أجاب «منتدى التراث الثانى» التراث- الاستثمار-الاستدامة» الذى عقد مؤخرًا، عن الكثير من الأسئلة التى ظلت مثار تساؤل الناس والخبراء معًا، لسنوات طويلة، حول مدى جدوى الاستثمار فى عمارات وسط القاهرة القديمة، وهل من الأفضل أن تديرها الدولة أم القطاع الخاص أم «مزيج بين الاثنين»، وأى الاستثمار أفضل. فى حين ظلت أسئلة أخرى عالقة، بل ربما بعيدة عن الطرح والمناقشة، ففى حين لازال الجدل دائرًا بين أيهما أفضل فى إدارة المبانى التاريخية، الحكومة أم القطاع الخاص، يغيب الحديث عن «معايير جودة» تلك الإدارة، وهل يصبح الربح المادى فقط، هو معيار نجاح إدارتها، وكيف يحسب النجاح، بكم الأموال المستدرة للدافع، أم بكم الأرباح التى تعود على البلد ككل؟ كما ظلت جوانب أخرى بعيدة عن النقاش، رغم أهميتها، مثل :هل يترك أمر شراء المبانى التاريخية لمن يستطيع الشراء والتفاوض مع ملاكها الأصليين فقط، بعيدًا عن الدولة، وأين يبدأ دور الدولة وأين ينتهى، وما القانون الذى يحكم كل هذا، وهل نحتاج إلى قوانين جديدة، تتضمن شروطا للبيع والشراء والإدارة وطبيعة الأنشطة فى استثمار المبانى الخديوية أو التاريخية عموما فى كل المدن المصرية؟ المنتدى هو الثانى الذى ينظمه الجهاز القومى للتنسيق الحضارى برئاسة المهندس «محمد أبوسعدة» للعام الثانى على التوالي، احتفالا باليوم العالمى للتراث الذى يوافق 18 أبريل.. وأشار أبو سعدة إلى دور الجهاز فى الحفاظ على التراث العمرانى والمعمارى المادى واللامادي، باعتباره الإرث الثقافى والحضارى الذى يميز مصر، والذى يعد مخزونًا للأجيال التالية، ومن الواجب حمايته والحفاظ عليه، وهو ما يقوم به الجهاز من خلال مشروعات ترميم وتطوير العديد من مبانى القاهرة الخديوية ومثلث البورصة وشارع الشريفين وشارع الألفى، ومشروع «عاش هنا» الذى يوثق لتراث الرواد والمبدعين، ومشروع «حكاية شارع» والحفاظ على الحدائق التراثية. ويؤكد أبو سعدة أن الجهاز حصر 7000 مبنى تراثى فى مصر، وتعد ركيزة لأرشيف التراث العمرانى المصرى.. وأكد د.«نزار حسن» مدير المشروعات والدعم التكنولوجى بمنظمة اليونسكو، على دعم المنظمة لكل مشروعات التطوير والحفاظ على التراث العمرانى والثقافى فى مصر.. وقال اللواء «أحمد فؤاد» نائب محافظ القاهرة للمنطقة الجنوبية»: إن المحافظة شريك مع جهاز التنسيق الحضارى فى الحفاظ على التراث العمرانى والتصدى للمخالفات والتعديات التى تنتهك خصوصية هذه الطرز المعمارية المتميزة. تجارب ناجحة فى الربح عرض المشاركون فى المنتدى تجارب رائدة للمجتمع المدنى والقطاع الخاص فى الحفاظ على التراث واستثماره، منها تجربة شركة توعية البيئة بواحة سيوة «حضارة النخيل» والتى عرضها المعماري»عماد فريد»، الذى شيد العديد من الفنادق، باستخدام مواد تقليدية من البيئة السيوية، كما فى قرية «إدرار أملال» وتعنى بالأمازيغية «الجبل الأبيض». يحكى عماد رحلته فى تعلم طريقة البناء التقليدية من الجيل الثانى من بنائى الواحة، واستخدامهم للنخل، وجريده والملح