ليس كل الأثرياء فاسدين، فهناك من ورثوا ثروات كبيرة من آباء وأجداد ماتوا تاركين سمعة طيبة وملايين أكثر طيبة، وهناك من أصبحوا أثرياء بالصدفة حين لعب معهم الزهر بما يرضيهم فأمطرت سماؤهم دولارات، وهناك طبعًا موهوبون فى البيزنس يحولون التراب إلى ذهب بمشاريع لا حاجة حقيقية لها. هؤلاء يعيشون فى الضوء، ولا يخشون الحديث عن ثرائهم، ويبالغ بعضهم أحيانًا فى الحديث عن عصامية مزعومة حققت هذا النجاح المبهر، رغم أن القدر والحظ أحيانًا هو الذى صنع الكثيرين منهم. أما الآخرون، أعنى الأثرياء المشبوهين بالفساد، مثل المتكسبين من المواقع الوظيفية، وتجار الحروب والأزمات، وسماسرة الصفقات، والمرتشين، والذين يشتغلون فى الممنوعات، فإنهم يتجنبون الحديث عن ثرواتهم، ويفضلون البقاء بعيدًا عن الأضواء، ويرعبهم سؤال «من أين لك هذا؟» ويعتبرون ثراءهم سرًا مقدسًا لا يجوز كشفه أو السؤال عنه؟ عرفت الكثيرين من أثرياء الصدفة ومن أثرياء الشبهة أيضًا، واستطعت بحكم المهنة دخول عوالمهم، وادهشتنى الفوارق بينهم فى الوعى وفى أسلوب الحياة، فمنهم من يعيش حياة عادية ويكتفى بالقليل، ومنهم من يبذخ حد البطر، ويبالغ فى كل شيء، لأنه كسر القاعدة، واستطاع تحويل المحلوم به إلى متاح ومتوفر بمجرد إشارة من اليد أو نظرة عين. لكنهم، رغم الفوارق الكبيرة بينهم يتفقون جميعًا على كتمان سر المليون الأول، وكيف تم جمع هذا المليون و«تحويشة» بعرق الجبين أو بإراقة ماء الوجه. ذات سنة بعيدة، وفى لقاء مع مليونير محدث نعمة، طرحت السؤال الصعب، ولم أكن أتوقع أن يستجيب الرجل وأن يجيب على السؤال، لكنه فاجأنى حين اقترب منى ليتحول كلامه إلى همس وهو يشرح لى بالتفصيل كيف استطاع جمع مليونه الأول.. قال الرجل المتكرش: كان معى دينار واحد، اشتريت به دجاجة صغيرة، أخذتها معى وأطلقتها فى حوش البيت، ونمت. فى صباح اليوم التالى كانت الدجاجة قد وضعت بيضة، قاومت رغبتى بسلقها وتناولها على الإفطار، وتركتها لترقد عليها. ثم فقست البيضة كتكوتًا صغيرًا حرصت على إطعامه ما توفر من حبوب، فكبر الكتكوت وصار فرخة تبيض، وكانت أمه تبيض أيضًا وترقد على البيض حتى يفقس كتاكيت تكبر وتصير فراخًا، وما هى إلا أشهر قليلة حتى امتلأ حوش البيت بالفراخ، فصرت أبيع الفراخ اللاحمة وأبقى على الفراخ البياضة لتواصل وضع البيض وتفقيسه. اعتدل الرجل المتكرش فى جلسته، وغامت عيناه وهو يستل مشاهد بعيدة من ذاكرته الكسولة، وواصل حديثه: بعد وقت قصير وفر لى بيع الدجاج اللاحم مبلغًا محترمًا من المال، اشتريت به عددًا كبيرًا من الدجاج واستأجرت قطعة من الأرض على طرف القرية وحولتها إلى مزرعة للفراخ، وواصلت بيع الدجاج اللاحم والبيض لسكان القرية، ثم صرت أشحن كميات من الفراخ والبيض إلى سوق المدينة، حتى استطعت جمع المليون الأول الذى أتاح لى الانطلاق فى مشاريع أخرى بعيدة عن الدجاج، فاستثمرت فى شراء وبيع العقار قبل أن أنشئ شركة للمقاولات جعلتنى من أثرياء القوم المعدودين. على سذاجتها، راقت لى الفكرة، وأقنعت نفسى بتصديق الرواية، واعتقدت أننى امتلكت سر المليون الأول، ولم يعد هناك ما يحول بينى وبين الثراء. ذهبت إلى السوق لأشترى دجاجتى الأولى، لكننى فوجئت برؤية الأبواب المغلقة، وعرفت أن الحكومة قررت منع بيع الدجاج وكل أنواع الطيور فى إطار حملتها للوقاية من أنفلونزا الطيور التى اجتاحت البلاد قبل أيام. قيل لى إنه إجراء وقائى مؤقت، ولن يدوم الإغلاق أكثر من أيام قليلة. لكن حماسى، وتوقى للثراء كان طاغيًا على تفكيرى.. وعلى طريقة المنحوس المحروم حتى من الفانوس، وصلت إلى حل وسط، واشتريت دجاجة مجمدة، وضعتها فى الثلاجة فوق علبة البيض! بالطبع لم يفقس البيض، ولم أصبح مليونيرًا، وتبدد حلمى بالثراء، واستكنت إلى حقيقة كونى منحوسًا، لكن نحسى كان أقل قسوة من نحس صديقى الصحفى الذى كنت قد رويت له قصة المليون الأول، فأعجبته الفكرة، وقرر شراء دجاجة، وعندما وجد سوق الطيور مغلقة ذهب إلى قرية صغيرة على أطراف المدينة واشترى طائرًا داجنًا، وكانت صدمته عنيفة حين اكتشف أنه لم يشتر دجاجة بل ديكًا يصيح كل يوم ليذكره بفقره. أستذكر قصتى مع الفرخة التى لم تبض ذهبًا وأنا أقرأ قائمة فوربس لأغنى أثرياء بلادنا.