هذا العام تمر مائة عام على اندلاع ثورة 1919، التى انطلقت شرارتها فى 9 مارس من ذلك العام، منذ مائة عام. ومن بين اللحظات الخالدة فى تاريخنا الحديث، تبدو هى الأكثر شعبية والأعمق تأثيرًا، والأحفل بالثمار الناضرة، والتى لم يخب بريقها على مر الأيام. والثمار التى تساقطت من شجرتها، لاتزال ماثلة أمام عيوننا. والفترة التى توصف – غالبًا – باسم الفترة الليبرالية، والتى تمتد بين ثورة 19 وثورة 1952، هى التى عرفت تطبيق مبادئ المساواة والمواطنة وقدرًا من الديمقراطية، بدرجة غير مسبوقة. وقد يرى البعض، أنها لم تحقق كل ما قامت من أجله. وأنها توقفت فى منتصف الطريق. وأنها لم تنجح فى تحقيق الاستقلال الكامل، وإجلاء قوات الاحتلال، وأن القادة غرقوا فى مستنقع الصراع على المغانم والمناصب. ولكن بعد مضى هذا الوقت الطويل، وقد هدأ الغبار، فإن التقييم الهادئ والموضوعى، ينصف هذه الثورة، ويرى أن إيجابياتها أكبر وأعظم، وأن نور شمسها لم ينطفئ، بل يزيد مع مرور الأيام تألقًا. ولا يقول بهذا أنصارها فقط، ولكن حتى أعداؤها، مثل بعض أنصار الحزب الوطنى، الذى لم يشارك فى الثورة. وكان دوره قد انتهى عند قيام الثورة، وكان زعيمه محمد فريد فى المنفى، حيث مات بعد ذلك بقليل. ويكفى هذه الثورة إنجازًا، أنها جعلت الشعب رقمًا فاعلاً، بين القوتين القائمتين آنذاك. وهما القصر والإنجليز. إذ بعد ثورة 19، وليس قبلها، أصبحت القوى السياسية ثلاثًا: القصر والإنجليز والشعب الذى أصبح يمثله حزب الوفد، فبعد انتزاع الاستقلال ذاتيا، والخلاص من الهيمنة العثمانية الاسمية، والاستمرار فى السعى للخلاص من الاحتلال الإنجليزى والنضال فى نفس الوقت ضد الملك، فى سعى لتقليص نفوذه بالاستعانة بدستور 1923، والتفاوض مع الإنجليز لتحقيق الاستقلال التام. وكانت الفترة الليبرالية بطولها، مجالاً للتصارع بين القوى الثلاث. وفى كل مرة تجرى فيها انتخابات حرة، فإن الشعب كان يختار حزب الوفد الذى يحمل راية الأمانى الوطنية. ولم يتحقق مبدأ المواطنة، وقيام العلاقة على أساس الرابطة الوطنية وليس الدينية، كما تحققت فى تلك الفترة. وكان شعار «الدين لله والوطن للجميع»، لا يغيب عن الأعين. وكان الوفد يحرس هذا المبدأ، بكل اليقظة، ويذكر المؤرخون بإعجاب لإصرار النحاس باشا على الوقوف فى وجه الملك فاروق، عندما استمع لنصيحة مستشاريه، بحلف اليمين فى الأزهر ليكون الدين مصدر شرعيته فى مواجهة الوفد، واعترض النحاس بحسم وإصرار، حتى رضخ الملك وحلف اليمين فى البرلمان. وعندما جاء محمد على جناح مؤسسى دولة باكستان، بعد انفصالها عن الهند تأييد مصر كدولة إسلامية. فقد تعمد النحاس أن يرسل له إبراهيم فرج مسيحة الوزير الوفدى ليستقبله، ثم يصارح الزعيم الباكستانى عند لقائه، أنه لم يكن يتمنى أن تقوم دولة على أساس دينى. وكان يتمنى أن تظل الهند موحدة. لقد رسخ مبدأ علمانية الدولة، منذ تلك اللحظة. ومازلنا