الصخرى وورق الزيتون، فى بناء المنازل، وهو ما استخدمه فى بناء فنادق بالواحة، وأنشأ وحدة صرف صحى بيئي «البيو جاز» واستخدم نتائجها فى زراعة أشجار تستخدم فى الصناعة، كما استخدم طريقة تصنيع عروق النخيل، ودفنه بالملح ثم تجفيفه ليستخدم فى الأسقف، لكن تتعرض مهنة البناء بالمواد البيئية والطبيعية للانقراض، وهناك حاجة إلى تعليم شباب البنائين طريقة البناء هذه التى تحتاج للكثير من المهارات، بحسب عماد. جودة الاستثمار فى تراث الإسكندرية المهندسان محمد عبد المجيد ومصطفى أبو العلا، عرضا تجربة شركة «سيجما» بالإسكندرية، لادارة الممتلكات وإعادة استخدام المبانى التراثية، والتى تمتلك 30 مبنى تاريخيًا منذ 1999، بوسط مدينة الإسكندرية، من أهمها مبنى قرداحي، مبنى المواساة، عقار لعائلة زنودكاى.. «نجحنا فى أن نحقق جودة الاستثمار فى المبانى التراثية فى 3 سنوات، فبعد أن لاحظنا تغيرًا فى قيمة بعض العمارات، مثل قرداحى وأجنحة فينسيا، بدأنا فى تطويرها واستخدامها فى العديد من الأنشطة الثقافية، مثل الأمسيات الشعرية والمعارض الفنية، واستطعنا أن نعيد ما أنفقناه خلال 7 سنوات من بدء الأنشطة، لخلق استدامة أكثر للمبنى التراثي». الحفاظ على التراث..تطوير موزون تجربة الحفاظ على تراث القاهرة، عرضها كريم شافعي، وهى تجربة «شركة الإسماعيلية للاستثمار العقارى»، قائلا: «الحفاظ على التراث هو تطوير موزون، وقد يكون مشروعًا استثماريًا ثقافيًا، فى وقت أصبحت فيه اقتصاديات التراث عنصرًا رئيسيًا للحفاظ عليه، بناء على دراسة ما يحتاجه المجتمع، لإيجاد لغة مشتركة بين الاقتصاد والتراث». الشركة تمتلك 23 مبنى تاريخيًا بوسط القاهرة، من بينها مبنى القنصلية الفرنسية، ومبنى سينما راديو، ومبنى رفنوار، وسعت الشركة لشراء العقارات القديمة، وتطويرها والحفاظ عليها وترميمها، بما يحافظ على طابعها المعمارى، من خلال نظام تكييف يحافظ على الواجهات، بمشاركة خبراء فى الترميم. يكمل شافعي: البداية كانت فى 2008، حين تجمع مجموعة مهندسين من محبى التراث المعمارى بوسط البلد، ولم يكن الأمر سهلا، فبعض العمارات كان يملك الواحدة منها 130 وريثًا. بعض هذه العمارات تستخدم فى إقامة مهرجانات، ومعرض فن تشكيلي، وتوفير أماكن لشركات الإنتاج لإعادة تصوير أعمالهم فى هذه العمارات والشقق، «اهتمامنا بعمارات وتراث وسط البلد، هو إعادة لتوثيق المنطقة، بما فيها من مبانٍ وعمران. «التلى» والسمسمية ..حرفة وفن «التلى» الذى تغزله فتيات الصعيد من خيوط وإبرة وقماش، وضعته المنظمة الدولية للثقافة والآداب والعلوم «يونسكو» على قائمة التراث الثقافى، لأنه ينتمى للتراث المادى باعتباره يصنع من أدوات ملموسة، كما ينتمى للتراث اللامادى باعتبار أن رسوماته وفنه ذات مضمون تاريخى، لأنها مأخوذة من التيمات الفرعونية المحفورة والمنقوشة على جدران المتاحف والمعابد. هذا الفن الذى أعيد إحياؤه فى سوهاج، كما تقول دكتورة نوال المسيرى، هو مثال حى على الاستثمار الاجتماعى والاقتصادى للتراث، لأنه