طب قصر العيني يطلق برنامجًا صيفيًا لتدريب 1200 طالب بالسنوات الإكلينيكية    رئيس "التنظيم والإدارة": تعديلات مرتقبة في قانون الخدمة المدنية    جولة لقيادات جامعة حلوان التكنولوجية لمتابعة امتحانات الفصل الصيفي    الاحتفال بعروسة وحصان.. موعد إجازة المولد النبوي 2025 فلكيًا وحكم الاحتفال به    كيف سيستفيد السوق والمستهلك من تحويل المنافذ التموينية إلى سلاسل تجارية؟    البيئة تناقش آليات تعزيز صمود المجتمعات الريفية أمام التغيرات المناخية بقنا    البورصة المصرية تخسر 28 مليار جنيه بتراجع جماعي للمؤشرات    إسبانيا: احتلال غزة ليس طريقًا للسلام وندعوا لوقف إطلاق نار فوري    إيران: لا يمكن قطع التعاون مع الوكالة الدولية وقد نجتمع مع الأوروبيين قريبًا    ألمانيا: خطط الاستيطان الجديدة في الضفة الغربية ستجعل حل الدولتين مستحيلا    البرديسي: السياسة الإسرائيلية تتعمد المماطلة في الرد على مقترح هدنة غزة    مستقبل دوناروما في مانشستر سيتي.. هل ينجح في اجتياز اختبارات جوارديولا؟    "أريد تحقيق البطولات".. وسام أبو علي يكشف سبب انتقاله ل كولومبوس الأمريكي    رئيس مارسيليا: ما حدث بين رابيو وجوناثان رو "بالغ الخطوة"    الداخلية تكشف ملابسات فيديو إشعال النيران في سيارتين بدمياط    الداخلية: ضبط قضايا إتجار بالنقد الأجنبي بقيمة 10 ملايين جنيه خلال 24 ساعة    مهرجان الجونة يفتح ستار دورته الثامنة بإعلان 12 فيلمًا دوليًا    بعنوان "الأيام" ويجز يطرح أولى أغنيات ألبومه الجديد    بإطلالات غريبة.. هنا الزاهد تخطف الأنظار في أحدث ظهور لها (صور)    أمين الفتوى: بر الوالدين من أعظم العبادات ولا ينتهى بوفاتهما (فيديو)    جولة تفقدية لوزير الصحة بعدد من المنشآت الطبية في مدينة الشروق    محافظ الإسماعيلية يوجه التضامن بإعداد تقرير عن احتياجات دار الرحمة والحضانة الإيوائية (صور)    بعد وفاة طفل بسبب تناول الإندومي.. "البوابة نيوز" ترصد الأضرار الصحية للأطعمة السريعة.. و"طبيبة" تؤكد عدم صلاحيته كوجبة أساسية    الداخلية: حملة للتبرع بالدم بمديرية أمن الوادي الجديد    حماة الوطن: التعنت الإسرائيلي يعرقل جهود التهدئة والمقترح المصري القطري نافذة أمل جديدة للفلسطينيين    كنوز| 101 شمعة لفيلسوف الأدب الأشهر فى شارع صاحبة الجلالة    خلال اتصال هاتفى تلقاه من ماكرون.. الرئيس السيسى يؤكد موقف مصر الثابت والرافض لأية محاولات لتهجير الشعب الفلسطينى أو المساس بحقوقه المشروعة.. ويرحب مجددًا بقرار فرنسا عزمها الاعتراف بالدولة الفلسطينية    بدون شكاوى.. انتظام امتحانات الدور الثاني للثانوية العامة بشمال سيناء    مكالمة تليفون تتحول إلى مأساة.. ضبط «غيبوبة» المتهم بإصابة جاره بشبرا الخيمة    استراحة السوبر السعودي - القادسية (1)-(4) أهلي جدة.. نهاية الشوط الأول    كرة نسائية – سحب قرعة الدوري.. تعرف على مباريات الجولة الأولى    حملة موسعة على منشآت الرعاية الأولية في المنوفية    الأوقاف:681 ندوة علمية للتأكيد على ضرورة صون الجوارح عما يغضب الله    «دوري مو».. محمد صلاح يدفع جماهير ليفربول لطلب عاجل بشأن البريميرليج    إزالة 19 حالة تعد على الأراضي الزراعية وأملاك الدولة في المنيا    ما حكم إخبار بما في الخاطب من عيوب؟    علي جمعة يكشف عن 3 محاور لمسؤولية الفرد الشرعية في المجتمع    "كلنا بندعيلك من قلوبنا".. ريهام عبدالحكيم توجه رسالة دعم لأنغام    «كنت بتفرح بالهدايا زي الأطفال».. أرملة محمد رحيم تحتفل بذكرى ميلاده    «سي إن إن» تبرز جهود مصر الإغاثية التى تبذلها لدعم الأشقاء في غزة    حالة الطقس في الإمارات.. تقلبات جوية وسحب ركامية وأمطار رعدية    القبض على طرفي مشاجرة بسبب خلافات الجيرة بالسلام    وزير الإسكان يستعرض جهود التنمية السياحية في ترشيد الإنفاق    تغيير اسم مطار برج العرب إلى مطار الإسكندرية الدولي    رئيس الوزراء يؤكد دعم مصر لمجالات التنمية بالكونغو الديمقراطية    "خطر على الصحة".. العثور على كم كبير من الحشرات داخل مطعم بدمنهور    انطلاق مهرجان يعقوب الشاروني لمسرح الطفل    عمر طاهر على شاشة التليفزيون المصري قريبا    ضبط 111 ألف مخالفة مرورية متنوعة خلال 24 ساعة    20 أغسطس 2025.. أسعار الذهب تتراجع بقيمة 20 جنيها وعيار 21 يسجل 4520 جنيها    توقيع مذكرة تفاهم للتعاون بين اقتصادية قناة السويس وحكومة طوكيو في مجال الهيدروجين الأخضر    وزير الدفاع يلتقي مقاتلي المنطقة الشمالية.. ويطالب بالاستعداد القتالي الدائم والتدريب الجاد    الزمالك: منفحتون على التفاوض وحل أزمة أرض النادي في 6 أكتوبر    محافظ القاهرة يقرر النزول بالحد الأدنى لتنسيق القبول بالثانوي العام    الاحتلال الإسرائيلي يقتل نجم كرة السلة الفلسطينى محمد شعلان أثناء محاولته الحصول على المساعدات    الموعد والقناة الناقلة لمباراة الأهلي والقادسية في كأس السوبر السعودي    رعاية القلوب    حبس سائق أتوبيس بتهمة تعاطي المخدرات والقيادة تحت تأثيرها بالمطرية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



معرض السريالية المصرية‮.. ‬خارج السريالية‮!‬
إطلاق الخيال السجين شيء ‮ ‬والسريالية شيء آخر‮!‬
نشر في أخبار الحوادث يوم 29 - 10 - 2016

