يحمل الصيف عصاه وبقاياه اللزجة ويرحل على موعد يمارس فيه من جديد ألعابه النارية ،يأتى الشتاء الضعيف .. مرهق، يعلم الشتاء انه ضيف كريم لايثقل على كارهينه أما محبينه فيرونه ضيف بخيل لا يودهم ألا أيام معدودات ثم يتركنا تائهين وسط سخونة وصخب صاحب الألعاب النارية فى هذه الأيام المعدودات الباردة يفرش الشتاء بضاعته المحببة على أرصفة القاهرة تجد شمس لينة، ساعة عصارى محملة بروائح طهى شهى تتسرب فى خفة من شباك خشبى لمنزل قديم فى حارة عطوفة على أهلها، نسمات باردة متناثرة هنا وهناك تمسح فى حنان وجوهنا، فى بعض الأحيان عندما تقلب فى بضاعة الشتاء قد تجد بقايا حب منسى أو يراك واقفا ساكنا تراقب بضاعته المعتادة، يبتسم ثم يتلفت يمينا ويسارا فى وجل وتمتد يده ناصعة البياض الى صندوق خشبى بجانب بضاعته ويخرج منه حب رقيق وجديد، يهمس فى أذنك أنه هدية ..لكن أحذر صاحب الألعاب النارية. لن تجد بضاعة الشتاء أمامك فى كل يوم فهو ضيف قبل أى شيئ ولن تجبره على أعطائك ماعنده حتى لوستدفع ثمنه، فى هذا اليوم كنت محظوظ أشتريت سعيدا ساعة عصارى جميلة بلا هموم ومعى أيضا الهدية، سرت مع ساعة العصارى فى شوارع وحوارى القاهرة تصاحبنا بضع نسمات باردة. حملت بضاعتى الثمينة ولم أصدق أنى أمتلك ساعة عصارى شتوية كاملة ومعها نسمات باردة، تأملت كل ماحولى فى سعادة وأطلقت النسمات حولى مثل العصافير وعدت طفلا وتركت هذا الطفل يفعل مايريده فهذه الساعة ملكه هو ولا داعى أن أشغله بالخوف من اليتم الذى سيعانيه فى المساء بعد رحيل أمه ساعة العصارى. لم أدرى هل ما أسمعه ناتج عن صخب الطفل الذى لا يكف عن اللعب واللهو مع النسمات الطائرة حوله أم هو أمر منفصل عن اللعب واللهو وحقيقى؟ سمعت من ينادى أسمى بصوت خافت ثم أرتفع قليلا بحثت فى الوجوه التى حولى فى الشارع المتناغم مع روح العصارى لم أجد من أعرفه فيحمل لسانه أسمى، جاء وجه مسن من بعيد وأقترب أكثر وتأكدت ان صاحب هذا الوجه هو من يردد أسمى، توقفت مستجمع هذه الملامح التى تغطيها تجاعيد ورأس صاحب الوجه المسن هاجمها الشيب فأنبتت حقول قطن بيضاء. يزداد لمعان عينه بفعل سعادة غامضة كلما أقترب منى، أحتفظت عينى هذا الرجل بروح مقاومة غريبة فمازالت فتية وقوية تعاند فى كبرياء ولا تريد الأستسلام أمام هجمة التجاعيد والشيب التى أنتصرت على صاحب الوجه المبتسم والواقف أمامى. ذكر أسمى أكثرمن مرة وبدرجات تنغيم مختلفة كأنه يمسك بمفتاح يجاهد به أن يفتح أبواب النسيان المغلقة داخل عقلى لكى أستعيده من مخازن الذكرى، لم يفلح التنغيم أو تكرار الأبتسامات، فمن الواضح أن أبواب النسيان صدأت للدرجة التى لم يعد يصلح معها أى مفاتيح. لمم الرجل أبتساماته فى خجل وتراجع التنغيم فى حسرة الى همهمات وبدأ يعتذر لكن صدأ أبواب النسيان ذاب فجأة عندما مر بجانبنا صبية صغار يلهون بكرة ويضربوها بأرجلهم فيما بينهم. بدأت تتداعى أمامى صور متقطعة لصبية يلعبون الكرة مثل الذين مروا بجانبى قبل قليل ولكن فى الصور أنا بين الصبية أضرب الكرة ومعى أخرون، بحثت فى الصور لم أعثر عليه لكن عدت سريعا لوجه واحد منهم فتطابقت بصمات العيون مع صاحب الوجه المسن الذى يقف أمامى. لم أنطق بأسمه فالنسيان ألتهم فى شراسة كل تفاصيل الرجل من ذاكرتى ولم يتبقى من الفريسة سوى العينين، استشعر فى خجل أنه لم يبقى منه عندى ألا فتات أو أقل. نطق هو بأسمه وأسم مدرستنا الثانوية التى قضينا بها سنواتنا الثلاث، سلم خجله لى