عندما ترصد تواجد أحد أبرز قيادات العدو فى موقع يمكنك ضربه بمنتهى السهولة فإنك لن تحظى بفرصة مماثلة لعام آخر.. هكذا خطط البنتاجون لإسقاط «الصيد الإيرانى الثمين» فى العراق عقب «اتفاق شرف» سابق عقده معه بعدم استهدافه خلال الحرب ضد داعش، إلا أنه بعد إلغاء الرئيس الأمريكى دونالد ترامب للصفقة النووية عام 2015 وانهيار داعش بات «سليمانى» العدو الأول للبيت الأبيض. قصفت طائرة بدون طيار أمريكية، الجمعة الماضى، سيارة كانت تقل عددًا من القيادات العسكرية التابعة لإيران وأذرعها من الحشد الشعبى العراقى وحزب الله اللبنانى، ما تسبب فى مقتل أخطر رجل عسكرى إيرانى، قائد فيلق القدس، الجنرال قاسم سليمانى، ونائب رئيس هيئة الحشد الشعبى العراقى،أبومهدى المهندس وهما فى طريقهما إلى مطار بغداد. وأعلنت وزارة الدفاع الأمريكية «البنتاجون» أن العملية جاءت بأوامر مباشرة من الرئيس الأمريكى دونالد ترامب شخصيًا، وهو ما يعنى أن واشنطن خططت وكُتب لها النجاح فيما أرادت وهى تتحمل تبعات الموقف بالكامل، حيث نُفِّذَت عملية اغتيال سليمانى بعيدًا عن أى وكلاء، واستهدفت «غرز خنجر» مباشرةً فى قلب النفوذ الإيرانى. وكان «سليمان» قائد فيلق القدس التابع للحرس الثورى رمزًا للجمهورية الإسلامية الإيرانية، وفعليًا كان ثانى أقوى شخصية بعد القائد الأعلى آية الله على خامنئى، ولذا فإن قتله كان ضربة فى سويداء القلب ضد قوة إقليمية كبرى، فالقوات المسلحة الإيرانية (نصف مليون جندي) هى أقوى تشكيل عسكرى تواجهه الولاياتالمتحدة منذ جيش التحرير الشعبى الصينى منذ أكثر من 60 عامًا فى كوريا. ويمثل سليمانى رجل الظل الإيرانى فى المنطقة بالنسبة لطهران، فهو لم يكن قائدًا عسكريًا نافذًا بالمعنى التقليدى، فالرجل على مدى عقود كان يمثل حجر الزاوية وراء محاولات إيران بسط نفوذها فى المنطقة أو كما يطلقون عليه «تصدير الثورة الإسلامية» إلى شعوب المنطقة. فى المقابل، هدد المرشد الأعلى لإيران على خامنئى الولاياتالمتحدة بما وصفه ب«الانتقام العنيف» قبل أن يعقد مجلس الأمن القومى الإيرانى، مساء الجمعة اجتماعًا بحضور «خامنئى» توعد فيه بالانتقام من قتلة قائد فيلق القدس التابع للحرس الثورى الإيرانى، وقال «الانتقام الصارم ينتظر المجرمين الذين نفذوا عملية اغتيال سليمانى وأمريكا ثأر كبير لدماء سليمانى فى الوقت والمكان المناسبين، ودخلت إيران فى حداد لمدة 3 أيام». ويبدو أن العراق هو المسرح الأكثر ترجيحًا لهذا الرد المتوقّع، خصوصًا أن الحكومة هناك مقربة من إيران دون منازع تقريبًا، مع تواجد ميليشيات كبيرة تدين بالولاء لإيران. وبعيدًا عن التصريحات الفضفاضة التى تتوعد بالويل والثبور كيف يمكن أن ترد إيران؟ جاءت الضربة الأمريكية على خلفية قيام عشرات المحتجين، الثلاثاء الماضى، باقتحام حرم السفارة الأمريكية فى بغداد، وإضرام النيران فى بوابتين وأبراج للمراقبة، قبل أن تتمكن قوات مكافحة الشغب العراقية من إبعادهم إلى محيط السفارة، وجاء الاقتحام ردًا على غارات جوية أمريكية، يوم 29 ديسمبر الماضى، استهدفت مواقع لكتائب «حزب الله» العراقى، إحدى فصائل «الحشد الشعبى»، بمحافظة الأنبار(غرب)، ما أسفر عن سقوط 28 قتيلًا و48 جريحًا بين مسلحى