نعيش على هذا التراث، رغم كل المحاولات التى بذلها ويبذلها التيار الذى يمثله الإخوان. الشخصية المصرية وإعادة الروح المصرية، والشخصية المصرية لكل أوجه الحياة، وجد أهم وأعظم تجلياته فى تلك المرحلة. وكان هذا الهدف فى صلب المطالب، التى صاغتها النخبة، التى مهدت الأرض لانطلاق الثورة. فى مواجهة التيارات التى تناضل لتحقيق الاستقلال تحت راية الحكم العثمانى وغيره. وتدريجيًا كان هذا الحلم يتحقق فى الأدب والفن والنحت والرسم والشعر والموسيقى والغناء. وما كان لتماثيل مختار الخالد، وموسيقى سيد درويش الأصيلة، وأشكال الرواية المسرح أن تولد معبرة عن الروح المصرية، لولا هذه الدقة الهائلة التى دعت إليها الثورة وبشرت بها. والملمح الرئيسى الذى يميز ثورة 19، أنها ثورة شعبية بكل معنى الكلمة. لم تحركها قيادة أو حزب أو بيان، إنما خرجت من قلب الشعب تلقائيًا. الشعب كله هب فى صوت واحد وصف واحد، يطالب بإلغاء الحماية وزوال الاحتلال، والنخبة المصرية بكل أطيافها، عبرت عن مفاجأتها بالثورة، النخبة التى مهدت لهذه اللحظة، فوجئت بحجم وشمول المظاهرات والإضرابات ومواجهة جنود الاحتلال بصدور عارية. لم يوقفها الضحايا الذين سقطوا والتعذيب والسجن والإعدادات التى مارسها المحتل. وحتى سعد زغلول نفسه، القائد الذى توحد مع الثورة، بعد قيامها اعترف أن ما حدث كان مفاجئًا له. وإلى جانب هذا الاندفاع التلقائى يجىء الشمول الذى طبع حركتها منذ اليوم الأول. فالمشاركة عمت الوطن من أقصاه إلى أقصاه. وبكل طوائفه وطبقاته وأديانه ورجاله ونسائه. وكما عبر أحد المؤرخين المعاصرين – الدكتور عبدالخالق لاشين – عن هذا المعنى قائلا: من حيث شمول الثورة وقوميتها، فقد وقفت الأمة المصرية بطبقاتها وفئاتها وطوائفها وعناصرها المختلفة، من فلاحين وباشوات، أميين ومتعلمين، مسلمين وأقباط، رجال ونساء، من خلف قادة الثورة، تدافع بشجاعة كبيرة وتضحية هائلة عن المبادئ التى تمثلها، كما شملت مصر بأسرها، ريفها وحضرها وبواديها، قراها ومدنها وعواصمها، إلى الحد الذى أعلنت فيه الكثير من المدن، فى مختلف أنحاء البلاد استغلالها، وأكثر من ذلك فإن الثورة قد شملت القائمين على مؤسسات الدولة سواء المدنية أو العسكرية، فلم يتخلف عنها الموظفون ورجال البوليس وطلاب المدارس الحربية». وبمناسبة مئوية الثورة، أصدرت بعض الهيئات، دراسات وكتبًا، تذكر بوقائع تلك الأيام الخالدة، منها العدد الخاص من مجلة ذاكرة مصر، التى تصدرها مكتبة الإسكندرية، ضم دراسات معاصرة قيمة. كما أعادت الهيئة العامة لقصور الثقافة طبع بعض الكتب التى تتعلق بهذه الذكرى. سجين ثورة 19 من بينها كتاب «سجين ثورة 19» للدكتور محمد مظهر سعيد. وقد سمعت بهذا الكتاب، عند صدوره فى الستينيات من القرن الماضى. ولم تتح لى قراءته. وها هى فرصة قراءته، تلوح لى فى أخريات العمر، بفضل قصور الثقافة ويجىء الكتاب بالنسبة لى مفاجأة. مفاجأة