يوسف شاهين من أكثر المخرجين الذين يحبون أبطالهم.. لن أتحدث عن قيمته الفنية التى نفخر بها «محليّا»و«عالميّا»، لكننى سأتوقف عند مواقف معينة لمخرج لن تتكرر مع نجوم أفلامه، تعكس مدى إنسانيته ورقة إحساسه بدءًا من أصغر عامل لأكبر نجم. «التلقائى» تعتبر لبلبة نفسها محظوظة لأنها لعبت أدوارًا مهمة بفيلمين ليوسف شاهين بسنواته الأخيرة أولهما فيلم «الآخر»، ووقتها لم يكن هناك بينهما سابق معرفة، لكنه رشحها بعد مشاهدته لفيلمين من أهم أفلامها، الأول «جنة الشياطين» مع محمود حميدة والمخرج أسامة فوزى، والثانى «ليلة ساخنة» للمخرج الراحل عاطف الطيب. وعندما قرر ترشيحها لدور والدة حنان ترك «الشقيانة على ماكينة خياطة»، كانت لبلبة فى مارينا وفوجئت بتليفون من خالد يوسف يبلغها رغبة شاهين فى مقابلتها، ومن شدة فرحتها قالت له «غدًا» سأكون فى مكتبه، وبالفعل ذهبتْ له وهى فى كامل أناقتها وعندما دخلت مكتبه، كانت أول جُملة قال لها:«إيه ده أنا مش عاوزك كده»، فقلت له «من فرحتى حضرت كده»، وفوجئت به يقول لها ما لم تسمعه من أى مخرج آخر على مدار مشوارها الفنى: «خذى سيناريو الفيلم واقرئيه فى المكتب المجاور لى وإذا كنت جعانة هابعت أجيب لك أكل وشرب». وتتابع لبلبة كلامها: «طبعًا سمعت الكلام كالتلميذة دون التفوّه بحرف، وقبل انصرافى من أمامه قال لى دورك فى الفيلم هو (بهية)، وأعنى بها (مصر)، ومن حين لآخر كان يتوجه لغرفة المكتب الجالسة فيها ينظر لى ووجهه يضحك ولأنه حاسس بسعادتى، وبالفعل بعد انتهائى من القراءة والموافقة على العمل، قال لى: ارجعى مارينا وعند عودتك للقاهرة كلمينى». وأضافت: «وقتها يوسف شاهين كان فى مرحلة التحضير النهائية وبدأ يصور والمفروض إن أول يوم تصوير لى كان خارجى- شتاء والمشهد كان فرح ابنتى «حنان ترك» على «هانى سلامة» ووقتها كان يوسف شاهين يصور من مكان مرتفع وعلى مسافة كبيرة، وفوجئت بنزوله خصيصًا وقطع هذه المسافة ليخلع البلوفر الخاص به ويعطيه لى لإحساسه أننى أرتعد من البرد أثناء التصوير». وفى ثانى يوم تصوير للبلبة، كانت فى حجرتها تضع مكياج الشخصية التى تجسدها وفوجئت به يطلبها لديكور منزلها بالفيلم، وقال لها: «ده بيتك اجلسى فى كل ركن به لتشعرى به أثناء تجسيدك للشخصية»، وفى المشهد الذى جمع بين لبلبة وحنان ترك عندما قالت لها الأخيرة: «... وقابلته تحت المطر وحسيت بمشاعر يا أمى» فقالت لها لبلبة وهى تدمع: «انتى.! صحيح؟ وبيحبك؟». وتعلق لبلبة على هذا المشهد: «هذه الدمعة هى بداية حب يوسف شاهين للبلبة، لأنها لم تستسهل المشهد ولم تلجأ للجلسرين، ولإحساسه باجتهادها» وبعد انتهائها من تصوير الفيلم لم تنقطع اتصالاتهما المتبادلة، ومع كل لقاء جمعهما بعد هذا الفيلم كانت ترى حُبه لها فى عينيه. ولا يخفى على أحد تركيبة شخصية يوسف شاهين فإذا لم يحب أحدًا فهو لا يقترب منه على الإطلاق لكن مع لبلبة الأمر مختلف تمامًا فقد وجّه لها الدعوة على الغداء بعيد ميلاده وأكد لها أن زوجته «كوكوو» طبخت لها بنفسها الطعام وحرصت على خلوّه من اللحوم والفراخ لعلمها أنها نباتية، وبعد فترة بدأ يُحضر لفيلمه الجديد، وقال لها أريدك أن تلعبى دور زوجتى فى فيلم «إسكندرية- نيويورك»، وأثناء تحضيره توجّه لمارينا لمقابلة كمال الطويل ليضع الموسيقى التصويرية للفيلم