الكتائب. والحقيقة أن تسارع ردود الأفعال تسبب فى تجاوز الخطوط الحمراء التى وضعتها واشنطنوطهران بشأن الصراع المستعر بينهما منذ عقود قد يتسبب فى خلط كل الأوراق. ربما تلجأ إيران إلى توجيه ضربة للقواعد الأمريكية المنتشرة بالقرب من إيران؛ سواءً فى العراق أو فى عدد من دول الخليج، لكن هذا الأمر قد يتسبب فى حرب شاملة ضد إيران لا يمكن أن تتحمله المنطقة برمتها، خاصة أن اغتيال سليمانى ومن معه كان أمرًا وقائيًا -بحسب واشنطن- التى قالت إنها قامت بهذا الأمر خوفًا من كارثة كبرى كان قائد فيلق القدس ينوى فعلها وهى (اغتيال عدد من الدبلوماسيين الأمريكيين فى العراق). وفى تلك الحالة سيكون الرد الأمريكى مزلزلًا وقد ينهى بسقوط «طهران» وإشعال حرب عالمية، وهو أمر يبدو صعبًا. من جهة أخرى، قد تستهدف الفصائل الشيعية الموالية لإيران مصالح واشنطن فى الشرق الأوسط كاستهداف ناقلات نفط أمريكية فى الخليج العربى أو ضرب بعض المصالح الأمريكية المتواجدة فى العراق أو فى الدول المحيطة بإيران، أو شخصيات أمريكية او دبلوماسية، وهى الخطوة التى ستعمل على «تغيير قواعد اللعبة بالكامل فى المنطقة» وتلك الخطوة تضمن لإيران الانتقام والظهور بمظهر الظافر أمام شعبها ولن تثير البيت الأبيض لدرجة انتقام قد تطول الحدود الإيرانية نفسها لكنها قد تشعل حربًا إقليمية لاحقًا. وربما تدفع إيران بوكلائها فى سوريا أو اليمن أو فلسطين أو لبنان لتوجيه ضربة لمن تعتبرهم أعداءً وموالين للبيت الأبيض أو من المصالح الأمريكية وربما يستهدف حزب الله بعض المناطق فى دولة الاحتلال الإسرائيلى وقد تقوم بعض المليشيات التابعة لإيران فى سوريا بالإقدام على تلك الخطوة، وبالفعل إسرائيل تخشى تلك الخطوة، حيث قطع رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو زيارته الخارجية إلى اليونان، فور الإعلان عن اغتيال سليمانى. وذكرت الإذاعة العبرية أنه بعد اغتيال سليمانى أعلنت قوات الجيش حالة التأهب فى شمال البلاد على الحدود مع لبنان، وأُغلق متنزه جبل الشيخ أمام السياح، لكن العقلية الإيرانية تميل لما تعتبره «القصاص» بنفسها ولا تفرض الرد عبر الوكلاء حتى لا تبدو ضعيفة. وإذا أقدمت إيران على «خيار شمشون» أى الرد باستهداف مباشر للقوات والمصالح الأمريكية فى المنطقة واشتعلت مواجهة مفتوحة بين الطرفين، فإن مصير ترامب وقتها سيكون معلقًا بالمدى الزمنى الذى قد تستغرقه تلك المواجهة وليس بنتيجتها النهائية، وإذا نجحت واشنطن فى الإطاحة بالنظام الإيرانى عن طريق القوة وعدم الدخول فى مواجهة طويلة الأمد، سيصب ذلك فى صالح إعادة انتخاب ترامب وسيتحول لبطل قومى،أقدم على ما أحجم عنه أوباما وجورج بوش الابن. أما فى حالة سقوط قتلى أمريكيين بأعداد كبيرة فى المواجهة وتحولها إلى كر وفر، فسيكون الديمقراطيون فى موقف أقوى داخليًا، حيث سيكون ترامب ذلك الرئيس الضعيف الذى تردد فى الرد عسكريًا حتى وضع الولاياتالمتحدة فى موقف أضعف وتسبب بتغيير استراتيجيته لأسباب انتخابية فى الإضرار بالمصالح الأمريكية وتقويض النفوذ الأمريكى فى الشرق الأوسط. أما السيناريو الأفضل بالنسبة لترامب فهو لجوء طهران إلى عدم الرد التصعيدى والرد بشكل محسوب – وهذا هو السيناريو