‮ ‬أن تحتفي دولة بتراث مبدعيها في فترة زمنية معينة حول اتجاه فني متميز وتقوم بتوثيقه وتسليط الأضواء عليه محليا ودوليا،‮ ‬شيء جميل ومعتبر،‮ ‬بل وضروري في بناء ذاكرة حقيقية للفن تعرف معها الأجيال الصاعدة تاريخ إبداع الرواد وتعمق انتماءها إلي تراثها وتتحاور معه وتستلهمه،‮ ‬مثلما تتحاور مع الفن العالمي وتستلهمه،‮ ‬وهو ماكان يفترض أن يحدث منذ سنوات طويلة بالنسبة لمعرض‮" ‬السريالية في مصر‮" ‬بين‮ ‬1938‮ - ‬1965،‮ ‬المقام حاليا بقصر الفنون بالأوبرا تحت هذا العنوان‮.‬
‮ ‬أما أن تقوم دولة أو دول أخري بهذه المهمة نيابة عنا،‮ ‬ويكون دورنا هو تجميع أعمال الفنانين من هذه المدرسة الفنية من متاحفنا ومن أصحاب المجموعات الخاصة،‮ ‬دون حتي القيام بعملية توثيق وتصنيف دقيق برؤية مفاهيمية تعتمد علي دراسات النقاد والباحثين،‮ ‬فليس ذلك جميلا بأي معيار،‮ ‬مهما توفرت حسن النوايا لدي المسئولين المصريين بوزارة الثقافة والرعاة العرب والأجانب،‮ ‬وعلي رأسهم إمارة الشارقة،‮ ‬ومهما بلغت درجة حماسهم وكرمهم في تحمل نفقات إقامة المعرض في مصر ثم التنقل به في جولة بين عدة دول أوروبية علي امتداد ثلاث سنوات،‮ ‬فإن ذلك إعلان صريح بعجزنا عن العناية بتراثنا وإبراز ريادتنا الإبداعية،‮ ‬وعن القدرة علي وضع استراتيجية ثقافية توائم بين الأهداف المحلية المختلفة للنهوض بالفن وإحياء التراث،‮ ‬وبين الأبعاد العالمية لحشد قوانا الناعمة علي المستوي الدولي للخروج من عزلتنا الثقافية،‮ ‬ولمواجهة التحديات التي يمكن للفن أو يقوم بدور مهم في مواجهتها،‮ ‬شريطة أن تتخذ الضمانات التأمينية لعودة الأعمال الفنية دون أن تتعرض للتزوير أو الاستنساخ‮.‬
‮ ‬ليس ذلك تقليلا من أهمية إقامة المعرض الحالي بمصر والطواف به دوليا،‮ ‬لكن رأينا هذا بمثابة كشاف نسلطه علي وضعنا المؤسف،‮ ‬ليس بالنسبة لهذا المعرض وحده،‮ ‬بل بالنسبة لسياستنا الثقافية‮ - ‬إن كانت لنا أصلا أية سياسة‮ - ‬في التعامل مع تراثنا وثرواتنا المتحفية الهائلة،‮ ‬بدليل أن أغلب متاحفنا الفنية مغلق أمام الزوار منذ عقد من الزمان بدون أسباب مفهومة،‮ ‬بما فيها متحف الفن الحديث الذي اختيرت من مخازنه أغلب لوحات معرض السريالية‮.. ‬ولك أن تتخيل أمة ذات تاريخ يتعدي القرن بإبداعها في الفن الحديث بمئات الفنانين بدءا من الرواد حتي الأجيال المعاصرة،‮ ‬منهم أنداد لأعلام الفن العالمي في بعض مراحل الحركة الفنية المصرية،‮ ‬تعيش بلا ذاكرة ولا ثقافة مرجعية في الفن بأجيالها المتوالية فترة إغلاق متحف الفن الحديث ومتحف محمد محمود خليل ومتحف الجزيرة،‮ ‬الذي أغلق منذ نصف قرن تقريبا وتعثر مبناه الجديد،‮ ‬وهو يضم أربعة آلاف من الأعمال الفنية النادرة من الفن الأوروبي وغيره خلال عدة قرون،‮ ‬ولازلنا نذكر كيف انتفض المثقفون والفنانون والمفكرون في مصر عام‮ ‬1990‮ ‬حين تصاعدت حملة ممنهجة‮ - ‬كبالون اختبار‮ - ‬في الصحافة لبيع لوحات متحفي محمد محمود خليل والجزيرة،‮ ‬لأنها اولا ليست تراثا مصريا نعتز به،‮ ‬وثانيا لأن الأجدر بنا أن نبيعها في مزاد عالمي ونسدد بقيمتها‮ (‬التي قدرت آنذاك ب‮ ‬30‮ ‬مليار دولار‮) ‬ديون مصر المتراكمة،‮ ‬واستطاعت انتفاضة المثقفين آنذاك إجهاض تلك الحملة‮ - ‬وما وراءها من تدبير سياسي‮ - ‬في مهدها‮.‬
