صاحب شخصية استثنائية، يفرض نفسه على كل من يتعامل معه عن قرب.. إذاعى بدرجة عبقرى، بمجرد أن تضع بين يديه فكرة صغيرة فى طور التكوين، يحولها بملكته الفريدة إلى حالة تميّز فى الفن والثقافة، ليكوّن أرشيفًا طويلًا من حكايات الإبداع. كامل البيطار، مصنع كبير من الأفكار المتميزة.. أفكار خلقت لنفسها تاريخًا لا يزال حاضرًا حتى اليوم «مسحراتى اليوم» و«مع العمال العرب» و«موال فى حب مصر» و«أضواء المدينة».. كلها برامج قدّمها للنور فى حب الإذاعة المصرية. تخرج كامل البيطار فى قسم الصحافة بكلية الآداب جامعة القاهرة، وأثناء دراسته كتب فى جريدة المساء، الذى كان يرأس تحريرها آنذاك، خالد محيى الدين، قائلًا: «الإذاعة بداخلى من صغرى، وتطور هذا الحلم معى حتى تحقق حلمى وأنا أدرس فى الجامعة.. فتأثرت بالراحل العظيم، جلال معوض.. عشقته بشكل لا يتصوره أحد». يحكى البيطار فى حواره لصباح الخير- عن سنوات العشق والنجاح داخل الإذاعة المصرية: «ذات مرّة وجدت إعلانًا يطلب مذيعين للعمل بالإذاعة، فشعرت أن القرار محسوم بالنسبة لى.. بالفعل دخلت الاختبارات بين 2268 شخصًا، وكانت الاختبارات التحريرية فى (اللغة العربية، والإنجليزية، والفرنسية)، ونجحت فى الاختبار التحريرى، أمّا الاختبار الشفوى فكان له حكاية كبيرة، كان عبارة عن ساعتين ونصف الساعة أمام لجنة من كبار القامات، بينهم عبدالحميد الحديدى، كبير مهندسى الصوت، يقيم الأصوات المتقدمة، والدكتور مهدى علام، عميد كلية الآداب بجامعة عين شمس.. والحمد لله نجحت وتم قبولى ومعى محمد الخولى وفؤاد فهمى، ضمن المتقدمين جميعًا». يسترسل البيطار: «بدأت التدريب بالإذاعة المصرية، وقبل مرور عام وقبل دخول شهر رمضان، عرض علىّ أحمد سعيد، مدير صوت العرب، فكرته (مسحراتى اليوم) وطلب منّى تسجيل 30 حلقة عن مسحراتى اليوم فى جميع أنحاء العالم الإسلامى، فجاءتنى فكرة الذهاب إلى الجاليات الإسلامية التى تدرس بجامعة الأزهر، كأوغندا وغانا وإندونيسيا.. وكان هذا البرنامج بداية لوضع أساس لاسمى فى عالم الإعلام المسموع، ثم بعد قرار تأميم الشركات عام 1962، عرض عليّ أيضًا أحمد سعيد، فكرة استغلال فترة راحة العمّال للغداء من الواحدة ظهرًا حتى الواحدة والنصف، لتقديم مادة خبرية عن أحوالهم، فاقترحت أن يكون البرنامج تحت اسم ما يطلبه العمّال، من خلال عرض أغانٍ محفزة على العمل والإنتاج، للمطربين محمد رشدى ومحمد قنديل وعبدالمطلب». فى البداية استعان البيطار- بالعديد من أصدقاء الجامعة، أمثال صلاح السقا وأبوبكر عزت ويوسف شعبان والضيف أحمد، لإرسال رسائل نصية للبرنامج، ولم يمر أسبوع واحد فقط، حتى فوجئ بأطنان من الرسائل الشخصية. مع العمّال العرب قدّم البيطار - بعد ذلك - برنامج (مع العمّال العرب) لمدة 9 سنوات، بشكل يومى من الواحدة حتى الواحدة والنصف، يقول: «زرت العمّال داخل مصانعهم، ودخلت ثلاجات حفظ الأسماك تحت درجات حرارة تصل إلى 20 تحت الصفر، وسجّلت ذات مرّة داخل أحد مصانع الحديد والصلب بحلوان أمام النار.. كنت فعلًا أشعر أننى أقدم شيئًا صادقًا للغاية.. كان من أهم البرامج فى حياتى الإذاعية». أيضًا استطاع البيطار- أن يقدم برنامج (ليالى الشرق) لمدة 5 سنوات، بعدما استمر فى تقديمه لسنوات طويلة، أمين بسيونى وحلمى البلك ووجدى الحكيم، يستكمل: «تعمدت اختيار أغانٍ من الحفلات والتركيز على أصوات جديدة، مثل على الحجار ومدحت صالح ومحمد الحلو، وكنت أول من قدّم عبدالرحمن الأبنودى على الهواء ثم بعد ذلك قدّمت برامج عديدة منها، همسات الليل، والجيوب أسرار، ومع كامل البيطار، وسهران لوحدى، والليلة وكل ليلة، وكلمتين فى دقيقتين». حال الإذاعة «الإذاعة كانت إذاعة بمعناها الرائع المشرّف، وليست