عشت الستة عشر عامًا الأولى، كلها، من حياتى، فى قريتى بصعيد مصر. وأول مرة أغادر فيها دروبها ومبانيها الطينية وشمسها ولياليها التى لا يبدد ظلامها إلا ضوء خافت شحيح، كانت سنة 1958، للالتحاق بالجامعة، وبداية طريق وعالم مختلف. كم تغيرت هذه القرية اليوم، تغيرا عاصفا، ولم تبق القرية القديمة، إلا فى أذهان القليلين الباقين، من ذلك العهد، الذى يبدو لهم اليوم مغرقا فى القدم. وتقدم السطور التالية، قطعة من ذلك الماضى، الذى لابد أن تمتد عصارة منه، فيما يلى من أيام وسنوات. وتدور تلك الذكريات، حول والدى - رحمه الله - وهو من مواليد سنة 1903، وحين تفتح وعينا، كان هو فى أربعينيات عمره، وفى قمة حيويته. ولكننا لم نتفهم مغزى الطريق الذى سار فيه، إلا بعد أمد. فقد التحق بالأزهر الشريف سنة 1923 أو 24، وكان عمره وقتها عشرين عاما. وهى سن متأخرة لبدء الدراسة، ولم أعرف الظروف وراء هذا الأمر. ولكنه لم يكن خلال تلك السنوات، التى عاشها فى قريته، بعيدا عن طلب العلم، فقد كان يسعى إليه حيثما تيسر، سواء فى مدينة قوص القريبة، أو فى قرية أبنود، حيث ذاع صيت الشيخ على الكريتى، الذى كان يلقى دروسه فى ساحة عائلة شاهين المعروفة فى قرية أبنود. فهو حين وصل إلى الأزهر، حيث لم تكن هناك معاهد دينية بالأقاليم، لم يبدأ من الصفر. وكان أحرص ما يكون على تعويض ما فاته، دون أى تهاون، فقد حصل على الشهادة الابتدائية الأزهرية، فى فترة أقل من السنوات الأربع المقررة، بل إنه حصل إلى جانبها على شهادة تتيح له التدريس فى المدارس الأولية - الابتدائية اليوم - كما أنهى دراسة كانت متاحة ليلا للراغبين، فى مدرسة خليل أغا لتحسين الخطوط وهى الوحيدة آنذاك التى تقوم بهذه المهمة، حفاظا على الخط العربى. واستعد لإنهاء المرحلة الثانوية، فى سنوات أقل من الخمس المقررة، وتقدم بطلب إلى الشيخ المراغى شيخ الأزهر، بهذا المعنى، ولكن الشيخ الفاضل اجتمع بأصحاب هذه الطلبات، وأبلغهم برفضه قائلا: نحن لا نعطى شهادات، نحن نريدكم أن تتضلعوا فى العلم، وتتعلموا من الحوار مع شيوخكم. العودة وبهذا اضطر للعودة إلى بلده، ليساعد أباه فى زراعة الأرض، فقد كان وحيد أبويه، وفضل العمل فى الأرض، على الوظيفة التى كانت متاحة أمامه، وفعلا نجح فى مضاعفة كمية الأرض وإنتاجها. وهذه المقدمة ضرورية، لتمهد للحديث عن واحد من الأدوار المهمة، التى قام بها بين صفوف أهل قريته، من الفلاحين البسطاء. فقد عاد إلى قريته، حاملا رسالة الشيخ محمد عبده فى الإصلاح الدينى، وهى التى حملها بعض تلاميذه من بعده، وكان من حسن حظه أن درس على أحد التلاميذ المباشرين للشيخ محمد عبده - الشيخ السمالوطى ربما. وتشبع بأهداف وفحوى هذه الرسالة التى كانت فى باطنها ثورة تريد أن تجعل من الدين أداة للتقدم والنهوض بالوطن، وليس مجرد طقوس. وكان طبيعيا أن يصطدم بالشيوخ القائمين على المسجد الكبير والوحيد بالقرية. ونجح فى بناء مسجد آخر، يخطب