‮ ‬علي كل حال فإن معرض السريالية صار أمرا واقعا،‮ ‬وعلينا أن ننظر أولا إلي الجانب الإيجابي فيه،‮ ‬وهو يتمثل في الجهد الكبير الذي بذله القائمون علي المعرض‮ ‬لجمع أعماله من مقتنيات الدولة بمتحف الفن الحديث بالقاهرة والجامعة الأمريكية ومتحف الاسكندرية للفنون الجميلة ومتحف محمود سعيد،‮ ‬إلي جانب مقتنيات مؤسسة بارجيل للفنون بالشارقة وبعض مقتنيات الأفراد،‮ ‬وتعد الشارقة الراعي الرسمي للمعرض،‮ ‬كما أسعدنا مشاهدة عدد من اللوحات التي أراها لأول مرة في حياتي لعدد من الفنانين الأجانب مثل إيمي نمر،‮ ‬وأريست بابا جورج،‮ ‬وكارلو ديس ديرو،‮ ‬وباروخ،‮ ‬وأعمال لبعض المصريين مثل كمال يوسف وإبراهيم مسعود،‮ ‬وإنجي أفلاطون في بداياتها المبكرة‮.. ‬وهم جميعا كانوا علي علاقة بجماعة الفن والحرية باستثناء كمال يوسف وابراهيم مسعود وكانا ينتميان الي جماعة الفن المعاصر إلي جوار الجزار وندا ورافع والآخرين‮.. ‬وفي عرض أعمالهم المجهولة اليوم إضافة مهمة تفيد الدارسين وتنصف هؤلاء المنسيين وتؤرخ لما أهمله التاريخ‮!‬
‮ ‬كما تتمثل الإيجابيات في المستوي الجيد لطريقة عرض اللوحات في قصر الفنون،‮ ‬بشكل مريح للمشاهد بما يساعده علي التركيز والتأمل،‮ ‬ومريح أيضا للوحات ذاتها فوق الجدران،‮ ‬حتي إن بعضها يستقل بجدار كامل،‮ ‬يجعل المحيط الفارغ‮ ‬حولها بمثابة حرم لها،‮ ‬وهذا مانفتقده في جميع المعارض العامة في مصر،‮ ‬وإن كنت أختلف حول أسلوب عرض أعمال الفنان الواحد متفرقة بين عدة أماكن وقاعات بما لايسمح بتكوين رؤية شاملة عن كل فنان‮.‬
‮ ‬ومع تسليمنا بعظمة العائد الثقافي من وراء إطلاع جماهير الدول‮ (‬التي لم يعلن ماهي حتي الآن‮) ‬علي إبداعات حقبة مهمة من تاريخ الفن المصري،‮ ‬استطاع فيها مناظرة ومعايشة الفن العالمي الحديث بحس مستقل‮.. ‬ندا لند،‮ ‬وليس مقلدا أو تابعا له كما حدث لاحقا،‮ ‬فإنني أدعو الله ألا يكون وراء هذا المشروع هدف آخر‮ ‬غير ماذكرنا،‮ ‬حيث ترددت أقاويل عن استهدافه لتسويق المقتنيات الخاصة ضمن المعروضات في بورصات الفن العالمي‮!‬
