منذ بدأت الاستماع إلى الأغنيات كانت لدىّ فلسفة خاصة لا أدرى إن كان هناك من يشاركونى إياها أم لا، وهى ألا أحفظ كلمات أغنية أعجبتنى حتى أراها متجددة دائمًا ويستمر إعجابى بها وكأنى أسمعها لأول مرة ويؤسفنى أن تستمر تلك القناعة، ولكن دون أن يكون لى يد فى ذلك؛ فليس بمقدرتى الحفظ وإن أردت ذلك ولا داعى للوقوف كثيرًا عند هذه الحقيقة للحفاظ على ما تبقى من روح معنوية. كل ما سبق من مقدمة مدخل لذكرى فنان متفق عليه من حيث الإبداع والولوج إلى القلوب دون أى استئذان ليس فى السودان فحسب؛ بل لدول كثيرة أهمها مصر التى كانت نقطة بدايته وانطلاقه لأول مرة، إذ إن أسرته قامت بإرساله إليها لتلقى العلم عن مشايخ الأزهر الشريف، ولكن كان للشاب رأى آخر ضمره بداخله، فما إن حطت رحاله بالقاهرة حتى توجه لدراسة الموسيقى فالتحق بالمعهد العالى للموسيقى والمسرح لصقل موهبة لا غرابة فى حمله إياها. فبلدته التى جاء منها اشتُهرت بالفن وحب الطرب فقلما يعدى يوم لا ينصب فيه حفل ليس له سبب سوى حب الغناء، خاصة الأغانى التى تبث الحماس، وقد خرّجت تلكم القرية الصغيرة واسمها (الدبيبة) مطربين كثرًا تمتعوا بالصيت والشهرة، ولكن أن يتجرأ الشاب سيد بتغيير ما ابتُعث من أجله بمساحة نصف دائرة فذلك أمر جلل ولم يكن لديه من خيار إلا أن يأتى بما لم يأت به غيره فحالفته الفرصة النادرة التى تأتى مرة فى العمر، فحرص على ألا تضيع منه، حكى الفنان سيد خليفة عبر برنامج إذاعى قصة أول مواجهة جماهيرية كبيرة له وكانت أمام قادة ثورة الثالث والعشرين من يوليو وجمهور غفير جاء لسماع فطاحلة الغناء العربى ولتدبير ما كان من بينهم الفنان الناشئ سيد خليفة ولم يكن وقتها معروفًا لا للسودانيين ولا للمصريين، ما جعل حماس اللجنة المنظمة للحفل ضئيلاً للسماح له بالصعود على خشبة المسرح وعندما أحسّ سيد خليفة بخطر ضياع الفرصة ذهب إليهم وطلب أن يقوموا بتقديم فقرته وأضاف أنه سوف يذهب لمحمد نجيب لإخباره بذلك إذا هم أصروا على استبعاده فوافقوا بغير رضا عن هذه الوصلة الغريبة فسمحوا له بأن يأخذ فرصته فصعد إلى المسرح وغنى أغنيتين رددتهما معه الجماهير الغفيرة، وبذلك صادقت على شهادة ميلاده الفنى أغنية (أزيكم) وأغنية (المامبو السودانى) فلاقتا تجاوبًا واسعًا ليس فى القاهرة فحسب؛ بل بكثير من دول العالم التى زارها سفيرًا للأغنية السودانية وعلى نفقته الخاصة، وإذا طالعنا كلمات الأغنيتين لوجدناهما غاية فى البساطة والتلقائية، ولكن طريقة الأداء الدرامية أضفت إليهما رونقًا مع الإيقاع الراقص الحار، إذن كان للحن نصيب مقدر لنجاحهما ولنجاحه أيضًا الذى سبقه لأرض الوطن لتتم إجازة صوته دون عناء عبر أثير إذاعة (هنا أم درمان) التى كانت تعجّ بأساطين فن الغناء السودانى. فى السودان وربما فى كثير من الدول العربية، هناك فهم راسخ على أن مصر هى قاعدة انطلاق المبدعين والظهور بها يغنى عن سنوات كثيرة من الجهد الذى يبذلونه داخليًا فى أوطانهم، وليس ذلك بالأمر الخافى إذا نظرنا لخارطة الفن والأدب، وهذا ما جعل الفنان سيد خليفة يسبق أبناء جيله ليستمر فى العطاء ويقدم الكثير من الأغنيات الجميلة الخالدة التى قام بترديدها العديد من المطربين الشباب والتى صاغ كلماتها عدد من الشعراء نجد لكل منهم حكايته مع مصر، وذلك موضوع قد أكتب عنه لاحقًا إن شاء الله . وقبل أن أصل لخاتمة المقال أعود لبدايته التى ارتبطت بذلك الفنان بالذات لتعمّ بقية عقد الفنانين فأغنياته كلما سمعتها أكتشف فيها معنى جديدًا وتطريبًا متجددًا. رحم الله سيد خليفة الذى توقف قلبه عن الخفقان فى بداية الألفية الثانية ورحل سفيرنا تاركًا مكتبة فنية أنيقة راقية كرقية وطيبة قلبه فسلام عليه فى الخالدين.