فيه الجمعة، ويلقى دروسا فى بعض المناسبات، ويدعو إلى كل ما كان الإمام محمد عبده يرى فيه إنقاذا للدين من أيدى الذين جعلوه وسيلة للتخويف والسيطرة على العقول وإنتاج التخلف. وسأتوقف فقط عند دور أراه مهما، وقد لا يحس أحد بأثره المباشر، ولا ينتبه إليه كثيرون. هذا الدور هو المجموعة من أبيات الشعر والآيات القرآنية والأحاديث النبوية والحكم والأمثال والكلمات المأثورة التى كان يتمثل بها، وتأتى فى الوقت المناسب وينطقها بوضوح، وحين تدوى فى الفضاء تبدو كأنها القول الفصل، تصل إلى قلوب السامعين، ولا يختفى صداها أو يتبدد فى الهواء أبدا. أتذكر وأنا طفل، سمعت منه حديثا منسوبا إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لا تسرف فى الماء ولو كنت على نهر جارٍ». وكان ذلك بمناسبة احتفال بتشغيل أول ماكينة رى أقامها فى القرية، وكان الأصدقاء والفلاحون يترقبون الماء المتدفق إلى قناة محفورة أمام فوهة الماكينة، ولمح عم أبوالروس وهو يتوضأ ويكبش من الماء الوفير بلا حساب، فذكر له الحديث السابق، ضاحكا. وبعد سنوات طويلة، سمعت عم أبوالروس، يستشهد بهذا الحديث، وهو الأمى، ينبه من حوله إلى عدم التبذير، حتى مع الوفرة. ولا أذكر كم مرة سمعت منه هذا البيت: ما حكَّ جلدك مثلُ ظفرك فتولّ أنت جميع أمرك ودائما يأتى البيت الحكيم فى موضعه تماما، وكأنه يشير بسهم إلى ما يجب أن يكون. ومن الطبيعى أن يتغلغل فى دمى. لم أدهش حين وجدتنى منذ أيام، أكرر البيت، على مسامع حفيدتى ليلى ذات الاثنى عشر ربيعا. العمدة وحين أصبح عمدة للقرية، كان عليه أن يفصل فى كثير من الخلافات، وعشرات المرات كان عليه أن يكرر أمام المتخاصمين: «البينة على من ادعى»، أو «شاهداك قاتلاك» فى إشارة إلى المبدأ القانونى الإسلامى، أن من يشهد عليه اثنان أنه قتل نفسا، يقتل، وكان يستخدمها فى غرس أثر الشهود العدول، وليس فى القتل طبعا. وقد لاحظت منذ سنوات وأنا أقرأ فى سيرة حياة المفكر الأزهرى الرائد خالد محمد خالد، أن كثيرا من مفردات هذه الذخيرة، التى كان يتمثل بها والدى، كان يقول بها المفكر الكبير فى ثنايا عرضه لمسيرته، مما يشير إلى أن نبهاء الأزهريين حملوا هذا الزاد إلى مدنهم وقراهم. ولابد أن المقدرة على استدعاء عبارة أو بيت من الشعر أو قول مأثور، مقدرة فيها مزيج من الموهبة والجهد المبذول، ولابد أن المعجم الهائل، الذى راكمه فى ذاكرته، على مر الأيام، كان يتلقاه فى البداية عفو الخاطر، ولكن اختيار ما يتوقف عنده، وتحتفى به ذاكرته، هو من أسراره الخاصة، أو من أسرار النفس الإنسانية بإمكانياتها الهائلة. ربما لهذا كان يكرر - نقلا عن شيوخه - أن «العلم فى الراس وليس فى الكراس» أى فيما يستوعبه المرء. وهناك قول عربى شهير «العلم تذكُّر» وهذا المعنى يراه بعض الباحثين عنصرا رئيسيا فى بنية الفكر العربى، ويرى آخرون أنه يكبت القدرة على الإبداع، ولكن هذا ليس موضوعنا الآن. ولابد أنه