عام مضى على الحراك الشعبى الذى اجتاح كل مدن السودان، والذى أفضى لتغيير نظام استمر جاثمًا على الأنفاس لثلاثة عقود، وضع خلالها يده على أدق تفاصيل المواطن الحياتية والسلوكية، وأحاطها بسياج متين لم يستطع أحد الفكاك منه، حتى مظهر الشارع العام وما ترتديه النساء من أزياء، والتى لم تكن يومًا مشكلة تحتاج أن تجعل الدولة تنصرف عن أولوياتها لمراقبة فتاة ترتدى بنطالا، فقد حسم المواطن السودانى هذا الأمر منذ زمن بعيد وبالفطرة. الحشمة ثقافة تلقائية للمرأة السودانية ميّزتها بين الشعوب، لم يكن الشعب بحاجة لوصى يفرض عليه أن يفعل كذا ويترك كذا، بقدر ما كان يحتاج لحياة كريمة تعيّشه فى أمان وتقيه شر الذل والحوجة، وفى حدود المتاح، لم تكن الأسرة تحلم بأكثر من أن يتعلم ابنها ويجد وظيفة محترمة، تثلج صدورهم وتشعرهم بأن تعبهم وكدهم واقتطاع اللقمة ليصرفوا على تعليمه، لم تذهب هباء منثورًا، بعد أن رفعت الدولة يدها عن التعليم ومجانيته المزعومة، وفى ظل تدهور البنى التحتية للمدارس الحكومية واكتظاظ الفصول الدراسية بأعداد تفوق المائة طالب للصف الواحد يعانون من كل شىء، مما جعل الحل فى التوجه للمدارس الخاصة والتى صارت هى البديل غير المناسب لأسرة محدودة الدخل تعانى الأمرين فى توفير رسومها باهظة التكلفة، وغالبًا ما تتقطع الأنفس فى إتمامها ويكون الطالب هو الضحية وهو الذى يواجه الطرد والإهانة والانقطاع عن تلقى الدروس لأيام، قد تمتد لشهور أو تنتهى عند هذا الحد. سائق ركشة وبائعة شاى وأما من كانوا أفضل حظًا واستطاعوا اجتياز كل الصعاب وتخرجوا فى الجامعة، تأتى الصدمة التى تقضى على الحلم المستحيل فى العثور على الوظيفة، فينضم لقائمة العاطلين أو الأشغال الهامشية دونه يختار منها ما يشاء ليزاحم من سبقوه مبكرًا بترك المدرسة وأكثر مهنة تستطيع استيعابهم هى سائق ركشة (توك توك)، أما الفتيات فكثيرًا ما كانت الظروف تضطرهن، أن «يأخذوها من قاصرها» ويمتهن بيع الشاى على الطرقات متعرضات لمضايقة شرطة المحلية ومصادرة معداتهن التى يسترزقن منها والتى يصرفن بها على أسرهن. الركشة وبيع الشاى ليسا هما الخيارين الوحيدين، ولكنهما شكلا مظهرًا جديدًا غير مألوف لشعب السودان انتشر فى السنوات الأخيرة عندما طفح الكيل به وازدادت معاناته النفسية والمعنوية، وهو يرى بأم عينه قومًا شعثًا غبرًا يحتلون طبقات اجتماعية لم يكونوا يحلمون بها يومًا ويتبوأون أرفع المناصب دون أن تسندهم أى من معايير التأهيل غير الانتماء للنظام، لتظهر ظاهرة تفصيل المواقع الوظيفية لشخص واحد ليشغل ما لا يقل عن خمس وظائف حكومية متمتعًا بكامل امتيازتها من حوافز ورفاهية.. وهكذا يحرم الأكثر أحقية للتوظيف، وهى أوضاع لم تطفئ نارها إلا أمواج الثورة الهادرة التى راهن المواطن عليها لتزيح الظلم بجلاء، حيث صارت الأسرة تصارع الفقر بكامل طاقتها وأفرادها، فقط من أجل رغيف الخبز الذى صار هاجسًا وبعبع الجوع يقترب منهم، ولكن أراد الله أن تسقط الأقنعة ويظهر المستخبى ليرى من كانوا يؤيدونهم من الشعب البسيط الذى كانوا يقودونه لحتفه باسم الدين وهم أبعد ما يكونون عنه، فذهبت السكرة وحضرت الفكرة، ففترة التغييب واحتمال الجوع من أجل (هى لله) قد ذهبت وحضرت المعدة الخاوية وانطلقت الشرارة وارتفعت الحناجر بأن تسقط بس حكومة الجوع... تسقط