فى يناير 2017، أعلن الرئيس الصينى شى جين بينج استعداده لملء الفراغ فى القيادة العالمية الناجم عن تحول الولاياتالمتحدةالأمريكية للداخل أكثر من كونها قوة عالمية. هكذا عبر «التنين الصينى» صراحة عن طموحه للهيمنة على العالم، وهو حديث لم يأت من فراغ وإنما بذلت فيه بكين جهدًا كبيرًا، حيث سعت للريادة فى العديد من المجالات التى تشكل الأزمات الكبرى فى العالم فى الوقت الحالي؛ كمجال البيئة، والتغيُّر المناخى، ناهيك عن قيادتها لاقتصاد القارة الآسيوية. وليس سرًا أن بكين تعلم أن تحسين علاقاتها مع الدول الأخرى، وخاصة فرنسا يتضمن التقارب مع «الاتحاد الأوروبى» بأكمله، خاصة فى ظل التنبؤات للرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون بقيادة الاتحاد الأوروبى فى الوقت القريب، حيث ترى الصين فى ماكرون «رمز لمستقبل أوروبا» وتعتبره الآن ممثلًا للغرب بأكمله، فى ظل انشغال المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل بالشأن الداخلى، بالإضافة إلى خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبى، وهو ما يعنى أن فرنسا باتت هى الممثل الوحيد للاتحاد الأوروبى ضمن الأعضاء الخمسة الدائمين فى مجلس الأمن الدولى. وكان من المتوقع أن يوقِّع الرئيسان الصينى والأمريكى على المرحلة الأولى من اتفاقية تجارية بقمة كان قد تقرَّر انعقادها فى تشيلى فى نوفمبر الجارى، لكنَّ الإطار الزمنى للاتفاقية أصبح غير محدَّد بعد إلغاء الحدث المنتظر، عقب فرض ترامب موجة تعريفات جمركية على الصين لإجبارها على قبول عقد صفقة مع الولاياتالمتحدة، وتتخوف أوروبا من أن تكون «الضحية الثانية» لترامب فى قطاعاتٍ مثل تجارة السيارات الأوروبية، ليُجبر بروكسل على تقديم تنازلاتٍ كما حدث مع الصين. ومن ثم قررت أوروبا توسيع التعاون مع الصين، باعتبار بكين «حليف محتمل» لصد الهجوم الأمريكى الشامل على آلية عمل محكمة منظمة التجارة العالمية، كما تنتوى بروكسل توقيع اتفاقيات استثمارية ضخمة مع الصين. وفى الأثناء طار الرئيس الفرنسى يوم 4 نوفمبر الجارى إلى الصين لضمان ألا تكون أوروبا طرفًا خاسرًا فى الهدنة التجارية الوشيكة بين واشنطنوبكين، ووقع عقودًا مشتركة بقيمة إجمالية 15 مليار دولار فى مجالات الطيران والطاقة والزراعة، بما فى ذلك منح موافقات ل20 شركة فرنسية على تصدير الدواجن ولحوم الأبقار ولحوم الخنازير إلى الصين. وتأتى تلك الزيارة عقب زيارة أولى طغى عليها الطابع الدبلوماسى فى كانون يناير 2018، إلا أن الثانية للصين طغى عليها البعد التجارى مع توقيع عشرات الاتفاقات بين المؤسسات. وتتشارك باريسوبكين وجهة النظر الخاصة بضرورة مكافحة التغيُّر المناخى فى العالم، والحد منه، وهى إحدى أبرز القضايا المطروحة على الساحة الدولية فى الوقت الحالى، وتُشكِّل أهمية خاصة للبلدين، حيث تحلم باريس باستعادة أمجاد الإمبراطورية الفرنسية لما كانت خلال القرنين الماضيين، فى الوقت الذى تسعى فيه الصين للهيمنة على النظام الدولى بأكمله. وبشكل عام تخشى أوروبا أن يفرض ترامب «تعريفات جمركية» جديدة عليها حال إتمام صفقة «سلام» مع الصين فى الأسابيع المقبلة، وهو ما أعلنه «ماكرون» صراحة خلال فى مؤتمر صحفى مشترك مع ترامب، فى قمة مجموعة السبعة، على أنَّه «يجب أخذ مصالح أوروبا فى الحسبان». وخلال تواجده بالصين شارك «ماكرون» بمعرض الصين الدولى للاستيراد، وهو معرضٌ للتجارة يُقام فى شنغهاى، وافتتح فرع شانغهاى لمركز بومبيدو، وهو متحف ومركز معارض باريسى، بالإضافة لعقد مباحثاتٍ مع نظيره الصينى شى جين بينج حول قضايا ذات صلة بالتغيُّر المناخى والتنوُّع البيولوجى، وقدمت فرنسا نفسها خلال الزيارة كجبهة أوروبية متحدة عبر إشراك المفوض الأوروبى للتجارة فيل هوغان، والوزيرة الألمانية للتعليم والبحث العلمى أنيا كارليشك ممثلةً عن المستشارة أنجيلا ميركل، وكذلك ممثلين عن التجارات الألمانية، وذلك بهدف إبراز مدى انفتاح الصين على السوق الدولية خاصة فى مجال (الأطعمة المزروعة). وفى الوقت الحالى تجرى مفاوضاتٌ بين الصين والمفوضية الأوروبية حول عقد اتفاقيتين، الأولى استثمارية بين الطرفين، فيما