قبل أن أحدثكم عن مدرستى فى حى شبرا.. دعونى أحدثكم قليلاً عن حى شبرا ذاته.. ذلك الحى ذو الطبيعة الخاصة والثرية.. والذى يصل سُكّانه ربما لمليونين ونصف المليون، مما يعادل سكان بعض الدول. وأنا أذكر طفولتى فى حى شبرا ومراهقتى أيضًا.. سنوات العمر الجميلة فى حى لا مثيل لثقافته الخاصة فى التعايش، أحدثكم عن شبرا التى ربما كانت أكثر الأحياء فى مصر فى عدد كنائسها. وتجد المسجد بجوار الكنيسة فى ألفة ومحبة.. والشيخ صديق للقسيس.. الجميع جيران ويمثلون ما يشبه أسرة واحدة فى المحبة والسراء والضراء.. ولا تستطيع التفرقة بين المسلم والمسيحى.. ولا المسلمة والمسيحية قبل انتشار الحجاب مع نهاية الثمانينيات. وكان حى شبرا بالإضافة إلى دور العبادة.. تجد عشرات المكتبات خاصة المكتبات التى تبيع الكتب المستعملة.. وأذكر أنه فى مساحة لا تزيد على ثلاثة كيلو مترات.. ستجد ما يقرب من خمسة عشر مكتبة تبيع الكتب المستعملة بثمن زهيد يجعلها فى متناول الجميع.. أما دور السينما فحدث عنها ولا حرج.. خاصة دور السينما التى كانت تعرض فيلمين أو ثلاثة فى حفلاتها.. فبالقرب من منزلى كان هناك سينما شبرا بالاس وسينما مسرة وسينما دوللى.. وكذلك سينما الجندول الصيفى التى كنت أشاهد عروضها من فوق سطح منزلى المجاور لها.. كما كنت تجد فى شبرا ساحات كبيرة استخدمها الشباب فى إقامة دورى لكرة القدم.. وكنت تجد دورى فى الكرة بين شباب مسرة أو خلوصى أو جزيرة بدران. هذه شبرا التى كانت فى الستينيات وحتى الثمانينيات.. والتى تغير طابعها بعض الشىء بسبب الزيادة السكانية والزحام الشديد الذى صارت تشتهر به شبرا الآن. أبلة رجاء والآن دعونى أحدثكم عن مدرستى الابتدائية فى شارع العطار بشبرا.. وقد كانت مدرسة صغيرة أنيقة.. ولا زلت أذكر أبلة رجاء.. مدرسة اللغة العربية فى المدرسة.. وقد علمتنا حب اللغة العربية ومفاتنها قبل أن تعلمنا قواعدها.. وبسببها أدين بحبى للقراءة وللغة العربية.. وشغفى بالأدب وكبار الكتاب فيما بعد.. وأذكر أننى وأنا فى إجازة الصف الثالث الابتدائى اقتنيت كتابًا لأنيس منصور وهو حول العالم فى 200 يوم.. وقد قرأته عدة مرات خلال الإجازة الصيفية.. فكان بالنسبة لى هو مصباح علاء الدين الذى فتح عيناى على ثقافات وعادات شعوب أخرى.. فى لغة سلسة محببة كان يجيدها أنيس منصور.. وأذكر أنه كانت هناك مكتبة صغيرة بالمدرسة كنا نستعير منها الكتب .. كما أذكر أننى التهمت كل كتب تلك المكتبة خلال عامين ثم عجزت المكتبة عن إشباع نهمى للمزيد من الآداب المختلفة.. لدرجة جعلت ناظر المدرسة يفتح تبرعًا لشراء المزيد من الكتب للمكتبة. وأذكر أنه فى حصة الدين الإسلامى كان التلاميذ الأقباط وأنا واحد منهم يحفظون الكثير من الآيات القرآنية.. وكنت وقتها أجيد تلاوة القرآن الكريم.. لدرجة أنه عند زيارة مفتش اللغة العربية للمدرسة.. كنت أفضل من يقرأ آيات الذكر الحكيم بتجويد مميز.. لدرجة أدهشت مفتش اللغة العربية عندما علم أننى مسيحى الديانة.. فمنحنى شهادة تقدير لهذا السبب.. وما زلت حتى الآن أحتفظ بصداقاتى مع العديد من زملائى فى المدرسة الابتدائية حتى الآن بعد أن استمرت صداقتنا لما يقرب من نصف قرن. وأذكر أن فصولنا الدراسية لم تكن تعانى من الزحام الذى نراه الآن.. وكان عدد التلاميذ فى أى فصل لا يزيد على الخمسة والعشرين.. وكان يومنا الدراسى يبدأ بطابور الصباح وتحية العلم.. ثم يلقى علينا أحد المدرسين كلمة فى طابور الصباح قبل أن نصعد إلى فصولنا. محاولة تأليف