بكل معنى الكلمة. فلا أظن أن كتابًا يمكن أن يعبر عن روح هذه الثورة وطابعها، كما يمكن أن يعبر هذا الكتاب. فالكتاب يشرح كيف شاركت محافظة أسوان فى ثورة 1919. ولم يكن أحد يعرف أن أسوان لم تتخلف عن المشاركة الفعالة. وحتى المؤرخ الكبير عبدالرحمن الرافعى، توقف فى كتابه عن ثورة 19، عند أسيوط، وما أن قرأ ما كتبه مظهر سعيد، حتى عبر عن أسفه. ووعد إذا أسعفه الزمن، وأعد طبعة جديدة، فإنه سيعتمد على ما كتبه مظهر سعيد. وليس هناك نص، يمكن أن يؤكد بكل حرف فيه شعبية هذه الثورة، وشمولها، وتلقائيتها كما يعبر هذا النص. فها هو بلدنا، وفى وقت لم تكن وسائل الاتصال بالسرعة التى أصبحت عليها بعد ذلك، يشارك وفى نفس الأسبوع، وبنفس الشعارات. ولم يهتم الذين تصدروا مشاركة أسوان، وفى مقدمتهم مؤلف الكتاب، أن يعرف أحد شيئًا عن دورهم ونشاطهم. لأنهم يعتبرونه واجبًا وطنيًا، لا يحتاج لمثوبة وإشادة. فهو لم يكتب يوميات هذه المشاركة، إلا فى النصف الثانى من ستينيات القرن الماضى. ومن حسن الحظ أنه كان من الذين يسجلون يومياتهم ومذكراتهم يوميًا. ولذلك جاءت شهادته دقيقة، تسجل باليوم والساعة والأسماء ما حدث. والمؤلف نفسه نموذج للمواطن المهتم بالشأن العام، منذ صغره، وهو ليس من أبناء أسوان، ولكنه نقل إليها مدرسًا للغة الإنجليزية فى إحدى مدارسها، هربًا من ملاحقة الإنجليز له فى القاهرة، بسبب نشاطه السياسى. ولكنه اصطدم بالحكام الإنجليز فى أسوان. الحكم بالإعدام ويحكى بالتفاصيل وقائع الإعداد لمظاهرة ضد الاحتلال، تطوف بأنحاء أسوان يوم 15 مارس 1919، وكيف تكونت لجنة تنفيذية ضمت ممثلى التجار والأعيان والموظفين، واتخذت ثمانية قرارات أولها: تأليف مجلس وطنى من الأعضاء الحاضرين، يتولى الحكم المحلى بمديرية أسوان، ولجنة تنفيذية برئاسة محمد مظهر وعضوية محمد حبيب أحمد نقيب الميرغنية والشيخ مصطفى قديس ممثل الأعيان والتجار وجبالى عبدالغنى ممثل العربان. وروى بالتفصيل خطة حمايتهم لخزان أسوان، بعد أن هدد المهندسون الإنجليز بنسفه، وكيف أحبطوا هذه الخطة. ويشير إلى دور المهندس أحمد حسنين فى إحباط المخطط. ويقول إنه «بطل يستحق تقدير الوطن» وهو يقول هذا لأول مرة بعد أربعين عامًا على هذه الأحداث. ونعرف من الكتاب أنه تم القبض على القادة، يوم 27 مارس، بتهمة تنفيذ تعليمات الوفد المصرى، عن طريق رسول جاء من مصر. وظلوا رهن الاعتقال أربعة أشهر. وذكر بالتفصيل معاناتهم فى السجن، الذى كان يشرف عليه مصريون من أعوان الاحتلال. وحاكمهم مجلس عسكرى بست تهم. ولم تستغرق المحاكمة أكثر من دقائق، أعلنوا بعدها أنه تم الحكم عليهم بالإعدام. وتحدد يوم الحكم، بل إنهم سيقوا إلى ساحة الإعدام. وبينما الضابط الإنجليزى يقرأ الحكم، حدثت معجزة، إذ جاء رسول همس فى أذن الضابط الإنجليزى، أنه تقرر تحويلهم إلى محكمة عسكرية خاصة بمحاكمة المدنيين. ونجوا من الإعدام بمعجزة. هذه