‮ ‬وفي مقابل تلك الجوانب الإيجابية لم يجد الزائر أوحتي الصحفي والناقد والباحث أية كتالوجات أو ملفات إعلامية أو حتي أقراصا مدمجة توثق وتؤصل للمعروضات وتصنفها تصنيفا منهجيا وتاريخيا،‮ ‬الأمر الذي ظهر به المعرض مثل كرنڤال احتفالي يختلط فيه الحابل بالنابل،‮ ‬خاصة وأن هناك تعارضا بين ما تم الإعلان عنه بشأن الفترة الزمنية للأعمال‮ (‬وهي‮ ‬1938‮ - ‬1965‮) ‬وبين احتواء المعرض علي أعمال يمتد تاريخ إنتاجها إلي التسعينيات،‮ ‬بعض أصحابها راحلون وبعضهم أحياء يرزقون‮.‬
‮ ‬لكن نقطة الاختلاف الأهم مع منظمي المعرض هي عنوانه‮ "‬السريالية في مصر‮"‬،‮ ‬فلو أخذنا بالتعريف الأكاديمي الذي يدرسه الطلبة وحتي هواة الفن للسريالية،‮ ‬سوف نجده لاينطبق علي‮ ‬90٪‮ ‬علي الأقل من أصحاب الأعمال المعروضة،‮ ‬إلا إذا كان للسريالية في أوروبا وفي كتب الفن مفهوم يختلف عن مفهومها في مصر‮.. ‬والسريالية كمدرسة أوروبية حركة ثورية لإطلاق خيال ووجدان الفرد،‮ ‬بالإفراج عن مخزون العقل الباطن وكبت الغرائز الدفينة والبدائية في أعماق النفس والتحرر من رقابة العقل والمنطق،‮ ‬وقد تأثرت بأبحاث عالم النفس سيموند فرويد حول الغرائز وخاصة بالنسبة للغريزة الجنسية وتأثيرها علي سلوك الفرد،‮ ‬وكذا بالنسبة للأحلام وتفسيرها النفسي،‮ ‬وعملية التداعي الحر والتلقائي لحركة اللاوعي بكل تناقضاتها اللحظية‮.. ‬إنه‮ - ‬إذن‮ - ‬مفهوم يبدأ وينتهي عند ذات الفرد،‮ ‬ولايرتبط بمفهوم اللاوعي الجمعي للجماعات البشرية الذي تبناه عالم النفس يونج،‮ ‬الذي يرتبط بمخزون القيم والخرافات والمعتقدات والمفاهيم الأنثروبولجية،‮ ‬التي تشكلت في وعي الجماعات الانسانية خلال بحثها في أسرار ظواهر الطبيعة والوجود،‮ ‬حتي صارت ثقافة تتوارثها الأجيال‮.‬
وإذا طبقنا هذين المفهومين النابعين من علم النفس‮ - ‬علي الفنانين في معرض السريالية،‮ ‬سوف نجد أن المفهوم الأول ماقامت عليه السريالية الأوروبية،‮ ‬كونها تتبع نوازع الفرد بتداعياتها الحرة،‮ ‬وهو ما أخذت به كذلك جماعة الفن والحرية
‮ (‬1939‮-‬1945‮) ‬بفرسانها الثلاثة رمسيس يونان وكامل التلمساني وفؤاد كامل،‮ ‬ومعهم عدد ممن عاصروهم واشتركوا في المعارض القليلة للجماعة خلال خمس سنوات،‮ ‬قبل أن تتفكك‮. ‬لكن عقيدتهم السريالية في الحقيقة كانت تتناقض مع عقيدتهم السياسية‮ (‬الماركسية‮/ ‬التروتسكية‮)‬،‮ ‬وربما يفسر هذا عدم التفات أعمالهم لقضايا الواقع الاجتماعي تعبيرا عن انتمائهم الأيديولوجي إلي جماهير الشعب الكادحة والمستغلة،‮ ‬والمتابع لمسيرة كل منهم يجد أنهم تخلوا عن رؤيتهم السريالية التي أطلقوا عليها مصطلح‮ " ‬الفن الأوتوماتيكي‮" ‬نسبة إلي حركة التداعي الآلي للوعي،‮ ‬وقد اتجهوا‮ - ‬بعد تفكك الجماعة‮ - ‬إلي مسارات مختلفة،‮ ‬فاتجه فؤاد كامل ورمسيس يونان إلي التجريدية التعبيرية،‮ ‬فيما تخلي التلمساني نهائيا عن الرسم واتجه للإخراج السينمائي‮.‬
