مع مطلع العام الجديد يهل علينا خبر سعيد من عصر قديم..لكن كيف يكون جديدًا وقوامه لوحات فنية قديمة تعود إلى حقبة الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضى؟! إن اكتشاف مقبرة من العصر الفرعونى يظل خبرًا جديدًا ومثيرًا لأقصى حد، إذ يمنح حضارة الأسلاف ميلادًا جديدًا وقيمة مضافة، والحال فى الكشف الفنى الأخير لا يقل إثارة، كونه يزيح التراب عن حقبة إبداعية فى تاريخنا الفنى الحديث، سبقت عصرها برُؤَى ثورية، ومازالت حتى الآن تُعد طليعية لم يتجاوزها الزمن فى مسيرتنا الفنية رُغم تتابع الأجيال فلاتزال قادرة على إحداث الصدمة وكسر «التابوهات» وإثارة الدهشة والأسئلة حول معنى الحياة والوجود وعذاب النفوس وقهر الإنسان الذى لم يتوقف- بل يتزايد- حتى اليوم، ولاتزال السريالية التى انتهجها أغلب فنانى الطليعة فى الأربعينيات قابلة للازدهار والتجدُّد فى عصرنا بصيغ مختلفة، طالما بقيت أسئلة الوجود وأسرار النفس البشرية وألغازها بغير أجوبة! بعد عشرات السنين من دفنها فى غرف مظلمة يكسوها التراب، تم الكشف مؤخرًا عن مجموعة نادرة من اللوحات الزيتية والمائية والاسكتشات التحضيرية والوثائق الخاصة بحياة أحد رواد جيل الجماعات الفنية وغيرهم أواخر عَقد الأربعينيات، أكثرها يخص الرسام وأستاذ الحفر بكلية الفنون الجميلة بالإسكندرية منذ إنشائها أحمد ماهر رائف (المولود عام 1926 والمتوفى فى التسعينيات) وهو أحد فرسان جماعة «الفن المعاصر». رواد السريالية وأنصار السُّنة!! الخبيئة تضم أيضًا لوحات لرائد الجماعة الفنان حسين يوسف أمين، وأعمالًا لعضو آخر فيها هو إبراهيم مسعودة، وكذا أعمالًا لفرسان جماعة «الفن والحرية»: الفنانين رمسيس يونان وكامل التلمسانى وفؤاد كامل، رواد التيار السريالى إبَّان إرهاصاته الأولى التى اجتاحت الحركة الفنية بتمردها على التقاليد الراسخة - بين الأكاديمية والواقعية - التى أرساها الجيلان السابقان (جيل الرواد الأوائل وجيل الثلاثينيات)، فضلًا عن أعمال تمثل تيارات أخرى لفنانين غيرهم مثل مرجريت نخلة ويوسف سيده وصلاح طاهر، وهم من طلائع حركة الحداثة الفنية. هذه الخبيئة آلت إلى مَن اشتروها من بعض المتصلين بورثة الفنان ماهر رائف، ولم يطلع عليها أحد الخبراء المختصين بالترميم أو النقد وتاريخ الفن، وكانت فى الأصل من مقتنيات الفنان قبل هجرته إلى أمريكا أواخر الثمانينيات حتى توفى هناك، وكانت تضم الكثير من أوراقه فترة التحضير للسَّفر فى بعثته الدراسية إلى ألمانيا عام 1956 وما صادفه من عَقبات، كما تضم أوراقًا بها بعض آرائه فى الفن والحياة قبل أن يتحول فكريّا وفنيّا إلى الفكر السلفى والاقتناع بفتوَى تحريم رسم المشخصات الحية؛ حيث انتمى إلى جماعة أنصار السُّنة المحمدية، ما دعاه إلى الاستعاضة عن رسم الأشخاص بالتجريد مستخدمًا الحروف العربية؛ خصوصًا فى مجال الحفر (الجرافيك)، إلى جانب بعض المراسلات الأسرية والمذكرات التى تعكس أفكاره. ومن المعروف أن جماعة الفن المعاصر التى كان ينتمى إليها ماهر رائف وإبراهيم مسعودة كانت