تهريجًا كما يحدث الآن.. وما حدش يقولى إنها بتحقق نسب استماع كبيرة.. نسب الاستماع الآن ضئيلة جدًا، رغم كل السيارات الموجودة والزحام الكبير، وهذا بسبب غياب الفكرة الحلوة التى تجذب المستمع طوال الوقت» - هكذا يرثى البيطار - حال الإذاعة المصرية. يضيف: «الإذاعة ليست كما كانت، من وقت لآخر يقولون إن هناك تطويرًا لماسبيرو والإذاعة المصرية، لكن دون جدوى أو أى اهتمام.. الحال يبقى كما هو عليه.. أفكار قديمة ووجوه غير مستغلة، أنا لا أستمع إلى الإذاعة الآن، فليس هناك سامية صادق أخرى أو آمال فهمى جديدة، وليس هناك فهمى عمر ولا جلال معوض ولا همت مصطفى ولا صلاح زكى ولا أحمد سعيد ولا وجدى الحكيم ولا أمين بسيونى ولا عصمت فوزى.. كنّا نعمل 18 ساعة يوميًا بكل حب وشغف.. فمن هؤلاء الذين يقدمون البرامج الآن». يؤكد البيطار، أنه ليس كل من يتحدث فى الإذاعة أصبح نجمًا، الموضوع أكبر من مجرد الجلوس أمام الميكرفون، هناك مقومات عديدة نفتقدها الآن.. فالأصوات أصبحت رديئة والأفكار ليست طازجة، معزيًا ذلك: «لم يتم اختيار المذيعين الاختيار الصحيح على أسس سليمة، ولم يتلقوا التدريب الجيد، ليس هناك ابتكار فى الأفكار حتى أصبحوا نسخة واحدة طبق الأصل. تأثير الإذاعة يتذكر البيطار - أيام كانت فيها الإذاعة المصرية تتأثر وتؤثر فيمن حولها: «عندما سافرنا ومعى وجدى الحكيم وأمين بسيونى لحضور أول احتفال بعيد الثورة الجزائرية عقب اتفاقية إيفيان عام 1962، بصحبة عبدالحليم حافظ ومحمد عبدالمطلب وشريفة فاضل، كان استقبالنا يفوق الوصف وكان رد الفعل على وجودنا غير مسبوق.. هذا هو تأثير صوت العرب حينها». يستكمل البيطار: «عندما كان يتردد اسم فلان الفلانى المذيع بصوت العرب، يضرب لنا تعظيم سلام فى أى مكان، وقد فاق تأثير إذاعة صوت العرب، لدرجة أن القيادة الفرنسية شعرت بخطورتها وتأثيرها القوى، فمنعت بثها وضيّعت الموجة، وكذلك بعد الهجمة الشرسة التى تعرّضت لها مصر عقب اتفاقية كامب ديفيد، سافرت تونس والجزائر والمغرب وسجّلت حوارات مع المسئولين، كلها تؤكد مكانة مصر السياسية وإذاعتها الناعمة». موال فى حب مصر كان كامل البيطار، الصديق المقرّب للملحن بليغ حمدى، ويعرف كل الشعراء الذين يعملون معه. استغّل البيطار- هذه الصداقة، ليفكر فى برنامج يجمع العرب حول مصر، فكان «موال فى حب مصر» الذى تعاون خلاله بليغ حمدى مع العديد من الشعراء، ليسجل بصوته وعوده أغانى كثيرة فى حب مصر، خاصة وقت حدوث أى حدث سياسى. يقول البيطار: «كنت أشعر بالتفاعل مع الجمهور من وراء الميكرفون، لأن كل كلمة أقولها كانت تخرج من قلبى وعقلى.. ولست أدرى لماذا لا يذاع هذا البرنامج الآن». أضواء المدينة «أضواء المدينة، وليالى الشرق» كانا من أروع البرامج الموجودة فى الإذاعة المصرية، وتركا أصداءً عظيمة فى كل الدول العربية وتأثيرًا كبيرًا فى كل ما يحدث حول الوطن العربى، وصنعا حالة من الوحدة والانتشار. يحن البيطار - إلى بدايات عمله وذكرياته الآثره: «كنّا نتصادق باحترام، حتى علاقتنا بالفنانين آنذاك، كانت سلسة وبمنتهى البساطة والود والتقدير، لدى حنين كبير فعلًا للمحتوى الذى قدمنا لسنوات طويلة، ولا أجد الآن أصوات جيدة إلا فيما ندر، وإذا وجد الصوت المناسب والجيد، أجده يفتقد إلى المادة والإحساس». يتابع كامل البيطار: مصر لها كلمتها وتأثيرها وكيانها.. وكل العرب يعلمون قدرة المصريين على التأثير فيمن حولهم وكذلك فى انتقاء واختيار أفكار النجاح فى شتى المجالات.. انتبهوا أيها السادة.. أنتم فى موقف لا تحسدون عليه، ويجب أن تنظروا إلى الأمور نظرة أخرى.. يجب تقديم الأصوات القادرة على الابتكار والإبداع، وكذلك الاعتناء بالصوت الجيد والأداء الراقى». •