المتبادل يُحدث أثره بفاعلية.. ليبيا مقبلة على تغيرات كبيرة بعد التبدل الاستراتيجى فى الموقف الأوروبى، تركيا ستعمل على استباقها بتطوير موقف ميليشيات السراج من الدفاع إلى الهجوم استنادًا إلى دعم المرتزقة السوريين، لكن ذلك لن يؤدى إلى تغيير استراتيجى فى أوضاع القوات.. دخول الناتو 2011 حسم الصراع بين الدولة والفوضى، لكن أوروبا دفعت الثمن غاليًا، تدخُّل 2020 مختلف، لأنه ربما يُكفر عن أخطاء الماضى، ويضع حدًا للتدخل التركى، مما يفتح الميدان لتفاعل طرفى الأزمة، وقد يعيد إلى الإقليم ليبيا المفقودة!.