كانت لديه مصادر عديدة، ينتقى منها هذه اللآلئ: القراءة والسماع والملاحظة، وكانت هذه المصادر متجددة، لم تتوقف عند التراث، فقد كان يضيف إليها، ما تفيض به الصحف، فى المقالات والمعارك الأدبية والسياسية، فتعبير «تساوت الرءوس» نقله عن أحد السياسيين أثناء السجالات. ولكنه كان يستصفى هذا المعجم، ويبقى ما يعبر عن ذائقته الخاصة، لم أسمع منه إلا هو «انصرافا ولو إلى النار»، وهو وصف من التراث، لموقف البشر يوم الحساب أمام الله، وكيف أنه موقف انتظار عسير، إلى درجة أن المنتظرين سيقولون «انصرافا ولو إلى النار»». والموقف الذى شهدته، فى الخمسينيات من القرن الماضى، وأعتمد فيه على هذا المعنى، كان بعد جنى محصول القطن.. وتلكأت الجهة المسئولة عن استلامه فى القيام بهذا، إلا بشروط رآها الفلاحون ظالمة، وطالت المفاوضات وقناطير القطن مكدسة فى الحقول، فرأى هو الموافقة على شروط البنك، وشرح لزملائه، لقد وضعونا فى موقف لا نملك إلا أن نقول فيه «انصرافا ولو إلى النار». وإذا كان التراث يزخر بالنصائح التى تدعو إلى التريث وضبط اللسان، واختيار الكلمة المناسبة، فلم أسمع إلا منه هو، الحديث المنسوب إلى الرسول، عندما قالت السيدة عائشة كلمة رآها جارحة فى حق السيدة خديجة، إذ قال لها: «لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته». وكان إلقاؤه للعبارة التى تشرح الموقف الماثل، تأتى فتبدو واضحة بذاتها، دون تفسير، كنت طفلا عندما سمعته بين أصدقائه ورفاق طريقه، وكان الحديث يدور حول شخص معين، فقال لهم: «أكرموا عزيز قوم ذل»، فهمت المغزى بسهولة، رغم أننى أسمعه لأول مرة، وكذلك بقية الحاضرين. وعلى نفس المنوال نستمع إليه وهو يستشهد: لا تبخسوا الناس أشياءهم - العلم القليل هو الخطر العظيم - داروا سفهاءكم - وفوق كل ذى علم عليم - لا يكلف الله نفسا إلا وسعها - خير البر عاجله - معظم النار من مستصغر الشرر - رمية من غير رامٍ - أول القصيدة كفر - رب ابنك سبعا وعلمه سبعا وصاحبه سبعا ثم اترك حبله على غاربه - لا يعرف الفضل من الناس إلا ذوو الفضل - الناس معادن - لعل لأخيك عذرا وأنت تلوم - أهل مكة أدرى بشعابها - الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها - ما جعل الله لرجل من قلبين فى جوفه - اتقوا فراسة المؤمن - إن الطيور على أشكالها تقع - والناس من يلق خيرا قائلون له ما يشتهى.. ولأم المخطئ الهبل - سبق السيف العزل - لكل مقام مقال - لا تزر وزارة وزر أخرى - إياك أعنى واسمعى يا جارة - كل العداوات ترجى إزالتها.. إلا عداوة من عاداك عن حسد». نقلت لك هذه العينة، من بين عشرات، كانت تخرج من قلبه إلى قلوب من حوله، تشير إلى السلوك القويم وبناء الإرادة والحس بالمسئولية. إن أمثاله كانوا كثيرين فى القرى المصرية، كالمصابيح الهادية، قبل أن تتولى هذه المهام وسائل الاتصال والإعلام وقنوات تملأ السماوات. لقد قاموا بواجبهم، بأفضل ما يكون القيام. •