(ليست «أولاد حارتنا» مجرد رواية يطرح فيها نجيب محفوظ أسئلته حول العدل والحرية، إنها حكايتنا مع السلطة، كل سلطة، حكاية مجتمعنا نفسه وشوقه للتفكير خارج الصناديق الضيقة.. بدت الرواية على مدى أكثر من نصف قرن كنزا سياسيا، تتصارع عليه كل القوى السياسية، والدينية وتحاول توظيفها لمصلحتها الخاصة، ورمزا لمعارك ثقافية وسياسية واجتماعية، تتخذ شكل جديدا، وشملت ساسة، ورجال دين، وأدباء، وقتلة، ومؤسسات، وتبلغ ذروتها بمحاولة اغتيال نجيب محفوظ على يد شاب لم يقرأ حرفا باستثناء فتاوى شيوخه).. كانت تلك تقديمة الكاتب الصحفي محمد شعير في مستهل كتابه «أولاد حارتنا.. سيرة الرواية المحرمة» الصادر مؤخرا عن دار العين للنشر، وقد جاء الكتاب في أكثر من 300 صفحة من القطع الصغير وقد صمم غلاف الكتاب الفنان أحمد اللباد. عبر رحلة بحث وسط مئات الوثائق والدوريات يأخذنا «شُعير» عبر الزمن بأسلوب الفلاش باك آخذا في وصف المناخ الاجتماعي والسياسي المسيطر على الأجواء حول العالم وفي مصر خصوصا في نهاية خمسينيات وبداية ستينيات القرن الماضي فمن واقعة سطو على بيت الشاعر أحمد شوقى قام بها لص مجهول، ومظاهرات حاشدة في العراق ضد الرئيس العراقي الأسبق عبد الكريم قاسم وخطاب الرئيس المصري الأسبق جمال عبد الناصر الذي ألقاه في «رشيد» ضمن الاحتفال بذكرى انتصارات المدينة على الجيش البريطانى 1807 وتركيزه في خطابه على تصفية الإقطاع وتوزيع الاراضي الزراعية على الفلاحين، في حين كان الوضع على الصعيد الدولى يشيد بأول زيارة لزعيم سوفيتى الى الولاياتالمتحدةالأمريكية ووصول أول صاروخ روسي إلى القمر مدشنا بذلك عصرا جديدا من العلم والمعرفة وغيرها من الأحداث السياسية والاجتماعية، وصولا إلى التنويه المنشور في الصفحة الأولى من جريدة الأهرام معلنا عن نشر أول حلقة من رواية أديبنا العالمى نجيب محفوظ الجديدة في حينها «أولاد حارتنا»، والتى مهدت له الصحيفة أيضا فيما يشبه حملة دعائية. ■ لا حياء فى الأدب في بداية كتابه يتنقل «شعير» بين صفحات الدوريات والمجلات راصدا رحلة «أولاد حارتنا» في الصحافة وبدايات تداول اسم الرواية المنتظرة لنجيب محفوظ، راصدا الحفاوة والمتابعة التى لاقها لافتا إلى أن الاهتمام الإعلامى الحاصل حينها لم يكن منصبا على الرواية الجديدة بل على عودة محفوظ اللى الكتابة من جديد بعد توقف طويل أعلن خلاله أكثر من مرة اعتزاله الأدب تعددت خلاله مبرراته لهذا الصمت أو التوقف الذي دام طيلة خمس سنوات أسماها «سنوات اليأس» أو «سنوات الجفاف» (1952- 1957) بعد أن كان «محفوظ» قد أنهى روايته «الثلاثية» ورفض ناشره عبد الحميد جودة السحار نشرها لحجمها الكبير وهو ما قاله محفوظ للغيطاني «أذكر الفترة التى تلت رفض السحار لنشرها بأسى، كانت صدمة فظيعة، بل إهانة، خاصة عندما قال لي لحظة رؤيتها: إيه الداهية دي؟!»، سليمان فياض حكى الواقعة بطريقة أخرى: «قال محفوظ للسحار: ألريد أن أكتب رواية عن مصر، استحسن السحار الفكرة وراهن محفوظ أنه سيكتب هو أيضا عن مصر.. فاتفقا أن يلتقيا بعد سنة .. أيهما يستطيع أن ينتهى أولا.. السحار انتهى قبل الموعد المحدد ودفع روايته للنشر، بينما عطل رواية محفوظ» وأن إحساس محفوظ بالصدمة من خديعة السحار دفعته للتوقف عن الكتابة علاوة على تزوجه عام 1954 فأصبح فجأة مسئولا عن والدته وزوجته وشقيته التى توفي زوجها وترك لها أبناء فكان لابد من إيجاد مصدر دخل اضافي فكانت السينما هي ملاذه.. فمضت فترة الصمت «الروائي» والتوقف عن كتابة الرواية حتى جاءته فكرة رواية «أولاد حارتنا» عام 1957 لتحيي في داخله الأديب الذي ظن أنه مات. ■ عبد الناصر يسأل.. و رسالة غاضبة يرصد «شُعير» في إيجاز كيف وصلت رواية «أولاد حارتنا» إلى جريدة الأهرام حيث نشرت هناك مسلسلة في حلقات يومية وكيف أثارت الرواية ضجيجا بالغا خاصة مع نشر الحلقة السابعة عشر بدأ بشكاوى ومطالبات للأزهر بالتحرك لوقف نشر الباقي منها وهو ما وصل بدوره إلى عبد الناصر الذي سأل هيكل بدوره مرتين عن حكاية الرواية ثم قبل استكمال نشرها، ولفت المؤلف إلى استشعار هيكل مبكر ما سيجره نشر الرواية من تداعيات كان من بينها هجوم عنيف على