جامعة الجلالة تحصل على المراكز الأولى في مسابقة الابتكار الصحي وريادة الأعمال    أخبار الاقتصاد: ارتفاع أسعار اللحوم والبيض الأبيض اليوم.. قفزة في سعر الجنيه الذهب بختام التعاملات.. والبورصة تخسر 5 مليارات جنيه    الأونروا تكشف كارثة بشأن احتياطي المواد الغذائية والوقود بقطاع غزة    أخبار الرياضة اليوم: موقف الأهلي من العرض السعودي ل إمام عاشور.. إعلان قائمة المنتخب الأولمبي.. وبدء حجز تذاكر مباراة مصر وبوركينا    مانشستر سيتي يفوز بجائزة أفضل فريق في العالم لعام 2024    هيئة الدواء تغلق عدداً من مخازن الأدوية المخالفة    استمرار سهرات المهرجان الدولى للطبول وسط حشد جماهيري كبير (صور)    أمين الفتوى يوضح هل تسقط الصلاة الفائتة بعد الإفاقة من البنج    الاتحاد السكندري يعلن قبوله دفعه جديدة من الناشئين بسعر رمزي لشراء استمارة التقديم    القبض على «ٌقمر الوراق» بحوزتها 2.5 كيلو «حشيش» (التفاصيل الكاملة)    محافظ أسوان يترأس اجتماع مجلس الصحة الإقليمي (تفاصيل)    بدء الاختبارات الشفوية الإلكترونية لطلاب شهادات القراءات بشمال سيناء    ننشر أسماء المتقدمين للجنة القيد تحت التمرين في نقابة الصحفيين    "هيئة الدواء" توقع مذكرة تفاهم مع "مركز مراقبة الدولة للأدوية" بكوبا لتبادل الخبرات    محافظ جنوب سيناء يترأس الاجتماع الأسبوعي لمتابعة الموقف التنفيذي للمشروعات    شركات محددة تستحوذ على "نصيب الأسد"، اتهامات بالتلاعب في تخصيص الأراضي بالدولار    ضبط شخص يدير صفحة عبر "فسيبوك" للنصب على أهالي كفر الشيخ    رئيس الأعلى للإعلام يشيد بالعلاقات القوية بين مصر والسعودية    تعاون جامعة عين شمس والمؤسسة الوطنية الصينية لتعليم اللغة الصينية    لاعب أرسنال: الأعين كلها نحو رفح    متى يلزم الكفارة على الكذب؟.. أمين الفتوى بدار الإفتاء يوضح    إصابة جندي بولندي في عملية طعن على يد مهاجر غير شرعي    كشف ملابسات سرقة سائق بإحدى شركات تطبيقات النقل الذكي حقيبة سيدة    الخميس.. قصور الثقافة تقيم حفل أغاني موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب بمسرح السامر مجانا    قومية سوهاج تقدم عرض اللعبة ضمن موسم مسرح قصور الثقافة بالصعيد    محافظ الإسماعيلية يشيد بدور مجلس الدولة في فض المنازعات وصياغة القوانين    عضو تنسيقية تقدُّم: إعلان مجلس السيادة السوداني عن حكومة كفاءات وشيكة تهديدٌ للقوى المدنية    تعرف علي مناطق ومواعيد قطع المياه غدا الاربعاء بمركز طلخا في الدقهلية    روسيا تطور قمرا جديدا للاتصالات    «الضوابط والمحددات الخاصة بإعداد الحساب الختامي» ورشة عمل بجامعة بني سويف    رئيس جامعة بني سويف يشهد الاحتفال بيوم الطبيب    رئيس جامعة بني سويف يكرم الدكتور محمد يوسف وكيل وزارة الصحة السابق    شبانة: لجنة التخطيط تطالب كولر بحسم موقف المعارين لهذا السبب    اشترِ بنفسك.. رئيس "الأمراض البيطرية" يوضح طرق فحص الأضحية ويحذر من هذا الحيوان    برلماني: الرئيس يثق في قدرة الحوار الوطني على وضع رؤية اقتصادية جديدة للدولة    القبض على المتهم بقتل صديقه في مشاجرة بقليوب    شروط ومواعيد التحويلات بين المدارس 2025 - الموعد والضوابط    محافظ مطروح يشهد ختام الدورة التدريبية للعاملين بإدارات الشئون القانونية    موعد إجازة عيد الأضحى المبارك 2024.. تصل إلى 9 أيام متصلة (تفاصيل)    «صحة المنيا» تنظم قافلة طبية بقرية البراجيل في ملوي غدًا    