الأقرب قياسًا على سياسة حافة الهاوية التى تتبعها إيران دون الانزلاق إلى الهاوية فعليًا – كأن تلجأ طهران إلى قيام حزب الله بإطلاق بعض من صواريخه تجاه إسرائيل أو استهداف السعودية من خلال الحوثيين، وبالتالى يمر قتل سليمانى دون الانزلاق إلى الحرب فعليًا بين الجانبين. وبحسب محللين، فإن طهران – كعادتها- ستبتلع «المرارة» وستنتظر لتختار الوقت والزمان المناسبين وطريقة الانتقام المناسبة وقد يكون الرد فى غرب إفريقيا وربما أمريكا اللاتينية لإرسال رسالة بأن بإمكانها الوصول للأمريكان فى أى مكان، وهو ما لن يرقى إلى حرب بمفهومها الواسع وسيقف فى منتصف المسافة بين الحرب الباردة والساخنة. ولا يبدو أن ترامب الذى أخذ قرار التصفية فكر كثيرًا فى ردود الأفعال، حيث اتخذ قراراً إبان تواجده فى إجازةٍ بمنتجعه فى فلوريدا، ولم يشرح كيف ولماذا قرر ذلك كما هو معتاد فى تلك المواقف واكتفى بمجرد تغريدةٍ للعلم الأمريكى تاركًا البنتاجون ليطلق الإعلان، وذلك بسبب مغادرة المفكرين المستقلين لفلك ترامب حيث تحرك الرئيس الأمريكى غرائزه، خصوصًا كراهية لسابقه «باراك أوباما» ومسحه كل مفردات الاتفاق النووى حيث صار خنق إيران اقتصاديًا ضرورةً مركزية فى السياسة الخارجية الترامبية، حيث يدفع ترامب – الذى يجهز لفترة انتخابية فى نوفمبر- إلى تقديم «سليمانى» كصيد ثمين للأمريكيين ليغطى على ظفر أوباما برأس أسامة بن لادن. من جهة أخرى، لن تكون إيران هى الوحيدة التى تبحث عن الثأر، فكان من بين أولئك الذين لقوا حتفهم فى السيارة التى كان يستقلّها سليمانى أبو مهدى المهندس، قائد المجموعة شبه العسكرية الموالية لإيران والمعروفة ب«كتائب حزب الله»، التى قد يستأنف مسلحوها هجومهم على السفارة الأمريكية فى المنطقة الخضراء ببغداد، حيث نفذوا توغلًا محدودًا فى وقتٍ سابق من هذا الأسبوع. وسيتمثل الرد الإيرانى الأكثر ترجيحًا فى تصعيد مساعى البلاد لإنهاء الوجود الأمريكى العسكرى فى العراق، مُتحرِّكةً فى ذلك المسار من خلال الحكومة العراقية والقوات شبه العسكرية الموالية لإيران. وكانت القيادة العراقية، المتوازنة عادةً ما بين واشنطنوطهران، بالفعل غاضبة من مهاجمة الولاياتالمتحدة بصورة أحادية لقواعد كتائب حزب الله يوم 29 ديسمبر الماضى. والسؤال: هل أصبحت المصالح الأمريكية أكثر أمانا بعد العملية؟ لا يبدو ذلك إطلاقًا، وهو ما ظهر فى توجيهات الخارجية الأمريكية للمواطنين الأمريكان «بمغادرة العراق فورًا» وتصريحات وزير الخارجية مايك بومبيو بأن «واشنطن لا تسعى لحرب مع إيران» وأن إدارة ترامب «لن تسمح بتعريض الأرواح الأمريكية للخطر»، كما وصل 750 عسكريًا من قوات المارينز إلى السفارة الأمريكية فى بغداد الجمعة الماضى، وهو مؤشر آخر على توقع الجانب الأمريكى أن تظل السفارة هدفًا للانتقام. وفى العراق، توجد قواعد أمريكية ونحو 6 آلاف عسكرى أمريكى فى مرمى أسلحة الحشد الشعبى، بخلاف القوات الأمريكية الموجودة فى سوريا والكويت والأسطول الخامس فى البحرين وحتى الوجود الأمريكى فى أفغانستان لا يمكن استبعاد أى منها كهدف للانتقام لمقتل سليمانى، كما أن مضيق هرمز وناقلات النفط وحركة السفن فيه قد تمثل هدفًا آخر أمام الجمهورية الإسلامية.