وسأل أين منزل لبلبة، فأشاروا له وأعطاها (كلاكس)، وقال لها إنه فى انتظارها بمنزل كمال الطويل، لكنها لم تذهب وأعدت له وجبته المفضلة من سمك «الباربون» وعندما انتهى من لقاء العمل مع كمال الطويل توجّه لمنزلها، وبعد الغداء قال لها بمنتهى التلقائية ممكن أنام عندكم، فرحبت للغاية وأرسل سائقه لزوجته «كوكوو» بالعجمى لتعطيه (بيجامة) وأدويته وكل ما يحتاجه، لينام يوسف شاهين فى غرفة لبلبة بالدور العلوى وتنام هى ووالدتها فى الدور الأرضى من فيلتها. كان يوسف شاهين متعاطفًا للغاية مع لبلبة لأنها الوحيدة التى تتولى رعاية والدتها ولا يوجد رجل معهما، نظرًا لاستقرار أشقائها بالخارج، وكل الذين ارتبط بهم يوسف شاهين إنسانيّا حضروا عيد ميلاده الأخير ومنهم يسرا ولبلبة ويسرى نصر الله. « طفل يسرا» يسرا من أكثر النجمات اللاتى عملن مع شاهين، وأول لقاء جمعهما كان فى بداية الثمانينيات، وله حكاية شهيرة فى الوسط الفنى،حيث كان وقتها «جو» يختار أبطال فيلم «حدوتة مصرية»، ورشح يسرا ولم يكن قد شاهدها من قبل وعندما شاهدها وجهًا لوجه، قال لها: «أنت طويلة جدّا وشقراء» فردت عليه: «إيه المشكلة.. المفروض إن نور الشريف بطل أمامى وهو أيضًا طويل وعريض» فقال لها: «..وكمان (لمضة)».. المهم أنه أعطاها السيناريو لقراءته لكنها اعتذرت له فى خطاب بعدم فهمها لأى شىء بالسيناريو رُغم قراءتها له عشر مرات، فقال لها: «انتى حمارة» واعتقدت يسرا أن الموضوع انتهى باعتذارها عن الفيلم، إلا أنه فاجأها بعد ثلاثة شهور تقريبًا باقتحامه غرفة نومها ويوقظها ليختار من دولابها الخاص فساتين الشخصية التى ستجسدها بالفيلم، ومن هذه اللحظة حتى وفاته لم ينقطع الاتصال بينهما يوميّا. الطريف أن يسرا اشتغلت معه ثلاثة أفلام بعدها وهى بالترتيب «إسكندرية كمان وكمان»، «المهاجر» و«إسكندرية - نيويورك»، وفى «المهاجر» كان لشاهين معها موقف إنسانى لا يُنسى ولا أعتقد أن هناك مخرجًا فعل ما فعله معها وذلك باعتراف يسرا نفسها عندما رشحها يوسف شاهين لبطولة الفيلم، ووقتها كانت متزوجة من فادى الصفدى وحاملاً فى طفلها الأول، وكان ذلك كافيًا لاعتذارها عن الفيلم، وقد تَقبَّّل شاهين الأمر بل شجعها على الاهتمام بحملها إيمانًا منه بأن الأمومة لا يمكن تعويضها على عكس الفيلم الذى يمكن تعويضه بالعديد من الأفلام، ولإصراره على يسرا لتكون بطلة «المهاجر» قال لها حرفيّا: «سأنتظرك سنة تكونى وضعت طفلك وحصلت على قدر من الراحة»، وبالفعل وافقت يسرا على هذا العرض، إلا أنها فوجئت بمتاعب شديدة فى الحمل، ووقف شاهين - نفسه - بجوارها فى محاولة صادقة منه لاستمرار حملها، حيث رافقها فى رحلة علاجها بفرنسا، إلا أن الأطباء الفرنسيين نصحوها بإجهاض الجنين لخطورة استمرار الحمل عليها. «الدكتور» مَن تعامل مع يوسف شاهين يعرف جيدًا لماذا كان ناجحًا؟ «الصدفة» ليست فى قاموس عمله والنظام والتفانى بالعمل أساس النجاح، لم يكن شاهين يقلل من قدر أى فرد.. من أصغر عامل لأكبر نجم.. الجميع لديه يحملون القدر نفسه من الأهمية بأى فيلم، لذلك فمن الطبيعى جدّا أن ينعكس ذلك على من يعملون معه، فالجميع يعملون معه من قلبهم ويتحملون غضبه. وهناك بعض النماذج التى تدعم ما قلته، منهم حنان ترك ويسرا اللوزى..