دفاع الفنان عباس أبو الحسن: تسلمنا سيارة موكلى ونتتظر سماع أقوال المصابتين    الطب البيطرى: تحصين 144 ألفا و711 رأس ماشية ضد الحمى القلاعية بالجيزة    سياح من كل أوروبا.. شاهد رحلات جولات البلد على كورنيش الغردقة    بشرى للمواطنين.. تفاصيل حالة الطقس ودرجات الحرارة حتى نهاية الأسبوع    خلال زيارته للمحافظة.. محافظ جنوب سيناء يقدم طلبا لوفد لجنة الصحة بمجلس النواب    فيلم السرب الأول في شباك تذاكر أفلام السينما.. تعرف على إجمالي إيراداته    محافظ الجيزة: تطوير وتوسعة ورصف طريق الطرفاية البطئ    إسرائيل تعتقل 22 فلسطينيا من الضفة.. وارتفاع الحصيلة إلى 8910 منذ 7 أكتوبر    تفاصيل الساعات الأخيرة في حياة فؤاد شرف الدين.. «كان يقاوم الألم»    نسألك أن تنصر أهل رفح على أعدائهم.. أفضل الأدعية لنصرة أهل غزة ورفح (ردده الآن)    رئيس وزراء إسبانيا: نعترف رسميا بدولة فلسطين لتحقيق السلام    مركز الأزهر للفتوى الإلكترونية يوضح فضل حج بيت الله الحرام    توقعات الأبراج اليوم الثلاثاء 28 مايو 2024.. مكاسب مالية ل«العذراء» ونصيحة مهمة ل«الميزان»    كارول سماحة تعلق على مجزرة رفح: «قلبي اتحرق»    دويدار: الجزيري أفضل من وسام أبو علي... وأتوقع فوز الزمالك على الأهلي في السوبر الإفريقي    حمدي فتحي: أتمنى انضمام زيزو لصفوف الأهلي وعودة رمضان صبحي    عضو مجلس الزمالك: إمام عاشور تمنى العودة لنا قبل الانضمام ل الأهلي.. ولكن!    مدرب الألومنيوم: ندرس الانسحاب من كأس مصر بعد تأجيل مباراتنا الأهلي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



القرية المصرية التى كانت..
نشر في صباح الخير يوم 10 - 10 - 2018

عشت الستة عشر عامًا الأولى، كلها، من حياتى، فى قريتى بصعيد مصر. وأول مرة أغادر فيها دروبها ومبانيها الطينية وشمسها ولياليها التى لا يبدد ظلامها إلا ضوء خافت شحيح، كانت سنة 1958، للالتحاق بالجامعة، وبداية طريق وعالم مختلف. كم تغيرت هذه القرية اليوم، تغيرا عاصفا، ولم تبق القرية القديمة، إلا فى أذهان القليلين الباقين، من ذلك العهد، الذى يبدو لهم اليوم مغرقا فى القدم.
وتقدم السطور التالية، قطعة من ذلك الماضى، الذى لابد أن تمتد عصارة منه، فيما يلى من أيام وسنوات. وتدور تلك الذكريات، حول والدى - رحمه الله - وهو من مواليد سنة 1903، وحين تفتح وعينا، كان هو فى أربعينيات عمره، وفى قمة حيويته. ولكننا لم نتفهم مغزى الطريق الذى سار فيه، إلا بعد أمد.
فقد التحق بالأزهر الشريف سنة 1923 أو 24، وكان عمره وقتها عشرين عاما. وهى سن متأخرة لبدء الدراسة، ولم أعرف الظروف وراء هذا الأمر. ولكنه لم يكن خلال تلك السنوات، التى عاشها فى قريته، بعيدا عن طلب العلم، فقد كان يسعى إليه حيثما تيسر، سواء فى مدينة قوص القريبة، أو فى قرية أبنود، حيث ذاع صيت الشيخ على الكريتى، الذى كان يلقى دروسه فى ساحة عائلة شاهين المعروفة فى قرية أبنود.
فهو حين وصل إلى الأزهر، حيث لم تكن هناك معاهد دينية بالأقاليم، لم يبدأ من الصفر.
وكان أحرص ما يكون على تعويض ما فاته، دون أى تهاون، فقد حصل على الشهادة الابتدائية الأزهرية، فى فترة أقل من السنوات الأربع المقررة، بل إنه حصل إلى جانبها على شهادة تتيح له التدريس فى المدارس الأولية - الابتدائية اليوم - كما أنهى دراسة كانت متاحة ليلا للراغبين، فى مدرسة خليل أغا لتحسين الخطوط وهى الوحيدة آنذاك التى تقوم بهذه المهمة، حفاظا على الخط العربى.