تسعى الصين لاعتمادها فى الاتحاد الأوروبى مصدرًا رسميًا لبعض الأطعمة الفاخرة. وفيما يخص التعاون الصينى- الفرنسى، يخشى ماكرون من أزمة العجز فى الميزان التجارى بين البلدين؛ حيث بلغت قيمة التجارة بينهما فى آخر إحصائياتها الرسمية عام 2016، 47.13 مليار دولار سنويًا، وذلك وفقًا لوزارة التجارة الصينية، وتعمل الصين على خفض العجز التجارى مع فرنسا؛ حيث انخفضت قيمة صادرات الصين إلى فرنسا بنسبة 7.8 %، لتصل إلى 24.66 مليار دولار، فى الوقت الذى بلغت فيه قيمة وارداتها من فرنسا 22.47 مليار دولار، ويسعى ماكرون لتوقيع صفقات كبرى مع بكين لضبط الميزان التجارى. والصين ثانى أكبر شريك للاتحاد الأوروبى بعد الولاياتالمتحدةالأمريكية، فى ظل اعتبار الاتحاد الأوروبى الشريك التجارى الأول للصين. وبعيدًا عن الصفقات التجارية، يبرز التعاون «الجيوسياسى» بين فرنساوالصين وهو ما يتمثل مبادرة «الحزام والطريق»، وتأثيرها الدولى على مستقبل العالم الاقتصادى والتجارى. و«الحزام والطريق» استراتيجية تنموية طرحها الرئيس الصينى تتمحور حول التواصل والتعاون بين الدول، وخصوصًا بين الصين ودول منطقة «أوراسيا»، وهى المنطقة التى تربط بين دول أوروبا وآسيا فى الوقت نفسه، وتتضمن طريقين رئيسيين هما حزام طريق الحرير الاقتصادى البرى، وطريق الحرير البحري؛ حيث يتضمن الفرع البرى من المبادرة 6 ممرات وطرق فرعية، وهى تهدف لتنمية موارد الصين فى البنية التحتية والطاقة، والموارد الطبيعية، والاستثمارات، فضلًا عن توفير فرص للتوقيع على اتفاقيات تعاون مع دول ومنظمات دولية فى مجالات التعاون المالى والعلوم والتكنولوجيا والبيئية، ويشارك فيها ما يزيد على 68 دولة آسيوية وأوروبية، تتزعمها الصين؛ حيث تبلغ قيمة إنفاقها وحدها على المبادرة 150 مليار دولار سنويًا. وقبل ذلك لم تكن فرنسا بعكس بريطانيا وألمانيا - واحدة من الدول التى اهتمت بالمبادرة عندما طرحت عام 2013، لكن بمجرد قدوم «ماكرون» لقصر الإليزيه أبدى استعداده للعمل مع الصين، حيث ستفيد المبادرة دول الاتحاد الأوروبى عبر تسهيل التبادل التجارى مع الدول المختلفة فى القارة الآسيوية. على الضفة الأخرى للنهر، يسعى الرئيس الصينى إلى تعزيز علاقاته مع الأوروبيين فى وقت يسجل اقتصاد بلاده تباطؤًا تفاقم بفعل الحرب التجارية مع الولاياتالمتحدة، مع الوضع فى الاعتبار أن ترامب يتعامل مع الصين باعتبارها منافسة اقتصادية للولايات المتحدة ويتخذ العديد من قراراته من منطلق مهنته الأولى كرجل أعمال». وفى أغسطس 2015 قرر البنك المركزى الصينى «بنك الشعب الصينى» تخفيض قيمة العملة الصينية «اليوان» بنسبة 2 % فى مقابل الدولار الأمريكى، لأول مرة منذ 3 سنوات، وذلك من أجل تعزيز صادراتها، أملًا فى أن يصبح اليوان «عملة رسمية احتياطية بالعالم» وبعد تثبيت سعر صرف اليوان أمام الدولار الأمريكى فى يناير 2017، استطاعت الصين تثبيت قوة العملة الصينية وسيطرتها مقابل الدولار، إذ إن بكين التى تتحكم فى اليوان، لا تسمح له بالهبوط أو الارتفاع، بأكثر من 2 % يوميًّا، وذلك لمنع تقلبات العملة، وهو ما شكل تخوف كبير لترامب ومن قبله الرئيس السابق باراك أوباما، حيث يعزى ذلك زيادة صادرات بكين باعتبارها أرخص من مثيلاتها الأمريكية ويزيد العجر التجارى بين البلدين. وهناك أهداف عديدة للصين من أجل تحقيق الهيمنة فى آسيا والعالم؛ حيث تتمثل فى أن تحل الصين محل الولاياتالمتحدةالأمريكية باعتبارها القوة المحورية فى آسيا، ناهيك عن إضعاف ثقة الدول الآسيوية فى المصداقية والقوة المستدامة لدى الولاياتالمتحدةالأمريكية، علاوة على استخدام القوة الاقتصادية الصينية لجذب الدول الآسيوية أقرب نحو تفضيلات السياسة الجيوسياسية للصين، كما أن بكين تسعى لزيادة القدرات العسكرية لدعم وتعزيز الردع ضد التدخل العسكرى الأمريكى فى المنطقة، وإلقاء الشكوك حول نموذج الاقتصاد الرأسمالى الأمريكى، لتثبت أن تجربتها الاقتصادية هى الأنجح بعيدًا عن أى حديث عن غياب الديمقراطية بما يضمن إحكام قبضة «الحزب الشيوعى» الصينى على السلطة الداخلية بمنتهى القوة وغض الطرف عن سياساتها العدائية تجاه مسلمى «الإيجور».