أول رواية أما فى المرحلة الإعدادية.. فكانت مدرستى هى مدرسة شبرا الإعدادية القريبة من المنزل.. وكانت المدرسة الإعدادية منضبطة تمامًا.. فلا يحق لأى طالب دخول المدرسة بعد طابور الصباح.. ومن كان يتغيب أكثر من يومين كان يتعين عليه أن يأتى بولى أمره لتقديم عذر مقبول عن الغياب. فتحت لى مكتبة المدرسة الإعدادية آفاقًا أكبر وأوسع فى المعرفة.. لدرجة أننا وبعد قراءتى لإحدى الروايات.. تحديت زملائى بأننى أستطيع كتابة رواية مماثلة.. وكانت تلك هى أولى محاولاتى فى الكتابة الأدبية.. وقمت بالفعل بتأليف أول رواية فى حياتى.. قرأها كل زملائى بالمدرسة وحتى المدرسين.. وبسببها صرت شهيرًا فى مدرستى.. والمدهش أن تلك الرواية كانت أول ما نشر لى بعدها بعشر سنوات من دار المعارف. ولم يكن الفضل فى ذلك التميز راجعًا لى وحدى.. بل بسبب الأنشطة الثقافية والأدبية فى مدرسة شبرا الإعدادية.. وكان المدرسون يعنون بالأدب والثقافة للطلاب بجانب التعليم. وكان للنشاط الرياضى مكانة فى المدرسة.. فكانت تقام المسابقات فى كرة القدم والسلة وغيرهما.. مما جعل بعض الطلبة يحصلون على مراكز جيدة فى الرياضات المختلفة فى المسابقات الرياضية على مستوى القاهرة.. كما كانت المدرسة بها حديقة صغيرة ويتناثر اللون الأخضر فى كل الأركان. أوائل الجمهورية من عندنا وبعدها انتقلت لمدرسة التوفيقية الثانوية بعد حصولى على مجموع كبير فى الإعدادية. فقد كانت مدرسة التوفيقية الثانوية لا تقبل أقل من 85 % فى الشهادة الإعدادية.. مما جعل طلبة مدرسة التوفيقية الثانوية من أوائل المدارس ليس فقط على مستوى حى شبرا ولا القاهرة فقط.. بل على مستوى الجمهورية. وكان الانضباط فى التوفيقية الثانوية أشبه بالانضباط العسكرى.. فهناك حزم شديد فى الإدارة.. والغياب ممنوع.. أما من يضبط بالتزويغ فكان عقابه قاسيًا.. وأذكر أنه كان ممنوعًا على الطلبة الدروس الخصوصية.. وكذلك ممنوع على المدرسين إعطاء دروس خصوصية.. وفى الحقيقة لم نكن بحاجة لها لأن مستوى التعليم كان مميزًا فى المدرسة.. وفى نهاية كل شهر كان يتم اختيار أفضل طالب فى كل مادة لتكريمه من إدارة المدرسة.. ولهذا كان التنافس الدراسى بين الطلبة كبيرًا.. وأذكر أن اثنين من أوائل الثانوية العامة على مستوى القطر المصرى كانا من طلبة مدرسة التوفيقية الثانوية. وكانت هناك ملاعب كبيرة فى المدرسة.. أحدها لكرة القدم والآخر لكرة السلة.. فكنا نجد متنفسًا رياضيًا فى مدرستنا، كما كانت تقام مسابقات رياضية بين كل المدارس الثانوية فى شبرا.. وكان لمدرستى نصيب طيب فى حصد بعض تلك البطولات.. وأذكر أننى حصلت على جائزة فى مسابقة الجرى على مستوى محافظة القاهرة.. وهكذا كان يتم تنشئتنا .. ليس فقط تنشئة علمية .. بل وثقافية ورياضية أيضًا. وتحضرنى حادثة طريفة جرت معى وقت أن كنت طالبًا بالتوفيقية.. فقد كنت شغوفًا بمشاهدة السينما.. وما أكثر السينمات التى كانت بالقرب من المدرسة.. ولذلك قمت مع اثنين من زملائى بالتزويغ من الحصة الأخيرة.. وقمنا بالذهاب إلى سينما شبرا بالاس لحضور أحد الأفلام بها.. ولكننا ما كدنا نغادر السينما بعد انتهاء العرض.. حتى فوجئنا بناظر المدرسة ينتظرنا أمام باب السينما بعد أن علم بتزويغنا من الحصة الأخيرة.. وقام باصطحابنا إلى المدرسة ورفض عودتنا للمنزل إلا بعد حضور ولى الأمر.. والتعهد بعدم تكرارنا ما فعلناه. هكذا كانت مدرستى.. وهكذا كان الانضباط والتعليم.. وهو ما أرجو أن أراه يعود إلى مدارسنا مرة أخرى.