واستعد لإنهاء المرحلة الثانوية، فى سنوات أقل من الخمس المقررة، وتقدم بطلب إلى الشيخ المراغى شيخ الأزهر، بهذا المعنى، ولكن الشيخ الفاضل اجتمع بأصحاب هذه الطلبات، وأبلغهم برفضه قائلا: نحن لا نعطى شهادات، نحن نريدكم أن تتضلعوا فى العلم، وتتعلموا من الحوار مع شيوخكم.
العودة
وبهذا اضطر للعودة إلى بلده، ليساعد أباه فى زراعة الأرض، فقد كان وحيد أبويه، وفضل العمل فى الأرض، على الوظيفة التى كانت متاحة أمامه، وفعلا نجح فى مضاعفة كمية الأرض وإنتاجها.
وهذه المقدمة ضرورية، لتمهد للحديث عن واحد من الأدوار المهمة، التى قام بها بين صفوف أهل قريته، من الفلاحين البسطاء.
فقد عاد إلى قريته، حاملا رسالة الشيخ محمد عبده فى الإصلاح الدينى، وهى التى حملها بعض تلاميذه من بعده، وكان من حسن حظه أن درس على أحد التلاميذ المباشرين للشيخ محمد عبده - الشيخ السمالوطى ربما.
وتشبع بأهداف وفحوى هذه الرسالة التى كانت فى باطنها ثورة تريد أن تجعل من الدين أداة للتقدم والنهوض بالوطن، وليس مجرد طقوس. وكان طبيعيا أن يصطدم بالشيوخ القائمين على المسجد الكبير والوحيد بالقرية. ونجح فى بناء مسجد آخر، يخطب فيه الجمعة، ويلقى دروسا فى بعض المناسبات، ويدعو إلى كل ما كان الإمام محمد عبده يرى فيه إنقاذا للدين من أيدى الذين جعلوه وسيلة للتخويف والسيطرة على العقول وإنتاج التخلف. وسأتوقف فقط عند دور أراه مهما، وقد لا يحس أحد بأثره المباشر، ولا ينتبه إليه كثيرون.
هذا الدور هو المجموعة من أبيات الشعر والآيات القرآنية والأحاديث النبوية والحكم والأمثال والكلمات المأثورة التى كان يتمثل بها، وتأتى فى الوقت المناسب وينطقها بوضوح، وحين تدوى فى الفضاء تبدو كأنها القول الفصل، تصل إلى قلوب السامعين، ولا يختفى صداها أو يتبدد فى الهواء أبدا. أتذكر وأنا طفل، سمعت منه حديثا منسوبا إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لا تسرف فى الماء ولو كنت على نهر جارٍ». وكان ذلك بمناسبة احتفال بتشغيل أول ماكينة رى أقامها فى القرية، وكان الأصدقاء والفلاحون يترقبون الماء المتدفق إلى قناة محفورة أمام فوهة الماكينة، ولمح عم أبوالروس وهو يتوضأ ويكبش من الماء الوفير بلا حساب، فذكر له الحديث السابق، ضاحكا. وبعد سنوات طويلة، سمعت عم أبوالروس، يستشهد بهذا الحديث، وهو الأمى، ينبه من حوله إلى عدم التبذير، حتى مع الوفرة. ولا أذكر كم مرة سمعت منه هذا البيت:
ما حكَّ جلدك مثلُ ظفرك
فتولّ أنت جميع أمرك
ودائما يأتى البيت الحكيم فى موضعه تماما، وكأنه يشير بسهم إلى ما يجب أن يكون. ومن الطبيعى أن يتغلغل فى دمى. لم أدهش حين وجدتنى منذ أيام، أكرر البيت، على مسامع حفيدتى ليلى ذات الاثنى عشر ربيعا.
العمدة
وحين أصبح عمدة للقرية، كان عليه أن يفصل فى كثير من الخلافات، وعشرات المرات كان عليه أن يكرر أمام المتخاصمين: «البينة على من ادعى»، أو «شاهداك قاتلاك» فى إشارة إلى المبدأ القانونى الإسلامى، أن من يشهد عليه اثنان أنه قتل نفسا، يقتل، وكان يستخدمها فى غرس أثر الشهود العدول، وليس فى القتل طبعا. وقد لاحظت منذ سنوات وأنا أقرأ فى سيرة حياة المفكر الأزهرى الرائد خالد محمد خالد، أن كثيرا من مفردات هذه الذخيرة، التى كان يتمثل بها والدى، كان يقول بها المفكر الكبير فى ثنايا عرضه لمسيرته، مما يشير إلى أن نبهاء الأزهريين حملوا هذا الزاد إلى مدنهم وقراهم. ولابد أن المقدرة على استدعاء عبارة أو بيت من الشعر أو قول مأثور، مقدرة فيها مزيج من الموهبة والجهد المبذول، ولابد أن المعجم الهائل، الذى راكمه فى ذاكرته، على مر الأيام، كان يتلقاه فى البداية عفو الخاطر، ولكن اختيار ما يتوقف عنده، وتحتفى به ذاكرته، هو من أسراره الخاصة، أو من أسرار النفس الإنسانية بإمكانياتها الهائلة.