‮ ‬وعلي جانب آخر نجد أعضاء جماعة الفن المعاصر‮.. ‬التي بدأت تواجدها الفعلي في الحركة الفنية عام‮ ‬1948‮ ‬بعد تأسيسها بعامين بقيادة الفنان حسين يوسف أمين‮ - ‬تأخذ بالمنهج الثاني حول تداعيات الوعي الجمعي للطبقات الشعبية المسحوقة،‮ ‬عبر مظاهر الجهل والفقر والخرافة والكبت والعادات والتقاليد والموروثات السلبية التي يختلط فيها الدين بالسحر،‮ ‬والشعوذة بالتوهان في‮ ‬غيبوبة حلقات الذكر في موالد الأولياء وحفلات الزار‮ ‬،‮ ‬بكل ماتتضمنه من تناقضات عبثية،‮ ‬وكان أعضاؤها من تلاميذ حسين يوسف أمين في فاروق الأول ومدرسة الحلمية الثانوية أوائل الأربعينيات هم عبد الهادي الجزار،‮ ‬حامد ندا،‮ ‬سمير رافع،‮ ‬ماهر رائف،‮ ‬إبراهيم مسعودة،‮ ‬سالم الحبشي،‮ ‬كمال يوسف‮ ‬،‮ ‬محمود خليل‮.. ‬وهكذا رأينا أعمالهم المعروضة في معرض السريالية تعكس حالات تعبيرية بأساليب فنية مختلفة،‮ ‬لكنها تتفق في التعبير عن تداعيات واقع مأساوي متخلف خلال فترة الأربعينيات التي ظهروا خلالها،‮ ‬وأخلصوا لقضية ارتباط الفن بالمجتمع،‮ ‬ولدوره الإصلاحي متطلعين نحو المستقبل الأفضل للإنسان،‮ ‬وهذا ماتعكسه البيانات التي أصدروها مصاحبة لمعارضهم آنذاك،‮ ‬لذلك تحولت مساراتهم الفنية والفكرية بعد ثورة‮ ‬1952،‮ ‬وعلي رأسهم الجزار،‮ ‬الذي جعل أعماله في الخمسينيات والستينيات‮ (‬حتي رحيله‮ ‬1966‮) ‬تعبيرا عن آمال الشعب‮ ‬التي تبنتها ثورة يوليو وتماهت مع معتقدات الجماعة،‮ ‬ومن ثم اتجه كل منهم اتجاها فنيا وتعبيريا خاصا،‮ ‬باستثناء اثنين منهم‮: ‬سيمر رافع،‮ ‬الذي تحول إلي المفهوم السريالي‮ (‬السيكولوجي‮) ‬لحالة الإنسان الفرد،‮ ‬وحامد ندا،‮ ‬الذي تحول إلي حالة من الحلم الرومانسي أو الفنتازيا مع عرائس الأحلام وأطياف من الرموز الشعبية المتجذرة وفرق الموسيقي الجوالة في الشوارع،‮ ‬أما الآخرون فتحولوا إلي مسارات شتي،‮ ‬بين الغوص في التجريديات الحروفية مثل ماهر رائف وبين الهجرة خارج الوطن بالنسبة لأغلب الأعضاء الآخرين‮.‬
‮ ‬لذلك فإننا نصنف أعمال جماعة الفن المعاصر بأنها أهم من يمثل الشخصية المصرية في الفن،‮ ‬حتي بمن تطرف فيها نحو السريالية أو نحو الحروفية‮... ‬وهم بذلك كانوا فاتحي الطريق في هذا الاتجاه للجماعة التي لحقت بهم وهي‮ " ‬الفن الحديث‮"‬،‮ ‬وجمعت كلا من جمال السجيني وحامد عويس وجاذبية سري وزينب عبد الحميد وسعد الخادم ويوسف سيدة وآخرين،‮ ‬فضلا عن إنجازات الفنانين المستقلين بعيدا عن الجماعات الفنية،‮ ‬أمثال إنجي أفلاطون وتحية حليم وعفت ناجي وحامد عبد الله‮.. ‬وآخرين كثر لم يجدوا من يحنو عليهم كما يجد السرياليون اليوم‮!‬
‮ ‬فكيف نصنف أعمال جماعة الفن المعاصر ضمن المدرسة السريالية؟