الأولى كانت فى بدايتها وبالتحديد فى بداية النصف الأول من التسعينيات، ووقتها كان شاهين يستعد لتصوير فيلمه «المهاجر» الذى لعبت بطولته يسرا وخالد النبوى ورشحها الأخير ليوسف شاهين لتلعب دورًا مهمّا به، ووقتها كانت تستعد حنان ترك لزفافها على خالد خطاب-ثالث أزواجها- وفى اليوم التالى لزفافها.. فجعت بوفاة والدها المفاجئ، مما دفع المحيطين بها لعرضها على طبيب نفسى، وخضعت وقتها لمهدئات شديدة فشلت فى إخراجها من حالة الذهول وعدم تصديقها أمر وفاته، إلى أن زارها شاهين بعد الوفاة بيومين وبأبويّة ساعدها على التخلص من جميع المهدئات التى كانت تتعاطاها، وتحدّث معها مؤكدًا لها أن والدها توفى وعليها التغلب على مشاعر الحزن من خلال العمل، وبالفعل وقفت حنان بعد يومين أمام كاميراته لتصور مشاهد شخصية «هاتى» بفيلم «المهاجر»، ومن وقتها أصبح لشاهين مكانة خاصة جدّا لديها لدرجة أنها أطلقت اسمه على أول أبنائها، ورُغم العلاقة الجيدة بينهما على المستوى الإنسانى فإن يوسف شاهين طرد حنان ترك من مكتبه عندما اعتذرت له عن أداء أى قبلات بأول أفلامها معه «المهاجر»، وعندما عرض عليها فيلم «الآخر»- بعد سنوات- خافت من تكرار غضبه وطرده لها مثلما حدث من قبل، وقبلت الفيلم بما يحتويه من قبلات بينها وبين هانى سلامة، وفيما بعد حرصت على التواصل معه إنسانيّا حتى بعد اعتزالها، ولآخر لحظة فى حياته كانت متواجدة بجواره فى المستشفى تقرأ له القرآن. «طفل كبير» يسرا اللوزى هى أصغر وجه جديد اكتشفه يوسف شاهين فى فيلمه «إسكندرية- نيويورك».. درست الباليه، وكان عمرها 16سنة.. تلميذة بمريلة المدرسة، ووقت اختيار يوسف شاهين لها ذهبت لمكتبه وظلت صامتة ترتعد من الخوف، ماذا يمكن أن تتحدث فيه فتاة بعمرها مع واحد من أهم مخرجى السينما يبلغ من العمر آنذاك 72 سنة !!، لم تنتظر كثيرًا،فقد بدأ هو بالحديث لتكتشف أنه أصغر منها بما يملكه من روح وطاقة غير عادية تفوق كل من هم فى عمرها، كان يحرص على تواجدها مع أحمد يحيى فى منزله ليشاهدوا أفلامًا بعينها بها حركات رقص معينة يريدها بفيلمه، فالمفروض أنها كانت تجسد بالفيلم دور حبيبته التى تعرّف عليها أثناء دراسته الجامعية بالخارج ، أمّا أحمد يحيى- راقص الباليه الأول بالأوبرا حاليًا- فكان يجسد شخصية يوسف شاهين الحقيقية بالفيلم، وكانت أدوارهما تحتّم عليهما التدريب على رقصات معينة بمعدل 3مرات فى الأسبوع، لم يكن مطلوبًا من يوسف شاهين سوى زيارتهما على فترات متباعدة لكى يرى مدى تقدمهما فى الرقصات المطلوبة منهما، خصوصًا أنهما أساسًا من دارسى الباليه بالأوبرا، لكنه حرص على التواجد معهما فى كل مواعيد التدريب وكان يشاركهما الرقص ويعلمهما حركات معينة، وقتها كان شاهين قد بدأ يشعر بالتعب وأخذ يسرا اللوزى وأحمد يحيى جانبًا ليوصيهما فى حالة عدم تمكنه من تصوير الفيلم لأى سبب عليهما الالتزام حرفيّا بنقل إحساسه الذى أبلغهما به فى تدريبات مشاهد الرقص. موقف يستدعى التوقف عنده كثيرًا.. يوسف شاهين بخبرته وتاريخه الغنى عن التعريف يوصى شبابًا لم يدرسوا التمثيل بشكل أكاديمى وفى أولى تجاربهم السينمائية بما يريده ويعاملهم معاملة نجوم كبار ويبدو أنه تسبب فى ضررهم كثيرًا بعدما علّمهم أن نجاحه ليس صدفة وأساسه «النظام» و«التفانى فى العمل»، على عكس السائد فى الأعمال الفنية حاليًا كافة.•