تقع رواية «أولاد حارتنا» فى 580 صفحة، وقد ضمّتْ 114 لوحة، وكانت قد نُشرتْ مسلسلة بالأهرام عام 1959، وحيل بينها وبين الذيوع والانتشار، فسافرت لتتنفس فى لبنان؛ فصدرتْ عام 1962 حاملة الرقم (22) من أعمال نجيب محفوظ، التى كانت قد بدأت بمصر القديمة عام 1932، وبالمجموعة القصصية «همس الجنون» إبداعًا عام 1938، وفى عام 2017 أصدرتْ دار الشروق الطبعة السابعة عشرة منها استمرارًا لبداية طباعتها بمصر بالدار نفسها منذ عام 2006 فى طبعات متتالية . وقد صرح نجيب محفوظ فى الافتتاحية عن حكاية حارتنا، أو حكايات حارتنا : أنه لم يشهدْ هذه الحكايات إلا فى طورها الأخير، وإنما تلقاها من روايات الناس المتعاقبة على مقاهى الأحياء؛ حيث كان ذلك تنفيسًا عن نفوسهم، وأن الرواية تنتصر للدين، وتؤكد ضرورته فى الحياة إلى جانب العلْم؛ لأن سيطرة أحدهما، أيْ أحد الجانبين وحْده، على الحياة خطر كبير، مطالبًا الجميع بقراءة الرواية بعد التخلص من غشاوة الاتهام، مؤكدًا أن القصص القرآنى هو أوّل ما شكّل عنده مفهوم الفن الروائى، من حيث مضمونه السامى، وأسلوبه المتفرد. لقد أثارت رواية «أولاد حارتنا» لنجيب محفوظ من الجدل والخصام ما لم تثرْه رْواية من رواياته، بل ما لم تثرْه أعماله القصار والطوال جميعها، على أهميتها وأهمية ما دار حولها من نقد ودراسات بالعريية وبغير العربية، ومما شرفْت به أننى أسهمْت فيه إسهامًا متواضعًا منذ عام 1965، ثم فى كتبى، وعلى رأسها كتابى «نظرية السرد بين جيليْ طه حسين ونجيب محفوظ». وكان مردّ تلك البلبلة كلها إلى فساد التأويل، وإلى نقْص فى أدوات التلقّى الفنى الصحيح للعمل الأدبى،حيث خلط بعض المتلقين بين السرد التاريخى النابع من الواقع الحقيقى، والمرتبط به ارتباطًا حرْفيًا، من ناحية، والسرد التخييلى، من ناحية ثانية، حيث يحاول المبدع طرح رؤيته ثم افتقروا، من ناحية أخرى، إلى معرفة مفاتيح فك الرموز، والشفرات، والعلامات، ومهارة قراءة النص الأدبى قراءة صحيحة. وهنا نجد من الأهمية الرجوع إلى ما كتبه نجيب محفوظ حين أكّد أنه كتبها على أنها «رواية»، بينما قرأها البعض على أنها «كتاب»، وشتان ما بين الرؤية الفكرية فى الحالتين. ومن حسن الحظ أن شهد العام الماضى صدور كتاب (أولاد حارتنا.. قراءة فى المصادر)، للناقد «أبو القاسم رشوان»، الذى صدّره بإهداء إلى نجيب محفوظ، ينير الطريق إلى قراءة «أولاد حارتنا»: «إلى إمام الدّعاة، ويقين الإيمان وهموم الإنسان، الفيلسوف، أديب الفنان، لم يكن مجرد سارد حكايات، لكن أصحاب الفلسفة قليلون، إن فلسفة الرجل وشاعرية لغته، والقضايا الإنسانية، والمبادئ السامية، والمثل العليا التى ظل يبحث عنها، هى سر خلود أدب نجيب محفوظ». اتّضحتْ فى الكتاب مصادر رواية «أولاد حارتنا» المتمثلة فى الكتب المقدّسة: التوراة، والإنجيل، والقرآن الكريم، وفى كتب المفسّرين، وفى كتب التاريخ، وفى السّير. وقد أحسن الناقد صنعًا حين جعل، بعد التمهيد الموجز، تقديمًا بقلم نجيب محفوظ ذاته، بما يوضّح مفهوم الحارة فى رؤيته الفنية، من حيث كونها: حارة، ووطنا، ووطنا أكبر للبشرية، ولذا كانت الحارة مدخلا لتجربته الفنية، دون تكرار، كما توهم البعض، مؤكّدًا أن «آفة حارتنا النسيان»، ولذا « فقد آن لها أنْ تبْرأ من هذه الآفة».... «حارتنا! حارتنا العجيبة ذات الأحداث العجيبة، كيف وجدتْ ؟ وماذا كان من أمرها ؟ ومن هم أولاد حارتنا؟». إن الثقافة التراثية العميقة والعريقة عند الناقد «أبو القاسم رشوان» تناغمتْ مع الثقافة التراثية العميقة والعريقة عند الفيلسوف «نجيب محفوظ»، فكانت الفصول حاملة مفاتيح قراءتها من القرآن الكريم، منذ الحكاية الأولى، حكاية أدهم، بالرجوع إلى الكتب المقدسة الثلاثة، فكان عنوان الفصل الثانى من تلك الحكاية «وخلق منها زوجها»، وكان عنوان الفصلين التاليين: «لأقعدنّ لهم»، و«فوسوس لهما»، و«اتْل عليهم نبأ ابنيْ آدم»، و«فطوّعتْ له نفسه قتْل أخيه»، وفى الباب الثانى حملت الفصول المفاتيح الآتية: «فاستغاثه الذى من شيعته»، و«أورثكم أرضهم وديارهم»...إلخ. كان نجيب محفوظ شديد الحزن على الأمّة التى فرّطتْ فى ثوابتها الدينية والقيمية، مقررًا أن محمدًا لمْ يمتْ، وإنما شاخت أمّته. وكان الناقد مؤلف الكتاب محقًا فى اصطفائه من شخصيات الرواية ثلاث شخصيات: أدهم، وجبل، وقاسم، وذلك لتقارب المصادر التى اعتمد عليها الكاتب، مبينًا مرامى العمل وأهدافه، ومنها: أهمية الديمقراطية، والوصايا العشر قوام كل الديانات، وهى تقوم على البر والعدل والوفاء وحسن المعاملة والصبر والتواضع والنهى عن الظلم، وعن البغى، وكيف تكون رحمة الخالق فى مواجهة ظلم المخلوق، كما توحى الرواية بالنهى عن صفات السوء، والدعوة إلى القوة فى مواجهة الظلم، وغيرها من القيم. وكان المؤلف محقًا فى ختام قوله: «معذرة فيلسوف العرب وحكيم المسلمين نجيب محفوظ، حقك علينا «باود عمى»، لقد اعتذرتْ لك كل دول العصر». وكان أحمد كمال أبو المجد محقًا فيما كتب بالأهرام فى التاسع والعشرين من ديسمبرعام 1994، وفيما كتبه فى يناير من عام 2006، فى قراءته هذا العمل الفنى وتفسير رموزه. بل على الأصح تصحيح فهمها. حتى كانت الكلمة الأخيرة فى السطور الأخيرة فى رواية «أولاد حارتنا» قبل انقضاء عام 1959 : «.. وكانوا كلّما أضرّ بهم العسف قالوا: لا بدّ للظلم من آخر، ولليل من نهار، ولنرينّ فى حارتنا مصرع الطغيان، ومشْرق النور والعجائب».