عند الشعوب المتقدمة.. تشكل مكتبة المدرسة ركنًا أساسيّا فى العملية التعليمية، بدورها الذى يشجع على البحث والتقصى والاكتشاف، والتجريب أيضًا.. بما فى ذلك من متعة نفسية وذهنية وتربوية.. تزيد الإنسان ثقة فى نفسه، وتعلمه التفكير المنطقى فى كل ما يقال. فماذا عن دورها فى بلادنا؟ سألنا ضيوفنا وعرفنا منهم الإجابة.. أول ما قرأ مغيث: «الثعلب المكار والحلة فوق النار» كان الدكتور كمال مغيث- الخبير التربوى والأستاذ بالمركز القومى للبحوث التربوية والتنمية- فى الصف الأول الابتدائى حينما دخل للمرّة الأولى مكتبة مدرسة «المؤسسة» الابتدائية بالباجور، بمحافظة المنوفية، واستعار قصة «نيّرة وجِدْيُها» و«الثعلب المكار والحَلة فوق النار» لكاتب الأطفال المعروف «كامل الكيلانى» الذى قام بقراءة جميع كتبه بعدما تعلم القراءة هو وأخوه أنور (الذى صار فيما بعد الدكتور أنور، مدير المركز القومى للترجمة بوزارة الثقافة حاليًا) فى الكًتّاب على يد الشيخ عبد الله الذى رُغْمَ الضرب والتوبيخ، لكنه ساهم فى تعليمهما القراءة فى عمر 5 سنوات. وقتها كان كل منهما يحصل على قرش صاغ كمصروف يومى يشتريان به ساندويتش الفول وقطعة البسبوسة، ثم يوفران منه 3 قروش أسبوعيّا لشراء «مجلة سمير» التى اعتاد كل منهما تناوب قراءتها لمدة ساعة حتى ينتهيا منها تمامًا، ثم يلجآن لقراءة مجلات شقيقتهما! بعدها.. بدأت مرحلة قراءة القصص العالمية، وملخصات بعض الروايات لنجيب محفوظ وتوفيق الحكيم. وفى المدرسة الثانوية «أحمد لطفى السيد» تحوّلت المكتبة إلى جزء من تكوين د.كمال، حينما بدأ خوض الأبحاث والمسابقات بتشجيع من أمين المكتبة الذى كان يحدد الجوائز المادية للفائز الأول بدءًا ب 10 جنيهات. يقول: أتذكر حينما فزتُ بالجائزة الأولى عن بحثى فى شخصية سيدنا حمزة، ويومها علّق أمين المكتبة قائلا: الطالب كمال مغيث صاحب قلم مميز.. وهو نفس ما فعله مدرس اللغة العربية الأستاذ عبد الفتاح الذى أبدى إعجابه بموضوع إنشاء كتبتهُ عن فلسطين، وقال لى: «إذا كان هذا أسلوبك وتعبيرك فأنت صاحب قلم، وسيكون لك شأن». كل هذا بمساعدة المكتبة جنبًا إلى جنب مع دور البيت الذى كان يشجعنى على القراءة والمعرفة، فاخترتُ دراسة فكر «طه حسين» للحصول على الماجستير، رُغم نُصح الزملاء بالابتعاد عنه لصعوبة أسلوبه، ولكنى اعتدتُ على البحث والدراسة مبكرًا، فتمتعتُ بالبحث فى كتبه؛ خصوصًا كتاب «مستقبل الثقافة فى مصر» الذى تناول هوية مصر، وأوضح أن التعليم له وظيفتان، هما إعداد الإنسان المثقف، وتأهيله مهنيّا». مكتبة الفرنسيسكان ترى «سماح أبوبكر عزت» كاتبة الأطفال التى تملأ الدنيا نشاطا فى مجال الكتابة للطفل.. أن دور المدرسة فى مصر أحيانًا ما يكون أهم من دور البيت! ورُغم أنها لم تُحرَمْ فى عائلتها من تلك الرعاية وكانت طالبة متفوقة جدّا؛ فإن الدور الذى لعبته مكتبة مدرسة الفرنسيسكان فى طفولتها ساهم فى دعم ورعاية موهبتها التى ساعدت المكتبة فى ترسيخها منذ بدأتْ تقرأ شِعر أحمد شوقى، وافونتين، وبودلير، ومسرحيات موليير، والمتنبى.. الذى تقول إن المدرس الفرنسى مسيو برنار هو الذى نصحها بقراءته باللغة العربية. ثم الكتابات الرومانسية لمصطفى صادق الرافعى المعروف بأنه شكسبير العرب، الذى تأثرتُ بطابع الشجن فى أسلوبه- كما يتضح فى كتاباتها التى أهدتها بدورها لمكتبة مَدرستها.. لتشجيع الطلبة على القراءة ونتجول خلالها فى عقول