ربما لهذا كان يكرر - نقلا عن شيوخه - أن «العلم فى الراس وليس فى الكراس» أى فيما يستوعبه المرء.
وهناك قول عربى شهير «العلم تذكُّر» وهذا المعنى يراه بعض الباحثين عنصرا رئيسيا فى بنية الفكر العربى، ويرى آخرون أنه يكبت القدرة على الإبداع، ولكن هذا ليس موضوعنا الآن.
ولابد أنه كانت لديه مصادر عديدة، ينتقى منها هذه اللآلئ: القراءة والسماع والملاحظة، وكانت هذه المصادر متجددة، لم تتوقف عند التراث، فقد كان يضيف إليها، ما تفيض به الصحف، فى المقالات والمعارك الأدبية والسياسية، فتعبير «تساوت الرءوس» نقله عن أحد السياسيين أثناء السجالات.
ولكنه كان يستصفى هذا المعجم، ويبقى ما يعبر عن ذائقته الخاصة، لم أسمع منه إلا هو «انصرافا ولو إلى النار»، وهو وصف من التراث، لموقف البشر يوم الحساب أمام الله، وكيف أنه موقف انتظار عسير، إلى درجة أن المنتظرين سيقولون «انصرافا ولو إلى النار»». والموقف الذى شهدته، فى الخمسينيات من القرن الماضى، وأعتمد فيه على هذا المعنى، كان بعد جنى محصول القطن.. وتلكأت الجهة المسئولة عن استلامه فى القيام بهذا، إلا بشروط رآها الفلاحون ظالمة، وطالت المفاوضات وقناطير القطن مكدسة فى الحقول، فرأى هو الموافقة على شروط البنك، وشرح لزملائه، لقد وضعونا فى موقف لا نملك إلا أن نقول فيه «انصرافا ولو إلى النار».
وإذا كان التراث يزخر بالنصائح التى تدعو إلى التريث وضبط اللسان، واختيار الكلمة المناسبة، فلم أسمع إلا منه هو، الحديث المنسوب إلى الرسول، عندما قالت السيدة عائشة كلمة رآها جارحة فى حق السيدة خديجة، إذ قال لها: «لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته».
وكان إلقاؤه للعبارة التى تشرح الموقف الماثل، تأتى فتبدو واضحة بذاتها، دون تفسير، كنت طفلا عندما سمعته بين أصدقائه ورفاق طريقه، وكان الحديث يدور حول شخص معين، فقال لهم: «أكرموا عزيز قوم ذل»، فهمت المغزى بسهولة، رغم أننى أسمعه لأول مرة، وكذلك بقية الحاضرين. وعلى نفس المنوال نستمع إليه وهو يستشهد:
لا تبخسوا الناس أشياءهم - العلم القليل هو الخطر العظيم - داروا سفهاءكم - وفوق كل ذى علم عليم - لا يكلف الله نفسا إلا وسعها - خير البر عاجله - معظم النار من مستصغر الشرر - رمية من غير رامٍ - أول القصيدة كفر - رب ابنك سبعا وعلمه سبعا وصاحبه سبعا ثم اترك حبله على غاربه - لا يعرف الفضل من الناس إلا ذوو الفضل - الناس معادن - لعل لأخيك عذرا وأنت تلوم - أهل مكة أدرى بشعابها - الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها - ما جعل الله لرجل من قلبين فى جوفه - اتقوا فراسة المؤمن - إن الطيور على أشكالها تقع - والناس من يلق خيرا قائلون له ما يشتهى.. ولأم المخطئ الهبل - سبق السيف العزل - لكل مقام مقال - لا تزر وزارة وزر أخرى - إياك أعنى واسمعى يا جارة - كل العداوات ترجى إزالتها.. إلا عداوة من عاداك عن حسد».
نقلت لك هذه العينة، من بين عشرات، كانت تخرج من قلبه إلى قلوب من حوله، تشير إلى السلوك القويم وبناء الإرادة والحس بالمسئولية.
إن أمثاله كانوا كثيرين فى القرى المصرية، كالمصابيح الهادية، قبل أن تتولى هذه المهام وسائل الاتصال والإعلام وقنوات تملأ السماوات.
لقد قاموا بواجبهم، بأفضل ما يكون القيام. •


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.