منذ ثلاث سنوات وفى ليلة صيفية شديدة الحرارة، اضطرتنى ظروف عائلية حزينة معقدة أن أنام فى فراش غريب فى غرفة بعيدة. بعد ساعتين من النوم العميق، استيقظت فزعة، العرق يغطينى، والدموع تملأ عينيى، والحزن يضغط على صدرى، وسؤال أين أنا؟ ماذا حدث؟ يزيد الوحشة. احتجت لثوانٍ أو ربما دقائق حتى أدرك مكانى وزمانى. مستلقية على ظهرى، ناظرة لسقف الغرفة، أتابع انعكاسات أضواء قادمة من خارج النافذة، ترسم أشكالا غامضة، وتحمل معها صوت وردة تغنى بمزاج عال (ولو إنك يا حبيبى بعيد أنا لى مع الشوق مواعيد)، تكرر الجملة بنغمات متعددة مختلفة لكل منها جمال وجاذبية خاصة. تدريجيًّا وببطء شديد انسابت النغمات من أذنى إلى صدرى، فاتسع صدرى وارتفعت فوق مشاعرى الكئيبة. عندما انتقلت وردة إلى (لو قال لى ع البعد وناره، وأنا أقول له عن ليلة العيد، عن طعم الأيام الحلوة، وحنين الموال والغنوة، والقلب اللى فى حبه سعيد). بدأت أشعر ببهجة خفيفة تتسلل إلى. نعم بهجة. استطاعت أغنية وردة أن تمنحنى بهجة غير متوقعة فى ليلة شديدة الكآبة. •••• مرت أيام انتهى خلالها الموقف العائلى الصعب. وانتهت موجة الحر وعدت إلى غرفتى. ثم استيقظت ذات صباح عادى أدندن نغمة (لو قال لى عن بعد ونار) اللاوعى يتذكر الأغنية ويذكرنى بها، ويتذكر لحظة البهجة ويبحث عنها. بعقلى الواعى بحثت عن أغنية وردة وسمعتها وأحببتها. وبعقلى الواعى جدًا راجعت نفسى. لماذا لم أكن أحب وردة طوال سنوات عمرى الماضى؟ لماذا قضيت أكثر من أربعين عاما محرومة من متعة الاستماع لوردة؟ بل لماذا كنت فى سنوات النصف الثانى من السبعينيات تحديدًَا أكرهها، ولا أطيق أن أستمع لأغانيها التى كانت تقتحم أذنى رغما عنى. كانت وردة أميرة الغناء فى السبعينيات، وكانت أغانيها تطاردنى فى كل شارع وكل سيارة أجرة وكل ميكروباص وحتى من راديو الجيران. وكنت أكرهها!! •••• كنت طفلة عندما كان أبى يتكلم معى باستفاضة عن إعجابه بأغانى أم كلثوم التى لحنها رياض السنباطى تحديدًا. أتذكر بمنتهى الوضوح جلساتنا الليلية فى شرفة غرفته فى الدور الثامن، ليشرح لى كيف يعبر اللحن عن معنى كلمة (وانتبهنا) فى أغنية الأطلال، أو كلمة (نعم) فى أغنية أراك عصى الدمع، أو جملة وارجع وأسامحك تانى. علمنى أبى بوعى وقصد أن أحب أم كلثوم ورياض السنباطى، وفتح لى باب حب بليغ وشادية وفيروز بدون قصد فانطلقت وحدى أبحث عنهم. •••• فى النصف الأول من السبعينيات – امتلكت صديقتى المقربة جهاز تسجيل (كاسيت) متصل براديو. كان والدها يعمل فى ليبيا، وأهداها جهازا حديثا (وقتها) أبهرنا، فبدأنا لعبة التسجيلات. ما كانت تقوم به مرفت أمين فى فيلم زوجة رجل مهم مع أغانى حليم، كنا نقوم به - صديقتى وأنا – مع أغنيات فيروز، مساء الأربعاء من كل أسبوع ندير مؤشر الراديو بحثا عن إذاعة عربية - لا أتذكر اسمها الآن – تخصص ساعة لأغانى فيروز، ونجهز شريط كاسيت جديدا ونقوم بالتسجيل ثم نظل طوال الأسبوع نفسر الكلمات اللبنانية ونكتب الأغنية ونحفظها. أهدانا صديق أردنى شريط كاسيت مسجل عليه مسرحية