الآخرين، وكان الدرس الذى تعلمتُه هو أن أصغر الأشياء هو أساس الاختراعات الكبيرة، فكتبتُ هذا فى كتاب لليافعين اسمه «أشياء صغيرة فى حياة العلماء». تقول الأستاذة سماح: من المؤسف أن حصة المكتبة لم تعد من أولويات الكثير من المدارس، رُغم أن القراءة هى أساس التعليم، وهى التى تُحبب الطلبة فى البحث، وتساعدهم على اكتشاف قدراتهم، وتشكيل شخصياتهم، كما تربط الطالب ببيئته وتاريخه وهويته، وتعلمه التفكير التحليلى والنقدى.. والتأملى، وفى هذا الإطار.. لم أنسَ مقولة الأديب الألمانى هاينرش بول حينما قال «لقد علمنى الطريق للمدرسة أكثر مما علمتنى المدرسة نفسها». ورُغم هذا؛ أتمنى أن تتم كتابة مناهج الطفل بأسلوب بسيط ولطيف وجاذب.. لتسهم فى وجود برامج إعلامية تناسب عقل الطفل.. الانفتاح على العالم دكتور ميلاد موسى- خبير التنمية البشرية بهولندا- اهتم بالإجابة على أسئلتى رُغم عدم تأكده إذا كانت هناك مكتبة فى مدرسته السعيدية بالجيزة أمْ لا! لإدراكه بأهمية دور مكتبة المدرسة فى انفتاح الطالب على العالم. وتذَكر: أول كتاب قرأته كان لإحسان عبدالقدوس، ثم كتاب «أيقظ قواك الخفية» للكاتب تونى روين، وأعتقد أن هذا النوع من القراءة هو الذى جعلنى أهتم بمجال التنمية البشرية. مؤكدًا: أى جُملة نقرأها تساهم فى تغييرأفكارنا وسلوكياتنا؛ خصوصًا فى السِّن الصغيرة، وهو ما يجعل المكتبة أهم موقع فى المدرسة؛ لأنها المكان الوحيد الذى يذهب الطالب إليه بإرادته فى هذا السِّن، باحثًا عن القدوة الغائبة فى أسرته وبيئته. مكتبة القرية حمت أهلها من العودة للأمية كانت الأستاذة منى مكرم الله تلميذة بمدرستَى الجزيرة وبورسعيد بالزمالك، وكل ما تتذكره أنها كانت تمارس بعض الأنشطة، وضمنها زيارة المكتبة المدرسية، كما تتذكر أنها تأثرت بكتاب حكايات عن أرض الألعاب Tales of Toyland للكاتبة الإنجليزية إنيد بلايتنون Enid Blyton ؛ حيث اعتادت القراءة بالإنجليزية.. بعدما تعلمت القراءة فى سِن مبكرة، بتشجيع من والديها اللذين اهتما بوجود مكتبة فى حجرتها تحتوى على كتُب كامل الكيلانى للأطفال التى شكلت عالمها كطفلة. تعتقد «منى» أن تعليم القراءة مبكرًا يسهم فى تكوين هذه الهواية عند الأطفال، وهو ما ينطبق عليها؛ حيث صار البحث هو مجال عملها وحصلت على ماجستير فى التنمية من كندا، كما تعمل على الانتهاء من الدكتوراه التى اختارت موضوعها بعنوان «وجهة نظر العاملين فى مجال محو الأمية على قضية الأمية»! كاريتاس- مصر نموذجًا؛ حيث لاحظتْ وجود نشاط مكتبة القرية لمساعدة البالغين على عدم الارتداد للأمية، وتوسيع الإدراك، والانتقال عبر الزمان والمكان لعوالم لم يكن مقدرًا لهم الذهاب إليها لولا وجود المكتبة. شكلت حياتى رئيسة تحرير مجلة حواء الأستاذة سمر الدسوقى، ترى أن المكتبة هى التى شكلت كل حياتها بداية من مدرسة الجيزة القومية الابتدائية، إلى مدرسة الجيزة فى المرحلة الإعدادية والثانوية. ورُغم أنها كانت متفوقة دراسيّا؛ فإنها كانت تقضى كل وقتها فى مكتبة المدرسة بين جَمع الصور، والمسابقات الثقافية، والحفلات القومية، ونشاط الإذاعة المدرسية، والعديد من الأنشطة البحثية فى مقابل إهمالها لباقى الأنشطة مثل التدبير المنزلى والأشغال. تقول: كانت القصص والمغامرات والألغاز هى أول الكتب التى قرأتُها، وحينما كبرتُ كانت ماما هى التى تشترى لى روايات نجيب محفوظ، مثل بين القصرين والسكرية وغيرهما. أمّا