تضم الفنانين الكبار عبدالهادى الجزار وحامد ندا وسمير رافع ومحمود خليل وإبراهيم شهدة وسالم الحبشى، تحت قيادة أستاذهم حسين يوسف أمين فترة تدريسه الرسم لهم بالمدرسة الثانوية وما بعدها حين التحقوا بكلية الفنون الجميلة عام 1946، وربما كان إهمال ماهر رائف الحفاظ على هذه الأعمال انعكاسًا لرغبته فى القطيعة التامة مع تلك المرحلة من حياته بفكرها وأساليبها الثورية المتحررة، بعد أن تغيرت مفاهيمه وقناعاته الفكرية والفنية، مضحيًا بمستقبل مبهر فى الاتجاه الفنى للجماعة الذى يكشف سوءات الواقع برؤية مدهشة تميل إلى السريالية، فخسرنا بتحوُّله هذا قامة إبداعية عالية فى ذلك الاتجاه لا تقل عن قامات رفاقه، وقيل إنه ترك هذه الأعمال لأحد أقاربه واسمه ممتاز زكى ماهر، قبل سفر «رائف» الأخير والنهائى إلى أمريكا، وهذا القريب تركها بدوره لدى جار له لاقتناعه بحُرمتها بعد أن انضم أيضًا- فيما يبدو- إلى جماعة أنصار السُّنة خوفًا من تحمُّل وزرها!. مسئولية قومية ولقد أتيحت لى فرصة الاطلاع على هذه الخبيئة، وبقدر فرحى باكتشافها، باعتبارها إضافة معتبرة إلى تراثنا الفنى تتصل بالثورة الطليعية على المدارس الفنية التقليدية السابقة عليها، فقد أيقنتُ أنه من الضرورى عكوف مختصين بالترميم والتوثيق على فحصها ومعالجتها مما أصابها خلال عشرات السنين من الهَجر والإهمال وسوء التخزين، فضلًا عن توثيق تواريخها وإثبات نسبتها إلى مبدعيها وتصنيف مخطوطاتها، ثم ربطها بسياقها التاريخى والاجتماعى؛ خصوصًا أن أغلبها لم يُنشر فى إصدارات موثقة، باستثناء البعض القليل منها الذى ذَكره ونشر صورَه الناقد الفنى إيميه آزار فى كتابه الشهير «التصوير الحديث فى مصر» الذى نُشر بالفرنسية عام 1966 وترجم إلى العربية 2005 بالمركز القومى للترجمة.. إنها مسئولية قومية تحتاج فريقًا علميّا وجهدًا مدققًا قبل الشروع فى عرضها للبيع فى سوق الفن، وقد استجاب أصحابها لدعوتى لهم للتريث قبل بيعها حتى يتحقق هذا الغرض، رُغم شدة الإقبال على اقتنائها بأسعار خيالية. وكنت أتمنى أن تقوم الدولة بهذه المهمة من خلال الجهاز المختص بذلك فى قطاع الفنون التشكيلية بوزارة الثقافة، لكنه للأسف لم ينجح فى أن يفعل مثل ذلك بالنسبة لما تحت مسئوليته من مقتنيات المتاحف الفنية رُغم كثرة الشكوك المثارة حول بعضها، لذلك أرى أن البديل هو الاستعانة بوزارة الآثار أو بكلية الآثار بما تملكانه من أجهزة متقدمة للكشف على مثل هذه الأعمال، ومن خبرات فى الترميم بحياد تام بعيدًا عن الأغراض الشخصية. وبغض النظر عن امتلاك أشخاص لهذه الأعمال أو عن بيعها لآخرين، فى غياب الدولة التى يفترض أن تكون أول من يسعى لاقتنائها وضمها إلى متحف الفن المصرى الحديث، كجزء بالغ الأهمية من ذاكرتنا الفنية؛ فإن أضعف الإيمان هو توثيقها قبل بيعها، ثم إتاحتها كمادة علمية للباحثين، ونشر صورها لتكون علامات طريق فى المراجع والرسائل الجامعية على مسار حركة الإبداع المصرى الحديث. 10_2001151015258423 6_copy_2001151015258423 9_copy_2001151015258423