وصول الثقافة الى جميع فئات الشعب وطبقاته، والى جميع المناطق السكنية فى أرجاء الوطن، مطلب مشروع وضرورى ونبيل فى آن. وهو مطلب لازم فى كل زمان، لكنه يصبح أكثر الحاحا بعد انتشار ثقافة محافظة ومتطرفة وعنيفة بين الشباب. وحينما يحاول أصحاب هذا المطلب تحويله الى اجراء عملى وقابل للتنفيذ، فانهم فى العادة يطالبون بتخفيض سعر الكتاب. ولعل القصد من وراء ذلك هو أن الفقراء يحتاجون الى الثقافة قدر حاجة الأثرياء اليها، ولكن ضعف امكاناتهم المادية يشكل حائلاً يعوق دون وصولهم الى هذه الثقافة. نشر الفكر مطلوب ولكن ربما كان ما نقترحه من تخفيض لسعر الكتاب لا يحقق الهدف المنشود، بل يؤدى الى العكس ! فالكتاب سلعة وسوق النشر مجال استثمارى تجارى مثله مثل غيره، ولكى يزدهر سوق الكتاب ينبغى أن يكون مغرياً لأصحاب رأس المال فيكون مربحاً، وهذا يعنى ببساطة أن يباع بسعر أعلى من سعر التكلفة. ودعم الكتاب كى يكون رخيص الثمن فى متناول محدودى الدخل أمر لا تقدر عليه الا الدولة، وهذا الاتجاه قد يبعد رأس المال الخاص من مجال النشر ويجعله حكراً على الدولة، ويتضمن ذلك انخفاض مستوى التنوع وانحسار حرية التعبير والابداع. ان نظرة سريعة الى سوق الكتاب فى مصر تبين أن الكتاب أرخص ثمناً منه فى البلاد العربية المجاورة وبالطبع أرخص ثمنا من البلدان الأوروبية ورغم ذلك يظل هذا السوق كاسداً! واذا أردنا نشر الكتاب وتشجيع القراءة فان علينا البحث عن آليات أخرى غير تخفيض الثمن الذى لم يعد ضامنا لزيادة استهلاكه. ونحن نميل الى تبرير هذا الكساد وانحسار القراءة بعدد من الأحكام التى تبرر لنا كسلنا أو تقاعسنا مثل القول الشائع بأن الجيل الجديد أصبح يحصل على المعلومة من الانترنت ولا يرغب فى شراء الكتب. ولكن دراسة سريعة لأى بلد من البلدان المتقدمة خلال العشرين عاماً الماضية تبين تطور وسائل الميديا الرقمية بشكل هائل، ويرافقها فى الوقت نفسه اتساع فى سوق النشر وتقدم فى فنون الطباعة ورواج للكتاب. لا مفر اذن من المقارنة لندرك كيف تعمل أمم أخرى على تشجيع القراءة؟ وتبدأ الحكاية من المدرسة، فالمفروض أن يدخل الطفل المدرسة ليتعلم القراءة والكتابة، لينفتح أمامه عالم الكتب الرائع والمتنوع، ولهذا فالقراءة الحرة نشاط دائم للتلاميذ ويتم تقييمهم على أساسه. فقبل إجازة منتصف العام يطلب المدرس من تلاميذ الفصل أن يذهب الطفل مع أبيه أو أمه لشراء كتاب ليقرأه ويعرضه فى الفصل على رفاقه بعد العودة من الإجازة. لكننا نشعر بأن نظام التعليم عندنا يأتى ليضع غمامة على أعين التلاميذ فيوحى لهم بأنه لا يوجد كتاب جدير بالقراءة سوى الكتاب المدرسى ويصبح أى مجهود يبذل لقراءة أى شيء خارج كتب المدرسة تشتيتاً للذهن الذى ينبغى أن ينصب على حفظ الملخصات للحصول على أعلى الدرجات. ويمتد هذا الاتجاه الى التعليم الجامعى، الذى هو بالأساس دراسة فى تخصص معين تعتمد على مراجع متعددة. لكننا أزحنا ذلك ووضعنا مكانه جريمة اسمها: الكتاب المقرر، ولكى يدفع الأستاذ الجامعى طلابه لشراء كتابه فانه يخفى عنهم وجود أى مراجع أخرى فى الموضوع، ويصبح الحفظ فى الجامعة أيضا هو وسيلة الحصول على أعلى الدرجات. ونحن لم نتواطأ على جريمة الكتاب المقرر فقط بل أصبحنا ندفع لها دعماً تعلن عنه الجامعات باعتباره مطلبا يضمن لها الشعبية ورضا الطلاب. وهكذا يصل الطالب عندنا الى شهادة الليسانس او البكالوريوس دون أن تطأ قدمه أى مكتبة أو يفتح عينيه على كتاب سوى الكتاب المقرر. للحياة الاجتماعية دور مهم فى تشجيع القراءة، فالكتاب فى البلدان الأوروبية مثلاً هدية ثمينة تقدمها الأسرة لأطفالها منذ الصغر، وهو أيضاً هدية ذات قيمة عالية فى المناسبات الخاصة، وتعتبر فترة أعياد الكريسماس موسم رواج لبيع الكتب، فالكتاب عندهم يعد هدية تعبر عن مشاعر الحب وتبعث على مشاعر الفرحة، كما أنه هدية ذات مضمون يحوى الكثير من الرسائل الضمنية. ويجد محدودو الدخل فى ظل ذلك وسائل متعددة ومتاحة للحصول على الكتاب منها: التزويد الدائم والمستمر للمكتبات الأكاديمية والعامة والتى تسمح بنظام الاستعارة الخارجية، وهناك أيضاً الطبعات الشعبية التى يصدر فيها الكتاب بعد شهور من طبعته الأولى بطبعة رخيصة الثمن تصل الى حوالى ربع ثمنه الأصلى، وأخيراً هناك باعة الكتب القديمة والمستعملة والتى يعثر فيها القارىء لا على كتاب رخيص الثمن فحسب، ولكن أيضاً يمكنه العثور على كتاب مهم فى تاريخ المعرفة لكنه اختفى من سوق البيع فى المكتبات العادية. النهوض باحوال سوق الكتاب عندنا يظل ممكنا، لكنه يستدعى مثله مثل كل مشكلاتنا تدخلاً على مستويات متعددة أهمها اصلاح نظام التعليم بحيث تصبح المكتبة ركناً أساسياً فى كل مدرسة وكل جامعة، ويصبح ارتيادها والتزود منها واجباً يفرضه المعلم على التلاميذ، كما ينبغى الاهتمام بشكل الكتاب واخراجه حيث يصبح هدية ذات قيمة عالية، وينبغى أيضاً أن تكون هناك تغطية اعلامية جيدة سواء فى الاعلام المقروء أو المسموع لأهم ما يصدر من كتب. الاهتمام بتشجيع القراءة ونشر الكتاب ليس مهما فقط لمواجهة الارهاب لكنه الأساس فى تقدم الشعوب. لمزيد من مقالات د.انور مغيث