كيف نضع لوحة‮ (‬طابور الجوع للجزار‮) ‬التي تعرض بسببها للاعتقال،‮ ‬ونضع لوحاته عن السلام،‮ ‬والميثاق،‮ ‬والسد العالي،‮ ‬وحفر قناة السويس،‮ ‬وتكنولوجيا الفضاء وعصرالعلم ضمن الأعمال السريالية؟ وقد عرضت جميعا بالمعرض فيما عدا حفرالقناة،‮ ‬وكيف نمثل إنجي أفلاطون في المعرض كسريالية،‮ ‬وقد أمضت سنوات عمرها تعبر عن السجينات في سجن النساء،‮ ‬والنسوة الكادحات في البيوت ومزارع الموز والبرتقال وحصد الغلال،‮ ‬حتي لوكانت رسمت عدة لوحات صغيرة وهي في السابعة عشرة من عمرها بحس سريالي في‮ ‬غمار علاقتها بجماعة الفن والحرية؟
‮ ‬وكيف نمثل منير كنعان‮ - ‬التجريدي العتيد‮ - ‬في المعرض كفنان سريالي،‮ ‬حتي لو كانت له في شبابه بعض تجارب تشخيصية بين الواقعية التقليدية‮ (‬الصحفية‮) ‬وبين الرمزية؟
‮ ‬وكيف نعتبر محمد راتب صديق سرياليا وهو من الأتباع المخلصين لفكر جماعة الفن والحياة بقيادة حامد سعيد،‮ ‬وكل أعماله تنم عن اتجاهه نحو الملحمية الأسطورية؟
‮ ‬أو نعتبر محمد القباني سرياليا وقد عرف برؤيته البريئة للكون كوحدة يتكامل فيها الإنسان مع الطبيعة والنبات والبحر وكافة المخلوقات؟
‮ ‬وكيف تحسب علي السريالية منحوتات عبد الهادي الوشاحي،‮ ‬وهي تقوم علي المنهج التكعيبي والحساب العقلاني الرمزي؟
وألاحظ أن هناك خلطا واضحا لدي منظمي المعرض بين السريالية والميتافيزيقية والأسطورية والرمزية‮ .. ‬فكم من أعمال معروضة لفنانين مثل أحمد مرسي وأحمد مصطفي وصلاح طاهر ورياض سعيد وغيرهم‮.. ‬لا تدخل في كلا النوعين اللذين ذكرتهما‮ (‬سيكولوجية الفرد وسيكولوجية الجماعة‮)‬،‮ ‬بل هي أقرب إلي التأمل الفلسفي والتعبير عن الكون والوجود وقضية الإنسان برؤية‮ ‬غرائبية،‮ ‬وهو اتجاه فني معروف في أوروبا والعالم وله مشاهيره مثل دي كيريكو،‮ ‬وكارلو كارا،‮ ‬وماجريت،‮ ‬وهنري روسو‮.. ‬قد يكون الحلم قاسما مشتركا بين جميع تلك الاتجاهات بما فيها السريالية،‮ ‬وقد تكون الأسطورة منبعا لبعضهم،‮ ‬إلي جانب الخيال الذي يمثل نقطة انطلاقهم جميعا،‮ ‬وهم يحطمون كل القوالب المتعارف عليها ويتوجهون بفنهم إلي الإنسانية جمعاء بنظرة عالمية،‮ ‬حتي وإن ضمت ملامح محلية وبوسعنا القول إنهم قد يتفقون رغم اختلاف توجهاتهم‮ - ‬مع دعوة جماعة الفن والحرية في أول بياناتها إلي‮ " ‬إطلاق حرية الخيال السجين‮".. ‬لكن ذلك لايكفي مبررا لاعتبارهم جميعا سرياليين،‮ ‬ذنا من منظمي المعرض أن زواره في الدول التي سينتقل إليها ليس بينهم نقاد للفن يستطيعون التمييز بين هذا وذاك،‮ ‬استمرارا من هؤلاء المنظمين في عدم اقتناعهم بوجود نقاد في مصر يحتكم إليهم،‮ ‬فلم يحاولوا الاستعانة بأحد للاسترشاد برأيه،‮ ‬مكتفين بموظفي قطاع الفنون التشكيلية وبعض من يمثلون الجهات المشاركة‮.‬