لولو فكدنا نفقد عقلنا من كثرة ترديد (من عز النوم بتسرقنى تهرب لبعيد وتسبقنى). •••• هل يمكن لمراهقة علمها أبوها أن تحب الأطلال وآراك عصى الدمع، وعاشت فى أغانى فيروز وبها أن تحب وردة وتستمتع بها، نظريا – لا مانع، وواقعيا – ممكن، بدليل أننى أحببت وقتها (روح قل له يا قمر، فاكرنا ولا ناسى، ناسينا ولا فاكر ليالى السهر ما تقول له ياقمر). كانت كل محلات وأكشاك وشماسى وسيارات شاطئ العصافرة تذيع أغنية وردة وكنت أغنى معها بصوت عالٍ غير مكترثة بتعليمات أمى. إذن - المنطق يقول - إنه يوجد سبب آخر غير دروس أبى وتعلقى بفيروز هو ما كان يجعلنى أشعر بغصة عميقة عندما يصلنى صوت وردة يملأ الدنيا حول ب (من كتر حلاوة الأيام ونعيمى وسعدى بلياليك) أو ب (شفتوش يا ناس عاشقة بتحلف بالهنا أهو أنا). كنت أعتقد وقتها أن وردة سعيدة جدًا فى حين أن مصر حزينة، وأتصور أن كل هؤلاء الذين يتعمدون المبالغة فى رفع صوت أغانى السعادة والهناء، يفعلون ذلك للهروب من الاعتراف بأنهم حزانى.!! الآن أجد نفسى مندهشة من نفسى وقتها، لماذا تتصور شابة فى بداية حياتها الجامعية أن بلدها حزينة تحاول أن تخفى حزنها، بل تشعر هذه الشابة بالحزن المستمر تعاطفا مع بلدها، ثم يتطور الحزن تشعر بالاغتراب داخل وطنها، لأن أهله – أهلها يحبون سماع وردة العاشقة السعيدة، ويملأون الفضاء بصوتها؟! ربما – أحاول أن أجد تفسيرًا الآن – كانت وردة وأغانيها فى النصف الثانى من السبعبنيات مرتبطة عندى بالتغير الذى حدث فى مصر، عندما سيطرت قيم وثقافة الانفتاح الاقتصادى، وفرضت نفسها، وظهرت كبديل قوى لكل أحلام الستينيات المجهضة. هل هذا التفسير مناسب؟! هل كنت أكره الانفتاح فكرهت وردة؟ ربما. فى النصف الأخير من السبعينيات كان تصورى عن نفسى أننى خلقت مؤهلة لتقديم عمرى كله ثمنًا لتغيير مصر!! نعم هكذا كنت أنا المراهقة الحالمة الضعيفة جسمانيا والقوية نفسيًا، كنت أعتقد أننى قادرة على تغيير الدنيا!! وكانت أغنيات وردة الأكثر شعبية وانتشارا وقتها جزءا من هذه الدنيا التى سأغيرها، وبالتالى كنت أكرهها! ربما. الآن وبعد أكثر من أربعين سنة من زمن تألق وردة الجماهيرى أسمعها فأشعر بالبهجة. وأبحث عنها بحثًا عن الروقان والمزاج الجميل. واقرأ عنها لأكتشف أننى خسرت عندما لم أتابع أجمل وأغرب قصة حب معلنة وموثقة بالأغانى. خسرت كثيرًا لأننى لم أذب عشقا مع نظرات بليغ وهو يتبادل معها غناء (كل غنوة ع الفرح كانت ع الجرح كانت ع الصبر كانت ع الحب كانت كتبتها وقلتها كانت عشانك). فى أول لقاء لهما بعد فراق «سنين» لم تفرقهما ولم تغيرهما، ولم تذب فيهما الحنين. ولم أبك مع صوته الباكى وهو يغنى لها - فى شريط مسجل أرسله مع ورقة الطلاق من باريس- (بودعك وبودع الدنيا معك، جرحتنى، قتلتنى، وغفرت لك قسوتك، بودعك من غير سلام ولا ملام ولا كلمة من تجرحك، أنا أجرحك ؟ أنا؟ باسم الآلام ارحل أوام، حبى الكبير هيحرسك فى سكتك الله معك). •••• كام سنة ؟ كام سنة؟ ضاعوا مننا. مرت سنوات السبعينيات بحدتها وبراءتها وقوتها، وبقيت وردة.•