الرواية طال في جانب منه «الأهرام» كان بدوره أحد الدوافع التى حدت ب إلى أن يكتب بعد أسبوع م بدأ نشر «أولاد حارتنا» مقالا قصيرا بعنوان «حرية التعبير» كان أشبه ببداية «هجوم مضاد» أظهر فيه دفاعا حارا عن حرية الأدباء والكتاب كما أتاح بعدها مساحات لمقالات القراء تتحدث عن مشكلات المجتمع وتنقد النظام بلطف ودون عدونية. كما رصد المؤلف بداية المشكلات التى صاحب نشر رواية «أولاد حارتنا» ومن ضمنها أشياء معلنة وأخرى غير معروفة جرت في الكواليس جاء بعضها على لسان محفوظ نفسه ظهر خلالها قيام بعض الأدباء بتحريض الأزهر ضد محفوظ باعتبار أن الرواية تتضمن كفرا صريحا وأن بعض الشخصيات الموجودة فقي الرواية ترمز للأنبياء. وقد لفت «شُعير» إلى أن عريضة الاتهامات التى وجهها محفوظ ليست دقيقة فيما يتعلق: ب أين، ومن، ومتى بدأ الهجوم؟، كما أشار إلى أن جريدة «الجمهورية» لم تهاجم الرواية - على عكس ماحكى محفوظ – بل إن يوسف السباعى كان من أوائل المدافعين عنه عندما نشر مقالا في يومياته في الصحيفة بعنوان «نجيب محفوظ ولوم القراء» وأن «السباعى» لم يكن في نيته – كما قال – أن يعلق على رسالة القارئ المنشورة في مجلة «المصور» لولا أنه سمع «أن بعض الجهات ترى وقف نشر القصة فشعر أن المسألة أكثر من مجرد رسالة قارئ وأن تفكيرنا يجب أن يكون أوسع وصدورنا يجب أن تكون أكثر رحابة». ■ زنزانة الأسلوب الرمزى و تربية المواطن يشير المؤلف إلى يوم 25 ديسمبر 1959 وهو اليوم ذاته الذي يوافق ندوة محفوظ الأسبوعية في «كازينو الأوبرا» والذي شهد نقاشا ساخنا حول رواية «أولاد حارتنا» وكشف فيه محفوظ لأول مرة عن وجهة نظره الكاملة في الرواية حين قال أنه يريد الكشف عن الهدف الأساسي للبشرية، وهو البحث حول سر الكون، وحتى تستطيع البشرية الكشف عن هذا السر تحتاج إلى التفرغ له والاستعداد وهي لن تتمكن من هذا إلا بعد القضاء على استغلال الأغنياء للفقراء والصراع بين الناس من أجل قمة العيش.. وكشف المؤلف عن استمرار محفظ في الدفاع عن روايته في حوارات ولقاءات صحفية وكذلك استمرار اهتمام الوسط الثقافى والصحفي بها، وأن الجدل لم يتوقف تقريبا طوال سنوات الستينيات ولم يتوقف محفوظ عن الإدلاء برأيه بين الحين والآخر.. ورصد المؤلف كيف كانت الرواية جزءًا من معركة أكد فى ذلك الوقت، معركة السلطة للهيمنة على المجتمع دينيا وسياسيا وثقافيا وكيف جرت وقائع المعركة وسط صدام قديم بين الإسلاميين الجدد والعلمانيين غير الشيوعيين، فخاض الأخيرون الذين سيصبحون لاحقا مفكري يسار النظام، معارك متواصلة ضد رجال الدين ومطالباتهم بنوع من الحصانة والقداسة لهم ولمهنتهم. وسط أجواء هذا الصراع بدت «أولاد حارتنا» كنزا سياسيا تتصارع عليه كل القوى السياسية وتحاول توظيفها لمصلحتها الخاصة، صراع على المكشوف ، تحالف بين الشيوخ والقوى السياسية اليمينية داخل السلطة الناصرية ذاتها. ■ لست فيلسوفا والبحث عن المخطوط يشير المؤلف إلى أن الاهتمام بأزمة الرواية لم يقتصر على مصر وحدها، بل إن الاهتمام انتقل عربيا عبر مراسلي المجلات العربية المقيمين في مصر وتعددت خلالها لقاءاته الصحفية وحواراته حول الرواية وفكرتها المثيرة للجدل. كما أشار المؤلف إلى تساؤل أول مترجم لرواية «أولاد حارتنا» إلى الانجليزية «فيليب ستيوارت»: أين يمكن أن نجد مخطوطة الرواية؟، وكيف أن الترجمة الانجليزية لها قد تكون هي النص الوحيد المكتمل للرواية بعد مقارنتها بالنصين المنشورين عن «دار الآداب» والأخر المنشور في الأهرام فضلا عن مراجعة محفوظ له بنفسه ومساعدته في الترجمة. ويبقى الكتاب حافلا بين طياته بالعديد من المحطات في سيرة ومسيرة الرواية الأعظم لمؤلفها نجيب محفوظ وترصد الكثير من الأسرار بلغة تمزج بين السرد بتقنيات السينما التسجيلية وباعتبارها وسيلة لقراءة آليات وتفكير المجتمع المصري في حينها وباعتبار ملابسات أحداثها مرآة لواقعنا الراهن من خلال رصد وتتبع الأحداث التاريخية وتأثيراتها على المجتمع، كما يتضمن الكتاب في نهايته ملحقا وثائقيا يضم عددا من التقارير والتقيقات والرسائل الكاشفة لمجريات الكثير من الأحداث التى طالت «أولاد حارتنا» ومؤلفها نجيب محفوظ.