بداية، لا أستطيع أن أخفى دهشتى واستغرابى من إقدام أحد «المراهقين»–وفقًا للتصنيف العمرى- على أن يكون إبداعه من خلال «كتاب مطبوع»، على اعتبار أن هذا الجيل يمقت كل ما هو مطبوع، ولطالما صدعوا رؤوسنا بأن هذا العصر هو نهاية عصر الكلمة «المطبوعة» لصالح «الإلكترونية»، إلا أن عمر فتحي -الطالب بالصف الثاني الثانوي- يمسك بقلمه ودفتره، يتلفت بعينيه فيرى الشباب والبنات يلهون ويتناقشون بل ويتشاجرون في «الحصة الثالثة الفارغة».. يكتب عنهم وعن نفسه، يكتب عما يراه وعما يحلم به بنفس المشاعر الجياشة للمتكلم وبلغته، يخرج ما يكتبه مضغوطًا ومحرفًا كالأحلام. الأحداث لا تمت للواقع بصلة، ولكن عندما تقرأها تشعر بأنها وليدة اليوم، تحمل وساوس هذا الجيل وأوهامهم ومخاوفهم، هم بالطبع يحلمون ولكن خوفهم يحول الواقع لكوابيس يستلهمها عمر فتحي في روايته الأولى التي رغم ما قد يصيب القارئ في بدايتها من صدمة اختلاف اللغة، إلا أنه مع التقدم في القراءة سيعتاد اللغة ويألفها. ربما تمثل رواية «من دفتر نهايتي» للشاب عمر فتحي -صاحب ال 16 عامًا- صوت جيل ما بعد الألفية الثالثة والذين كانوا أطفالاً منذ سنوات قليلة مضت، فشبوا عن الطوق سريعًا ليصبحوا شباب اليوم ومبدعيه. هذا الجيل الذي يستخدم «المحمول» فى تواصله مع الآخرين ويستخدم برامج وتطبيقات «السوشيال ميديا» أو التواصل الاجتماعي.. تلك الوسائل التي لها لغتها الخاصة ومن إنتاجهم.. لغة عامية و»فرانكو أراب» أحيانًا، حيث السلاسة والكلمات السهلة التي تمر إلى القلب قبل العقل، ومن هنا استلهم عمر لغة روايته من تلك اللغة الجديدة التى يتكلمها ويتبناها جيله. لا يخفى على القارئ أن هذا الجيل يتبنى الكتابة عن الديستوبيا «المدينة الفاسدة».. مدينة العنف التي يتعلمونها من الأفلام ومن الألعاب الإليكترونية، فلا غرابة أن نراه –وهو الذي ما زال طالبًا بالصف الثاني الثانوي- وقد تأثر بكل ما يحيط به من عنف، بل ورعب أحيانًا، حيث يكتب تجربته فى رواية قد تبدو بوليسية للوهلة الأولى، لكنها -وفى حقيقتها- رواية مفزعة مليئة بالهلاوس والكوابيس، بل فى لحظات تكتشف أن الكاتب نفسه لا يضع حدًا ما بين الواقع والهلوسة وكأنه لا يراه. هو صادق جدًا فى حديثه بصيغة المتكلم وكأنها تجربته الذاتية، والحقيقة أنها تجربة جيل كامل.. جيل مختلف في تفكيره نظرًا لاختلاف النشأة.. جيل التكنولوجيا بكل مميزاتها وعيوبها ومخاوفها. عمر - كأى مؤلف- يستلهم من واقعه وعالمه المنظور الكثير من تجاربه التي يمثلها ويصورها لنا حتى ولو كانت في صورة فانتازيا أو رعب، وهو هنا يصور لنا عالمه وينقله لنا بدقة، ولعل أية تشوهات تراها في الأسلوب أو اللغة، هي في الحقيقة تشوهات العالم المحيط به، حتى أنه اختار لغة ليست العامية التى نعرفها، بل العامية التى يعرفونها هم، وأقصد ب»هم» جيل الشباب ما تحت 18 سنة، إنهم ينحتون لغة جديدة بلا قواعد ولا أسس، فلن تجد قاعدة إملائية ولا نحوية، ولا حتى عامية اعتدنا عليها.. فهل تلك اللغة التى تجرأ عمر وكتب بها، هي المصرية التى أرادها بعض أساتذة الأجيال السابقة؟ كان الخلاف وقتها أخلاقيًا وحضاريًا ، فهل انتصر هؤلاء لجيل د. لويس عوض؟ أم ما زالت السيطرة للدكتور طه حسين والأستاذ العقاد والكثيرين مثلهم؟ هل بعد انتشار وسائل التواصل الاجتماعي ستصبح لغة عمر فتحى وجيله هى المسيطرة على الأدب؟ أم سيضطر إلى تبنى الرواية بالفصحى بعد نشر أول كتاب له؟! بالفعل الكتاب به الكثير من الأخطاء اللغوية تبعًا للقواعد الحالية للغة العربية الفصحى وحتى العامية، لكن من قال إنه يكتب بهما؟..هو يكتب بلغة ما زالت فى طور التجربة، يكتب أدبًا كحوار السينما، أدبًا تبنى جزءًا منقحًا منه بعض الكتاب الشباب الأكبر فى قصصهم ورواياتهم، وضعوه على استحياء بين سطور ما يكتبون، أما كاتبنا الشاب فيكتب كل كلماته بنفس اللغة، إنها لغة تذكرنا بمشهد كوميدي من فيلم «إسماعيل يس في مستشفى المجانين»..حيث «الكلمة» التى فشل كل ممثلو الجيل القديم في كتابتها (صوت حوافر الحصان وهو يجري)، فهل نجح عمر وجيله في كتابتها؟ وهل سينجحون فى نحت لغة أدبية جديدة بنفس رونق وجمال اللغة الأصلية؟! هل ستكون رواية عمر فتحى «من دفتر نهايتى» هى من إرهاصات الموجة الجديد للكتابة؟ هل يمكن أن يكونوا أحد أسباب عودة القراء للوسائل المطبوعة بين شباب الجيل الجديد؟ وهل استعانة عمر بترقيم فصول الرواية بلا عناوين يجعلها كمشاهد السيناريو؟ وهل سنراه يومًا كاتباً للسيناريو والحوار؟ هل النهاية التقليدية، وأيضاً استعانته بأشعار والده المهندس فتحي الزينى، هما نوع من محاولة نيل الاعتراف من الأجيال السابقة، أم تحييدها؟ يبقى في النهاية أن تجربة عمر، مليئة بالأسئلة والألغاز المحيرة تمامًا كأحداث روايته الغامضة، يخطئ من يظن أنه يعرف حل اللغز، لكن المؤكد أننا أمام جيل جديد ولغة مختلفة، لكن يبقى السؤال الأهم هو: هل يستطيع هؤلاء الكتاب الصغار الاستمرار في طريقهم المنشود، أم هى ظاهرة ما تكاد تظهر، إلا وتختفى تحت وطأة تطورات القرن ال 21؟ الإجابة حتمًا لن تتحدد فى المستقبل القريب.