لم يكن وقوف البنات والشابات فى البلكونات وقد لففن شعرهن ب«الرولو» أمرًا غريبًا، بعضهن تضع عليه إيشاربًا صغيرًا شفافًا، أو حتى يتركنه دون إيشارب، فهن إما عائدات من الكوافير ويردن أن يحافظن على طريقة لفة الشعر، أو حتى قد قمن بلفه دون زيارة الكوافير، بعد الغسيل واستخدام كريم عادى للشعر. مازلت أذكر هذه المشاهد التى رأيتها فى طفولتى للبنات والموظفات حتى نهاية الثمانينيات تقريبا، مرتبطة عندى بقصة الشعر الشهيرة «الأسد» أو المدرجة الملفوفة لأعلى، مع الفساتين «الفسكوز» وهو نوع من القماش القطنى القيّم، بألوان الفوشيا والأخضر والبرتقالى التى اشتُهرت فى تلك السنوات، مع الكعب العالى، خاصة المنتهى بمسمار حديدى، برناته المميزة لمشية كل فتاة. نعم كانت الصبغات منتشرة وكانت بعض الكوافيرات قد بدأت فى استخدام كريمات للفرد، لكن ما كان يميز شعر البنات ومدرسات المدرسة هو الشكل والملمس الطبيعى، البعيد كل البعد عن أشكال «تثبيت» شكل القصة. وحدث أن تزامن غزو العراق للكويت أو ما سُمى بحرب الخليج، وفقد بعض المصريين لعملهم، وعودتهم للاستقرار فى مصر، مع موجة انتشار ارتداء الحجاب بين البنات الشابات، فأراد بعض هؤلاء العائدين أن ينشئ مشروعا يدر له دخلا، فلجأ عدد منهم إلى «الكوافير» رغم أنها ليست صنعته الأصلية، وبدأت تظهر كوافيرات كثيرة فى شبرا مثلا تحمل أسماء مثل «درة الخليج» وما شابه. وتميزت هذه الكوافيرات بالحرص على استخدام أحدث أنواع السيشوار «اليدوى» وليس الذى يشبه المظلة الشهير، والذى مازال موجودا فى كل الكوافيرات ولا يستخدم إلا عند طلب الزبونة فقط، وقد بدأ يظهر أثر هذا النوع الذى تقترب حرارته كثيرا من الشعر، على الشكل الطبيعى للشعر، خاصة مع عدم تمرس صاحبه على استخدامه، بالإضافة إلى المكواة الكهربائية «البيبى ليس» كبديل للمكواة التى تشبه المقص وتسخن على النار ويهدئها الكوافير المتمرس بلمسة سحرية بالماء ويقربها إلى أنفه ليتلمس حرارتها، ويتأكد من مناسبة حرارتها لملامسة الشعر، أو يعيد لمسها بالماء إذا كانت ساخنة أكثر مما ينبغى. «كوافيرات العائدين من الحرب» هذه تميزت أيضا باستخدام مثبتات الشعر «الإسبراى» وغيرها التى كانت موجودة لدى قلة من الكوافيرات وقتها، لكن كان أهم ما يميز تلك الكوافيرات هو حرصها على وضع لافتة «قسم خاص للمحجبات»، حتى إن كان هذا القسم ينشأ بجر ستارة أو باب أوكرديون حسب طلب الزبونة المحجبة، لفصل جزء صغير عن باقى المحل، أو قد يزداد الجزء بحسب نسبة المترددات من المحجبات، ليصبح الجزء الغالب. ولأن أغلب أصحاب هذه الكوافيرات من غير أصحاب الصنعة، فكان من العادى أن يغيروا من العاملين معهم بمجرد شكوى الزبونة من أحدهم، لأن صاحب المحل غير متأكد من خبرة العامل أو العاملة أصلا ولم يختبرها بنفسه، وهكذا يفقد الكوافير تلك الحميمية بين المترددات عليه والعاملين فيه، وبدلا من أن يراقب صاحب الكوافير يد العاملين ومدى إتقانهم، كما يفعل صاحب الكوافير المتمرس، يحاول أن ينظر إلى عين الزبونة أو يسألها قبل خروجها عن رضاها عن الخدمة، مما كان يزيد من قلة ثقة واحدة مثلى فى المكان وفى العاملين فيه، فأعود إلى كوافيرى القديم بدلا من هذا القريب من بيتنا. للسيدات فقط أتذكر أن صديقة أوصتنى على زيارة كوافير فى أغاخان بشبرا، تديره سيدة شاطرة فى القصات زوجها غنى، وفتح لها هذا المشروع، فهى خريجة مدرسة فنية فى قسم متخصص فى المكياج والشعر، بالإضافة إلى تدربها فى كوافير التليفزيون، لكن كان من رأى صديقتى أن أهم ميزة فى الكوافير ذى الطابقين، هو أنه لا يدخله الرجال، وكل العاملين فيه من النساء، وإذا دق أحد الرجال من موردى الشامبو وخلافه، تخرج له العاملة فى الخارج لتتسلم منه دون أن يدخل أبدا للمحل. كان الوقت ظهرا، ولم تكن السيدة الشابة قد حضرت، لكن استقبلتنى العاملات، فقلت أريد فلانة لأنى أريد قص شعرى، وكأى مجتمع مغلق على نوع واحد، يمكنك أن تلاحظ مباشرة عدم اهتمام العاملات بمظهرهن، رغم أنهن يزين بعضهن البعض فى حال عدم وجود زبائن بالمحل، حتى الطابق الثانى يفعلن فيه ما يفترض أن يفعلنه لزبائنهن من إزالة الشعر أو الحمام المغربى وخلافه، فضلا عن اصطحاب إحداهن لرضيعها، وبالطبع لا ينقطع الكلام النسائى والصوت العالى بينهن وكأننا فى مصنع أو مشغل وليس مكانا للاسترخاء. لكن كان أهم ما جعلنى لا أطيق العودة إلى المكان مرة أخرى رغم نظافته الشديدة، هو ذلك السيل من الأسئلة الذى بادرتنى به السيدة عند قدومها، بدءا من سؤالها عن اسمى ودراستى ثم هل أعمل أم لا، وطبيعة عملى وغيرها، وكأنها تريد أن تحسب الخدمة بناء على إمكانيات الزبونة ودخلها، وليس مجرد التعارف العادى الذى لا بد أن يقوم به كل كوافير. خدمات مرفوعة لم يكتب لبعض كوافيرات حرب الخليج الاستمرار طويلا، بعضها تحول إلى حلاق رجالى، وبعضها استمر مع زيادة الطلب على ما تطلبه المحجبات من خدمات تجميلية خاصة محجبات الطبقة المتوسطة أو الأقل، لكن هذه الكوافيرات ألقت بثقافتها على تلك الخدمات، فلم يعد تصفيف الشعر هو الأولوية الأولى، بل صباغته وتنعيمه بالكريمات وحمامات الكريم ومعالجات سقوط الشعر، مع الاهتمام بكريمات وماسكات الوجه ورسم الحواجب بالتاتو أو الحنة أو ما شابه، والباديكير، وشيئا فشيئا توارت صنعة ضبط قص الشعر فى خلفية هذه الخدمات، للدرجة التى قد لا تجد فيها أحيانا من يقدم لك هذه الخدمة فى بعض هذه الكوافيرات، أو يعتذرون بأن المتخصص فى القص لم يأت اليوم . •