بس.. حكومة الظلم تسقط بس، ولم تفلح معها أى ترضيات بأن يذهب عبيد عن منصب ويأتى زيد بدلا منه. عاصفة غير متوقعة والآن وبعد عام مالذى تبدل داخل الأسرة السودانية البسيطة التى تقبع تحت مستوى الفقر، هل تسطيع الصبر على الجوع حتى تسترد الأموال التى اختفت بقدرة قادر، وهل تمتلك من شق الأنفس ما يصبرها حتى تتم تصفية الحسابات والتى صارت من أولويات المكلفون بقيادة الفترة الانتقالية حتى موعد الانتخابات.. هذه مشكلة مقلقة للأسرة ولكنها ليست الوحيدة فهناك مشكلة أدهى وأمر بدأت بوادرها فى الظهور، وقد تعصف بالنسيج الاجتماعى للأسرة السودانية، فقد ولد الكبت واتخاذ الدين الإسلامى ستارًا لتحقيق المآرب انصراف شبه تام عن كل ما يحمل اسم الإسلام عن الشباب، الذين يعتبرون هم رواد التغيير بشكل أقرب (لتشابه البقر عليهم) ولا يرغبون فى أن يفرقوا ما بين دين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم الذى بعث ليتمم مكارم الأخلاق، وبين الإسلام السياسى الذى اتخذ مطية لبلوغ أهداف دنيوية، بعيدة كل البعد عن الدين وارتكبت باسمه من المفاسد ما أنكرته جميع الأديان. أنا مش «كوز» الشارع السودانى اليوم اختلف شكلا ومضمونًا، وقد تحرر عدد كبير من الشباب عن أى وصاية أسرية تحت راية الحرية، التى لقنت لهم لغة لا فهما، فمشكلة السودان تكمن فى المسميات الفضفاضة التى تستغلها الكيانات فائقة العدد لتحقق بها أجندتها الخفية، ولا يهم ما يمكن أن يجر بالأسر المحافظة على عاداتها وتقاليدها، لمازق انفراط عقد أبنائها وخروجهم عن طاعتها.. اليوم لا يستطيع أب أو أم أو أستاذ أو أى كان أن يوجه شابًا فى ظل المدنية وبعد أن (جابوا حقهم) وفعلوا ما لم يفعلوه هم، بإزاحتهم للنظام المستبد الذى أذاقهم الأمرين، وعليه فهم أصحاب القول اليوم، ولا يحق لأحد إزداء النصح لهم، وإلا كان نصيبه من الردود.. أنت «كوز» منتفع..ماذا فعل الإسلاميون لنا....إن شاء الله يحكمنا الشيطان.. أين كنتم عندما فعل «الكيزان» كذا وكذا. تلك العبارات مصحوبة بتشنجات هستيرية قد تصل حدًا غير لائق.. وأذكر أن طلاب مدرسة كاملة اصطفوا لطابور الصباح وصاروا يهتفون ويرددون الشعارات الخاصة بالثورة لفترة دون أن يعترضهم المدير، وعندما تجاوز الأمر الحد المعقول تقدم أحد الأساتذة طالبًا منه أن يضع حدًا لذلك، حتى تبدأ الحصص، ولكن المدير أجابه بأنه لا يستطيع ذلك خوفًا من أن يتهم من قبلهم بأنه «كوز» فيوسعونه ضربًا.. وهناك الكثير من الممارسات الشاذة التى لا تشبه الفطرة السوية للمجتمعات المحافظة قد بدأت هى الأخرى تطفو على السطح والكل فى حيرة، وتبقى بعض الأسئلة المعلقة والتى يترقب المواطن السودانى إجابتها فى ظل الضبابية المحيطة به والشائعات التى لا نهاية لها المستقاة من الوسائط الاجتماعية والتى تُساهم فيها جهات مختلفة وخصصت لذلك مجموعات منظمة. ..هل حققت الثورة أهدافها وها هو العام الأول يمضى.. ومتى يجنى ثمارها ؟ وإلى أى مرد نحن واردون؟.. هل قامت الثورة من أجل بنطال وفتاة تحلم بأن تفعل ما تشاء دون رقيب أو حسيب وفتا لا كبير له يقف أمامه إذا ما حاد عن الطريق؟ وهل نسى الناس أن شرارة الثورة كانت رغيف الخبز والتطلع لحياة كريمة تحفظ ماء الوجوه؟ هذه الأسئلة سوف تجيب عليها الأيام وتثبت إذا ما كانت ثورة جياع أم ثورة حرية.