‮ ‬وأعتقد أن مشكلة هذا المعرض هي حشره عنوة في قالب السريالية،‮ ‬أو علي الأقل هي في اختيار عنوانه المضلل،‮ ‬ورأيي الشخصي أن أعماله جميعا تنضوي تحت عنوان عريض هو‮ " ‬تعبيرية بلاضفاف‮" ‬علي‮ ‬غرار كتاب‮ " ‬واقعية بلاضفاف‮" ‬لروحيه جارودي‮" ‬الذي جمع فيه بين فنانين من مدارس مختلفة ومنهم بيكاسو،‮ ‬لكن توجههم النهائي نحو الواقع‮.‬
‮ ‬وأظن أن اختيار المنظمين للمعرض لهذا العنوان يعكس نظرتهم إلي الفن المصري كامتداد للفن الغربي بل وابن شرعي له،‮ ‬وأظنهم‮ ‬غير مدركين لفكرة التلاقح الثقافي والحضاري التي سادت حركة الفن المصري طوال ثمانية عقود من القرن الماضي دون أن تفقد الحركة هويتها واستقلالها،‮ ‬إلا في ربع القرن الأخير الذي شهد ميلا للميزان الثقافي نحو الغرب مع تأسيس صالون الشباب ونظرا لأن السريالية مدرسة أوروبية صميمة ألقت بظلها علي حركات الفن في كثير من الدول علي امتداد القرن الماضي،‮ ‬فقد جعلت منها فرنسا رمزا للريادة الثقافية العالمية،‮ ‬يتم الاحتفال به تأكيدا لعالميتها ولتبعية الحركة الفنية في مصر والشرق لها خلال توجهها نحوالحداثة واللحاق بأوروبا وليس مصادفة أن تنظم فرنسا‮ - ‬في نفس توقيت جولة المعرض المصري للسريالية معرضا آخر للسريالية كذلك بمركز جورج بومبيدو بباريس،‮ ‬وتستضيف فيه أعمالا مصرية أيضا‮.‬
‮ ‬وأخيرا فإن من حق منظمي المعرض المصريين أن يبرموا اتفاقيات مع جهات خارجية لنقل تراث روادنا من الفنانين إلي دول العالم،‮ ‬ولا أظنهم من الغفلة لحد ألا يتخذوا الإجراءات والضمانات الكفيلة بعودة هذه الأعمال سليمة‮.. ‬لكن أمرين ليسا من حقهم‮: ‬الأول هو حرمان الشعب المصري وعشاق الفن ودارسيه من وجود هذه الأعمال في بلدهم طوال ثلاث سنوات،‮ ‬بدون اعتبار إلي أنها جزء أساسي من الذاكرة القومية في الفن،‮ ‬مما يستدعي استطلاع آراء الفنانين والنقاد والأكاديميين بشأن مثل هذا القرار‮.‬
‮ ‬الأمر الثاني هو أنه ليس من حقهم الانفراد باختيار الأعمال المشاركة بالمعرض دون الاستعانة بآراء النقاد وأساتذة الفن من ذوي الخبرة والجدارة،‮ ‬ووجودهم في مصر حقيقة مؤكدة سواء اعترف بها مسئولونا أم أنكروها‮.. ‬وكان من شأن ذلك‮ - ‬لو حدث‮ - ‬أن يصحح مفاهيمهم الملتبسة حول السريالية،‮ ‬وأن يساعد علي اختيار عنوان آخر للمعرض‮ ‬غير السريالية،‮ ‬يسمح بتمثيل كل هذه القامات الفنية فيه،‮ ‬وإذا ظلوا مصرين علي الانفراد بالرأي في مثل هذه الأحداث مستقبلا،‮ ‬فلا أقل من أن يتعلموا من جديد‮ - ‬وبكل تواضع‮ - ‬مذاهب الفن وتاريخها دوليا ومحليا عبر مرجعياتها العلمية برؤية نقدية تميز بين الخصائص المصرية والعالمية‮.‬


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.