الشهادة تقدم صورة، لما حدث فى كل أرجاء مصر، هذا الانفجار التلقائى الذى أشعله ما فعلته مظالم المحتلين طوال الحرب العالمية الأولى، وللمشاركة غير المحدودة للمواطنين. ولحجم التضحيات المبذولة لوجه الوطن دون انتظار لمغنم غير رفعة الوطن وتحقيق أمانيه. النخبة والزعيم ولا يمكن الحديث عن ثورة 19، دون الحديث عن سعد زغلول الزعيم الذى نجح فى الإمساك بزمام الأمور، ودفة القيادة باقتدار، وكسب ثقة المواطنين بدرجة أ قل أن يكون لها نظير. ولم يكن سعد زغلول غريبًا عن الحركة الوطنية، بل كان أحد أركانها، منذ انخراطه فى العمل العام ومشاركته فى الثورة العرابية، وهو فى التاسعة عشرة من عمره، وسجنه بعد الثورة ثم الإفراج عنه بعد قليل. وكأنما كانت حياته كلها إعدادًا وتمهيدًا، لتسلمه زمام الثورة، وهو شيخ فى التاسعة والخمسين من عمره. حياته وخبراته وتكوينه وفهمه لأوضاع بلده، وضعت القيادة بين يديه بجدارة، فهو من أصول ريفية يعرف الفلاحين جيدًا، وقريب من الأعيان، بل إنه صاهرهم وأصبح من أعلامهم، وجمع بين الثقافة الأزهرية والغربية. وانفتح على تيار الإصلاح الدينى الذى قاده محمد عبده. وملك ناصية البيان فكانت خطبه قادرة على رص الصفوف وتوحيد الرؤية وتعامل مع ممثلى الاحتلال دون التفريط فى الحقوق الوطنية. وقد وصلت حالة التوحد بين هذا الزعيم والشعب درجة نادرة، إلى درجة أنه عندما اختلف معه معظم أعضاء الوفد، وبدا أحيانا وحده، إلا أن الخيط السحرى بينه وبين الجماهير لم ينقطع أبدًا. وإذا كان المؤرخون يأخذون عليه بعض الهفوات، فإنهم فى النهاية لا ينكرون أصالة زعامته وجدارته وحسه الوطنى العميق وخبرته السياسية التى صنعها بمواهبه وكفاءته عبر السنوات. وكذلك لا يمكن عدم التوقف طويلا عند النخبة التى ارتبطت بثورة 19، سواء تلك النخبة العظيمة، التى قدر لها أن تحرث الأرض وتمدها لتلك اللحظة الخالدة، منذ الربع الأخير من التاسع عشر، فى الصحف والأحزاب والصالونات والخطب، وبناء المؤسسات، التى لم تكن جامعة القاهرة إلا مثلا واحدا من بينها. والنخبة التى شاركت فى أتون الثورة نفسها. بل وتلك التى عاصرت وهج الثورة ونيرانها.. وهم صغار وتلقت إلهامها وظلت تحمله طوال حياتها. والجيل الذى أنتمى إليه، عاصر كثيراً ممن كانوا يعتبرون أنفسهم أبناء ثورة 19، ويقولون هذا بفخر وثقة واعتزاز. كثيرا ما كان لويس عوض ويحيى حقى، يكررون نحن أبناء ثورة 19، وكذلك نجيب محفوظ وكنا صغارًا، لا نفهم هذا الولاء والمغزى العميق له، إلا بعد أن كبرنا، وعرفنا الروح الملهمة التى غرستها تلك الأيام فى النفوس. إن الروح الوطنية، ومبدأ «مصر المصريين» الذى ميز الثورة العرابية، وربما قبلها منذ أواخر القرن الثامن عشر، كان تطبيقه العملى فى السياسة والثقافة والاقتصاد والحياة الاجتماعية من نتائج ثورة 1919. وجاءت ثورة 1952، حلقة ثالثة من حلقات النضال الوطنى، لتبنى على ما شاده الآباء. •