فأنا بعد هذه العناوين المحملة بأسمه وأسم مدرستنا لم أستحضر ألا صور متقطعة لصبية يلعبون الكرة وأنا بينهم. تنحت ساعة العصارى جانبا ووقفت أعتذر لها فالأمر طارئ وليس بيدى أما النسمات فأستمرت تمرح حولنا، مددت يدى وصافحت رجل العينين وأبتسمت مرحبا بأنسان أفترسه نسيانى. كأنه كان ينتظر هذه الأبتسامة وأعتبرها ثغرة قادر هو بذاكرته على أختراقها والولوج منها ثم مطاردة النسيان الذى أفترس ذكراه فى عقلى، صمم على أستعادة كل تفاصيل السنوات الثلاث التى كانت بيننا قبل عقود وأنطلق متحديا فى مطاردته يكررعلى أسماء وحكايات ولكن كل الأسماء والحكايات كانت تضرب عقلى ثم ترتد وبعدها تسقط مترنحة أمامنا على أسفلت الشارع. يأس قليلا وتلاحقت أنفاسه مع كلمة «فاكر» أخيرة نطق بها وتسبق واحدة من حكاياته المتتابعة، ألتقطت أحدى حكاياته قبل ان تسقط مترنحة على أسفلت الشارع وسندتها بذاكرة مجهدة، بدلا من الصور المتقطعة للصبية يلعبون الكرة كانت هناك صور أوضح لنفس الصبية وأنا بينهم ونتسابق فيما بيننا ونتصايح بلا سبب ونتجه جميعا الى باب خشبى لمنزل مبنى بأحجار رمادية ضخمة، دخلنا جميعا من الباب وفتحت لنا سيدة طيبة مبتسمة باب شقة فى الطابق الأرضى وأستقبلنا رجل بشوش وتقدمنا الى غرفة تستند على حوائطها أرائك مغطاة بوسائد بيضاء وأخرى ملونة وفى منتصف الغرفة منضدة عليها بعض أطباق الطعام . قفزت تفاصيل وجهه أمامى فى هذه الحكاية أكثر وضوحا ولم تكتفى الذاكرة المجهدة بالعينيين.. لكنه كان وجه منقطع الصلة بالوجه المسن الواقف أمامى، الوجه فى التفاصيل الواضحة وجه نضر بلا تجاعيد لصبى دائم الضحك وصاحبه يتحرك فى خفة ويذهب مسرعا الى باب الغرفة وتمتد يد بضة حليبية من خلف الباب تسلمه بعض أطباق الطعام فيضعها فى نشاط على المنضدة تختفى قليلا اليد ثم تعود فيعود هو سريعا مرة أخرى لباب الغرفة الموارب ليحضر أطباق شهية أزدحمت المنضدة ولم يعد هناك مكان. أطلت من خلف الباب الموارب فى حياء تريد الأطمئنان على أكتمال عملها، تلاشت صيحات الصبية بعيدا توقف السمع وحل صمت ناعم بداخلى تحول إلى فرح عندما ابتسمت بعينيها تجاهنا ثم توارت من جديد خلف الباب الموارب أستيقظ السمع نشيطا مع ايقاع خطواتها التى ترحل بعيدا، لم أعلم لماذا تحررت الذاكرة من الأجهاد عند تلك الصورة الموغلة فى القدم وأستعادتها بكل هذا العنفوان ؟ حكى فى سعادة وطيبة تفاصيل المناسبة التى ذهبنا فيها الى بيته للأحتفال ألح على الطفل الذى أطلقته فى ساعة العصارى أن أسأله عن من كانت صاحبة اليد الحليبية وأين هى الأن ؟ .. لكنه لم يعد هو هذا الصبى ولا أنا الأن .. تبادلنا أرقام وتواعدنا على لقاء، وبمرح أجوف كالطبل ونوع من التعويض عن نسيانى له عرضت عليه أن يعمل على تجميعنا من جديد، خاطبنى الوجه المسن قائلا.. صعب.. أغلب من كانوا فى الغرفة ذات الأرائك خارج البلاد وأحدهم رحل خارج العالم، أنقبضت الذاكرة فجأة وأستعادت وجه الراحل ثم تركته فى سلام. سار مبتعدا تتدلى من يده حقيبة بلاستيكية صغيرة شفافة لأحدى الصيدليات ممتلئة بعبوات أدوية قال قبل أن يرحل أنها لزوجته. أمسكت بيد ساعة العصارى قبل أن تتسرب من جانبى نهائيا مترجيا منها أن تبقى قليلا ولا تتركنى فهناك خوف حضر الأن ولا أعلم مصدره. أفلتت يدها فى هدوء مبتعدة ونادت على النسمات الباردة ثم أشارت الى الهدية التى أخرجها الشتاء من صندوقه وأعطانى أيها هذا العام.. تسرب الخوف وأستعدت مرح الصبية وصخبهم.