والدى- الله يرحمه- الذى ما إن كان يشعر بزهقى فيطلب من ماما أن تشترى لى الروايات والكتب التى أحبها. وهكذا توافَقَ دور مكتبة المدرسة مع دور البيت فى صقل حياتى على المستوى الشخصى ثم المهنى والوظيفى بعد ما التحقتُ بكلية الإعلام. ورُغم نُصح العديد من زملائها باستثمار شكلها الجميل ولباقة أسلوبها فى العمل كمذيعة؛ فإنها كانت ترد على زملائها قائلة: أنا أريد كتابة ما يقال.. بلغتى العربية التى أجيدها وأتمتع بجمالها، وهو ما ساهمتْ مكتبة المدرسة فى غرسه بداخلى. مكتبة مدرسة آن.. تتذكر آن ڤان مارووك Anne van Marwijk– استشارية التواصل بهيئة پيرسپيكتيڤيتى Perspectivity التنموية -الهولندية- أنها كانت تستمتع بالتردد على مكتبة مدرستها «مونتيسورى» بمدينة أوخستخيست، ومكتبة أخرى أكبر تتردد عليها مع والدتها، حينما أعجبت بسلسلة قصص بينوكلتيا Pinkeltje التي تعنى العفريت أو القزم الصغير للكاتب الهولندى «ديك لان»، والتى تدور حول قزم بحجم خنصر اليد يعيش مع الفئران والحيوانات بمنازل البشر لمساعدتهم دونما يعلمون شيئًا عن وجوده. وقد استمرت فى متابعة مغامرات هذا الكائن الصغير مبهورة برسوماتها وألوانها، بعدما رأت والدها يقرأها، واستمتعت فى صغرها بحكايات جدتها عنها! أحبت «آن» الجانب السحرى فى هذه القصص التى صورت لها كيف كان ذلك الكائن فضوليًا، ولكنه محب للمغامرات وعطوف على الحيوانات! ورغم ذلك لا تستطيع الجزم بأن حبها للمغامرات ولمساعدة الناس دون علمهم يعود لتأثير هذه القصص فقط، لأنها بدأت بعد ذلك تستعير كتب أخرى بمعدل 6 كتب فى 6 أسابيع.. تعرفت من خلالها على ألوان أخرى من القراءة مثل القصص المصورة الهزلية وغيرها! «تان تان فى جبال التبت» الفنان التشكيلى أمير وهيب- خريج مدرسة الفرير بالظاهر- يتذكر أن أول مرّة دخل فيها المكتبة كان فى الصف الثالث الابتدائى سنة 1979، واختار قصة «تان تان فى جبال التبت»، التى لم تكن متوافرة فى الأسواق مثل مجلتَى «ميكى» و«سمير». ويقول: الحقيقة أننى لم أنس كيف أعجبتُ برسومات القصة وأحداثها، وأعتقد أن هذا التأثير استمر معى لوقتنا هذا، وساهم فى اهتمامى بالفن واحترافه فيما بعد جنبًا إلى جنب مع حبى للقراءة الذى لم يتوقف يومًا؛ حيث أعتقد أن القراءة هى شكل من أشكال العلم الذى لا يتوقف عند حد معين، بل مع الوقت.. أدركت أن القراءة تشكل فرقًا كبيرًا وواضحًا بين المبدعين والرسامين الذين يكتبون ويرسمون للأطفال فى مصر والغرب. أيام القراءة يقول الروائى حاتم القاضى، إن أول كتاب قرأه فى مكتبة مدرسة الرويعى الابتدائية كان مجموعة مطبوعات «اقرأ عن تاريخ كأس العالم»، حينما كان عمره 10 سنوات، تلاها مجلتا سمير وميكى.. ثم كتب الألغاز للشياطين ال13 والمغامرون الخمسة. ولا ينسى دور سور الأزبكية الذى لعب دورًا مكملًا لدور مكتبة المدرسة، أيام كانت مصر كلها مهتمة بالقراءة، مما ترك أثرًا كبيرًا فى شخصيته منذ الصغر، وجعله متفتحًا، متصالحًا مع ذاته، ومع المجتمع.. بل متقبلًا لجميع الاختلافات بين البشر. «الإنسان القارئ لا يُهزم أبدًا» كما يقول المَثل الألمانى.. وقد تولد لدَىّ اليقين أنه لو لم تقم المدارس فى بلادنا بعمل أى شىء سوى فتح مكتباتها وتشجيع التلاميذ على القراءة فقط؛ لضمنت شعبًا متعلمًا واسع الآفاق، قادرًا على التفكير المنطقى والنقدى، والفهم الذى يوفر الكثير من المشاكل التى تعوق نموّنا وتزيد خسارتنا بجميع أشكالها.