غير حياة الفتيات اللاتى انتفعن من عائداته الاقتصادية فى تغيير مستقبلهن. وعن حماية تراث بورسعيد، أوضح رجل الأعمال أيمن جبر، دور جمعيته فى الحفاظ على 50 عملًا فنيًا تراثيًا لآلة السمسمية، لحمايتها من الانقراض، والحفاظ على مجموعة من المبانى التراثية فى بورسعيد، تصل 550 مبنى بحسب الحصر، تم اعتمادها من المحافظ ورئيس الوزراء، بالتنسيق مع الجهاز القومى للتنسيق الحضارى، ومشروع تطوير شاطىء بور فؤاد بالتنسيق مع الجهاز القومى للتنسيق الحضارى، ومشروع تحويل فيلات «300 فيلا» هيئة قناة السويس لمتحف سياحى مفتوح. الإدارة الحكومية.. «صعبة» وقال اللواء محمد بسيونى، رئيس شركة مصر لإدارة الأصول العقارية، التى تمتلك 182 مبنى تاريخيًا، 94 منها بمنطقة المثلث التاريخى «العتبة التحرير، رمسيس» و17 عقارًا بمصر الجديدة و12 بالإسكندرية و9 فى بورسعيد، إن جددت الشركة هذه العقارات وطورتها، رغم صعوبات التطوير: فى معالجة المياه الجوفية، ومشكلات الصرف الصحى، وتشويه الواجهات بالإعلانات، وتهالك المداخل والسلالم، والمناور والأسطح، واستخدام البدرومات وغرف الأسطح كمصانع للحلوى، وسكن للباعة الجائلين، وتحضير الطعام. شكلت الشركة لجنة لدراسة هذه المشكلات، ووضع خطة عاجلة وأخرى طويلة للعلاج ووقف التدهور، وصيانتها، إلا أن ارتفاع تكلفة الصيانة تحول دون تطويرها، وترك الأمر لاتحاد شاغلى العمارات. منظومة لإدارة التراث د. رامز لاشين، أستاذ الاقتصاد بالجامعة الأمريكية، دافع عن التجارب العربية والعالمية، فى الحفاظ على مراكز المدن التراثية بعمائرها التاريخية، التى يمكن أن تدر ربحًا اقتصاديًا ورواجًا سياحيًا، مثل تجربة مدينة «ديتروتب» قلعة صناعة السيارات فى أمريكا، التى أعيد تطويرها وإحياؤها. وإحياء وتطوير منطقة الدرب الأحمر، وكيف أن تطوير منطقة أثرية، يوازى إنشاء مصنع جديد، فقد وفرت عمليات التطوير نحو 400 فرصة عمل فى إنشاء حديقة الأزهر، والأمر نفسه حدث مع تطوير مركز دبى التاريخى، الذى تحول إلى سوق يجذب نحو 25 مليون سائح سنويًا. فى المقابل لم تلق تجربة شركة سوليدير فى مركز سيرت ببيروت، نفس النجاح، والذى دمر خلال الحرب الأهلية، لأن الشركة وهى تعيد بناء المنطقة، فرغتها من سكانها الأصليين، والمعروفين بأنشطتهم التراثية، ففقدت المنطقة طابعها الأصيل. ويوضح د. رامز، أن السائح «التراثى» يقوم بضعف زيارات السائح العادى، بحسب التجارب السابقة، بما يعود بعائد اقتصادى أكبر على المناطق التراثية المطورة، مما يعنى أن «عمليات إحياء التراث العمرانى ليست عبئا اقتصاديا». أما د. ياسر صقر، رئيس جامعة حلوان السابق، فقال إنه ليس لدينا فى مصرمنظومة لإدارة التراث، ولابد من وجود آلية للحفاظ على هذه الثروة العقارية، بشكل مستمر، يضمن لها الاستدامة، وحمايتها من الأخطار، مثل الحرائق، كالتى حدثت للمسافر خانة التى احترقت عن آخرها، كما يجب أن تكون هناك سياسات تساهم فى استدامة الاستثمار فى مشروعات إعادة إحياء الأماكن التراثية والارتقاء بها.