دخلت مدرسة المحلة الثانوية بنين فى أوائل الستينيات من القرن الماضى، وفى نهاية الصف الأول، رأيت لوحة كبيرة فى مدخل البوابة الرئيسية مغطاة بالزجاج وبداخلها مكتوب بالزيت وبخط أنيق الطالب المثالى على المدرسة: جار النبى السيد الحلو تقافز بعض زملائى فرحًا، وأن ينجح طالبًا فى الصف الأول الثانوى بأن يكون الطالب المثالى، كان مدهشًا، هذا ما انتهى إليه الصف الأول ولكن كيف بدأ؟ بدأ بأن رشحت نفسى لاتحاد طلاب المدرسة عن اللجنة الثقافية، وكان علىّ أن أنجح على بعض المستويات فنجحت على مستوى الفصل إلى اتحاد طلاب المدرسة وكنت الأصغر فى الحجم والعمر بالنسبة لزملائى، وكان ذلك سببًا فى ترشحى ممثلًا للمدرسة لرحلة «غزة» فوجئت فعلًا باختيارى لأنه تم اختيار ممثلًا عن كل مدرسة ثانوية على مستوى محافظة الغربية، قبل السفر طلبت أختى قماشا، والأخرى طلبت بلوزة وعطرا، وطلبت أمى أن اشترى الملابس وهى رخيصة الثمن آنذاك من غزة، وطلب أبى عددًا من إطارات النظارات الطبية، وطلب مدرس التربية الرياضية أربطة عنق، وأخبرنى أن سعر الرابطة خمسة قروش، وأما الطبيبة صديقة أبى فطلبت مزيلا للعرق وفى الحقيقة هذا أكثر ما أدهشنى مزيل للعرق!! ثم حضرت لى أمى الشنطة، وهمست: كل الناس تسافر لغزة، أسأل عن سوق غزة واشترى ما تراه حلوًا، ونصحتنى أن أحرص على الفلوس، أما أنا فدفست ثلاثة أعداد من مجلة القصة – التى كان يميز غلافها اللون الأخضر واللون الأصفر – فالمسافة بالقطار إلى غزة طويلة جدًا، وكان أن وضعت شارة اتحاد الطلاب الجلدية زرقاء اللون على صدرى منذ ركبت القطار. فى تلك الرحلة أكثر من صادقنى كان «سليم» الفلسطينى الذى كان يسهر معى فى اللوكاندة المتواضعة فى غزة، كنت مبهورًا أنه فلسطينى وأنه صاحبى، فى سهراتنا يحكى ويفرح ويغنى أحيانًا، كان تقريبًا فى الثلاثين من عمره، وعرفنى بمكان السوق والأسعار والأماكن التى يمكننى أن أمشى فيها، وهو الذى أيقظنى فجر يوم السفر وأعد معى شنطتى، وأنا أودعه قال لى: سلم على أبيك- أنا الآن مندهشًا لأننا كنا نسافر لرحلة لغزة وخان يونس ورفح ونرجع لأهلنا بالهدايا. من رحلة غزة للمكتبة العامرة المثمرة لحظة دخولى مكتبة المدرسة كانت فارقة، فقد كنت رأيت وفتشت فى صندوق أبى وبهرتنى صور وبعض قصص ألف ليلة وليلة، ورأيت أغلفة سلسلة جورجى زيدان فى «الهلال» ودهشت لحجم كتاب «عنترة بن شداد» وكنت قد فتحت مكتبة أخى بكر – الذى أعطانى مفاتيح المكتبة أمانة عند التحاقه بكلية الآداب جامعة الإسكندرية – فدخلت المكتبة ولم أخرج منها، صارت الكتب جزءًا من حياتى، ولما وقفت أمام مكتبة مدرسة المحلة الثانوية، ترددت ثم دخلت، المكتبة خالية تمامًا إلا أمين المكتبة الذى يجلس خلف مكتبه يقرأ الجريدة، لما لاحظ ترددى قال: أدخل. المكتبة تحتوى على عدد هائل من الكتب جدرانها عالية بشكل غير عادى، وأنا صغير وقصير، مددت يدى عبثًا فى أن أبحث عن شىء. نهض أمين المكتبة، وسألنى: ماذا تريد؟ فقلت: روايات أو قصص أجنبية مترجمة، شد الرجل الكرسى وقف فوقه، وقدم لى كتابًا قرأت عنوانه، وهززت رأسى بالنفى، لعله اندهش من تلميذ سنة أولى ثانوى، فنزل وأحضر سلمًا خشبيًا، وصعد، ثم أخذ يرمى لى الكتب كأجمل ثمار، وأنا ألتقطها فى فرح غير عادى، من مكتبة المحلة الثانوية استعرت وقرأت وتعرفت على: إدجار آلان بو، شتاينبك، أو هنرى، ووليام افلارتى وغيرهم، وأصبح لى كنزى الجديد، بعد ذلك كنت أدخل المكتبة فيحضر الأستاذ السلم الخشبى وأصعد إلى كنوزى وثروتى، وتعرفت على عالم جديد من الكتب، وكنت ألحظ أمين المكتبة وهو يختلس النظر لى ويبتسم. مباراة دامية بين المحلة وطلعت حرب حين أعلن مدرس التربية الرياضية عن التجمع بعد انتهاء اليوم المدرسى لاختبارات الراغبين فى الانضمام لفريق كرة القدم بالمدرسة، ضاع منى اليوم الدراسى كله فقد انشغلت تماما بالانضمام لفريق كرة القدم، وأنا بلا فخر لاعب سابق فى شوارع المحلة ونجم من نجوم فريق «الوراقة» والساحة الشعبية. أديت الاختبارات بنجاح وصرت لاعبًا فى الفريق– هذا عادى طبعًا- ولكن غير العادى أننى وبعض كباتن الفريق الأكبر منى كنا زملكاوية، فاختارنا تيشيرت المحلة الثانوية باللون الأبيض والخطين الأحمرين، فانلة نادى الزمالك ومن سوء حظنا كان تيشيرت مدرسة طلعت حرب الثانوية – المنافس الأقوى- اللون الأحمر، وهكذا وضعنا أنفسنا فى مواجهة الأهلاوية، وصار التحدى صارخًا، وكان على مستوى المحلة، لا يتجاوز الموضوع بعض الهجوم أو السخرية وبعض التشجيع أيضًا من الزملكاوية، ولكن المباراة التى لا أنساها كانت فى أحد مدارس مراكز المحلة، وكان فريقها يرتدى اللون الأحمر، وتقام المباراة على ملعب الساحة الشعبية، والجماهير غفيرة حول الملعب، ورغم الهجوم والضغط المستمر علينا استطاع لاعب هجومنا فى هجمة مرتدة أن استخلص الكرة وقطع الملعب طولًا، وسجل هدف المباراة لنا، وفجأة انهال الطوب علينا وعلى لون التيشيرت، وانكمشنا كلنا فى مرمانا نحتمى بالشبكة!! وأصيب بعضنا بجراح طفيفة من الحجارة والطوب، ولم أصب بشىء لأننى احتميت خلف حارس مرمانا الضخم إلى أن حضر البوليس، وجمعنا فى سيارته وخرج بنا إلى حدود البلد، بملابس الملعب، أخذت الكرة فى حضنى ونمت. أما عن فريق التمثيل ومن موقعى فى اللجنة الثقافية لاتحاد الطلاب فقد اقترحت أن نكون فريقًا للتمثيل بالمدرسة، وافق ناظر المدرسة فورًا، ولما كان بالمدرسة فريق للموسيقى – تتكون من آلة عود وآلتى كمان وعدد من الآت الإيقاع مثل الطبلة والدف – فقد شجعنا هذا كثيرًا وأحضرت لنا إدارة المدرسة مخرجًا، وبدأنا بروفات استعدادًا لحفل آخر العام، لم تكن بالمدرسة صالة مسرح أو خشب مسرح أو قاعة – وآخر العام تم بناء خشبة مسرح، وكنا بأنفسنا نساعد النجارين فى حمل الأخشاب أو تقديم الشاى والماء، ولما تم البناء وقفت كطائر فرحًا بالمسرح، وارتجلت موقفًا وأداء وصفق زملائى، وفى الحفل كنت مشاركًا فى المسرحية الأساسية للعرض، كما قدمت «منولوج» كوميدى مع فريق الموسيقى بالمدرسة، ولا أخفى عليكم سرًا أننى كنت أقوم بالتمثيل أيضًا مع فرقة مدرسة طلعت حرب الثانوية. لا تنسوا.. كل هذا فى الصف الأول الثانوى ياه.. كالحلم، هل توجد مدرسة الآن تقدم لابنها وتلميذها كل هذه المعرفة والثقافة، واللعب والفن، متى نمسك بحقيقة أن ما تقدمه المدرسة يصبح رصيدًا فى مستقبل الوطن.